هذا المقال بعنوان: ”الأكاديمي الملهم جان بياجيه” هو الرابع من سلسلة مقالات حول إطلالة على نخبة من علماء التربية الأجانب، ينشرها الدكتور إيهاب إبراهيم السيد محمد حصريا على صفحات تعليم جديد.، تجدون المقال الثالث من هنا. تجدون المقال الثاني ”طاغور : مؤسس النهضة التربوية الهندية” من هنا.
المقال الأول: “مؤسس الأكاديمية الأولى أفلاطون” من هنا
لقد كافح جان بياجيه طوال حياته ضد المؤسسات والتحيزات الفكرية في زمانه وربما أيضًا ضد الاهتمامات الروحانية والمثالية، التي شغلته في شبابه، من أجل الدفاع عن المنهج العلمي والنهوض به وجعله نهج في التفكير. حقًا إنه بالفعل نعم المثل للأكاديمي الملهم. وسرعان ما جذبته متعة البحث العلمي، ودقته بدافع من والده “ذي العقل النقدي المتشدد” الذي لم يكن يحب التعميمات المتسرعة، وبعد أن كان قد تدرب في سن مبكرة على دقة الملاحظة الطبيعية على يد مدير متحف التاريخ الطبيعي. وخاض وهو مايزال تلميذ، معركة المجابهة العلمية الدولية فيقول بياجيه عن نفسه” إن هذه المعارك المتمثلة في الدراسات، المبكرة جدًا قد كانت جزيلة الفائدة في إعدادي العلمي خير إعداد، وكانت إذا صح التعبير، أشبه بأدوات حماية ضد شيطان الفلسفة، فبفضلها قُدر لي أن أدرك الماهية الحقيقية للعلم وما يمثله قبل أن أعاني من أزمات المراهقة الفلسفية، ولا شك أن تجربتي المبكرة بأنواع متعددة من الإشكاليات قد شكلت الدافع الخفي لنشاطي اللاحق في علم النفس”.
هذه القناعة التي ترسخت يومًا بعد يوم قد حكمت الخيارات الأساسية التي اعتنقها بياجيه في عشرينيات القرن الماضي، والتي لم يعدلها فيما بعد، سواء في مجال علم النفس الذي عقد العزم على دراسته، أو في مجال السياسة الأكاديمية التي إنبرى إلى الدفاع عنها، أو من الالتزام الذي قطعه على نفسه، في مواجهة مشكلات التربية، في ما يخص علم النفس فقد كتب يقول” لقد حملني ذلك على اتخاذ قرار بتكريس حياتي للتفسير البيولوجي للمعرفة “. أما في ما يتعلق بعمله كباحث وأستاذ جامعي، فقد كان شاغله الدائم الذي حرك وألهم عمله وحياته كلها إقناع زملائه، اختصاصيي العلوم الفيزيائية والطبيعية، بأن لعلوم الإنسان وبخاصة علم النفس، طابعًا لا يقل علمية عن تخصصاتهم.
وأما فيما يتعلق بقناعاته ومنهجيته في ميدان التربية، فقد قاده ذلك طبيعيًا إلى اعتبار مبدأ مشاركة التلميذ الفاعلة داخل حجرات الدراسة على أنها الطريق الأصح والمفضل نحو تطبيق النهج العلمي في المدرسة. وهكذا ابتعد بياجيه عن الاستيطان الفلسفي ورحل إلى باريس ليعمل كباحث في المختبرات التي أسسها عالم النفس الشهير بينيه. وهناك اكتشف للمرة الأولى الغنى المدهش لفكر الأطفال، وفي داخل هذه المعامل أيضًا رسم المخطط الأول لطريقته النقدية، التي سيطلق عليها أحيانًا الطريقة السريرية في استجواب الأطفال الصغار، انطلاقا من توليفة فريدة للتعاليم التي كان قد تلقاها لتوه من أساتذته.
وواقع الحال أن فرادة طريقة بياجيه في استكشاف وتفسير فكر الأطفال ترتكز في الواقع إلى المبدأ المنهجي القائل بأن مرونة ورهافة المحادثة بالعمق التي هي ميزة الطريقة السريرية، ينبغي أن تشكلاً عبر البحث المنهجي يقينًا حتميًا للوصول إلى علاج للمشكلات التي يعاني منها الأطفال. ولكن بياجيه كان يستجوب أطفالاً مرضى من داخل المستشفيات، ولم يبدأ في دراسة الطفل في إطار حياته ” الطبيعي” وبخاصة في المدرسة، إلا عندما ذهب إلى جنيف في معهد جان وأصبح هذا المكان ميدان بحثه الرئيسي.
وأغلب الظن أن عمله في معامل علم النفس الخاصة بعالم النفس الشهير بينيه هذا المكان المميز للتربية الحديثة، ثم مدارس جنيف الابتدائية وقتئذ قد أتاحت لبياجيه أن يتبين الهوة التي غالبًا ما كانت تفصل بين القدرات الفكرية غير المتوقعة التي اكتشفها لدى الطفل من جهة، والممارسات التربوية الرائجة بين معلمي المدارس الرسمية من جهة أخرى.
أولى جان بياجيه التربية الحديثة أهمية كبرى، فكان لا يتردد في إعلان أن التربية وحدها قادرة على إنقاذ مجتمعاتنا من الانحلال الممكن، فأي مشروع تربوي يستحق من وجهة نظره، أن نكافح من أجله، واثقين من نجاعة النتائج. مدرسة بدون إكراه إذن، يقوم فيها التلميذ بالاختيار والتجريب ليبني بنفسه ما ينبغي تعلمه، هذا هو المخطط الأولي لمشروع بياجيه التربوي، ولكن التلميذ يجب أن يتعلم الاختيار والتجريب وهذا الأمر يجب أن يوكل إلى المعلم. لن يكون في المدرسة المثالية لبياجيه كتب دراسية إلزامية بل مؤلفات مرجعية تستخدم بحرية وعند اللزوم. بيد أن مبدأ التربية الفاعلة يمكن تطبيقه أيضًا على مجالات أخرى غير الدراسة في المدرسة، مثل تعلم اللغات الحية، كما يمكن تطبيق هذا المبدأ على تنمية الروح الدولية، من أجل مقاومة التشكك والصعوبات في العلاقات ما بين الشعوب.
أما فيما يتعلق بالعلاقة بين التربية وعلم النفس فإن بياجيه يبدي رأيه فيها من خلال “خطبه” أكثر منها في كتاباته الأخرى، أولاً إن العلاقة بيت التربية وعلم النفس هي برأيه علاقة ضرورية وهامة. أما فيما يتعلق بمواد التعليم، فإن بياجيه لا يتردد أيضًا عبر “خطبه” في إعطاء نصائح وإرشادات محددة، لا سيما في ما يخص تدريس الرياضيات والمنطق الرياضي فيقول” بما أن الطفل يكون أكثر تطورًا على صعيد الحواس، أكثر منه تطورًا على صعيد المنطق الكلامي، فإنه ينبغي أن تقدم له مخططات عملية يمكن أن يرتكز عليها التعليم في المراحل الدراسية مستقبلاً. وبالتالي فإن تعليم مبادئ الرياضيات ينبغي أن يترافق مع تربية حواسية- حركية وموقفه في هذا المجال واضح لا لبس فيه ” الفهم الرياضي ليس مسألة استعداد فطري، عند الطفل، ومن الخطأ إذن اعتبار أن الفشل في الرياضيات مرده إلى نقص في الاستعداد”.
كذلك يولي جان بياجيه تدريس العلوم الطبيعية إهتمامًا خاصًا فيقول” إن الذين يدرسون، بحكم طبيعة عملهم علم نفس العمليات العقلية عند الطفل وعند المراهق يندهشون دومًا من الإمكانات والقدرات المتاحة، في هذا المجال لكل طفل طبيعي شريطة أن نوفر له وسائل التعلم النشط دون إرغامه على تكرارات سلبية تؤثر عليه وعلى أفعاله “. يوضح بياجيه أن الصلات بين البيداغوجيا والسيكولوجيا إنما هي صلات مركبة، فالبيداغوجيا فن بينما السيكولوجيا علم، ولكن إذا كان فن التعليم يقتضي استعدادات فطرية لا غنى عنها، فإنه بحاجة أيضًا إلى تطوير من خلال المعارف الضرورية حول الإنسان المطلوب تربيته. وبصورة أوضح، على مستوى البحث العلمي، يعتبر بياجيه أن البيداغوجيا التجريبية لا تستقيم ولا تستمر من دون إسهام علم النفس فيقول” إذا أرادت البداجوجيا التجريبية أن تبقى علمًا وضعيًا بحتًا، أي علمًا يقتصر على ملاحظة الواقع من دون السعي إلى تفسيرها، ويكتفي بقياس العائد أو المردود، من دون فهم أسبابه، فمن البديهي أنها لا تحتاج إلى علم النفس”. ولكن إذا شاءت البيداغوجيا التجريبية أن تفهم وتفسر ما تكتشفه، وان تفسر العائد الذي تلاحظه، وان تبين الأسباب التي تجعل بعض الطرائق أكثر فائدة وفاعلية من طرائق أخرى، بات من الضروري أن نربط البحث التربوي بالبحث النفسي أي نلجأ باستمرار إلى علم النفس التربوي، دون الاكتفاء بقياس العائد الذي تكشفه البيداغوجيا التجريبية.
ولكن إذا كانت الصلات بين علم التربية وعلم النفس صلات مركبة،فإن الحوار بين المربين وعلماء النفس ليس بأقل تركيبًا وتعقيدًا،ويذهب بياجيه إلى حد إقتراح إرشادات استراتيجية لذلك الحوار. ويقول بياجيه أنه يجب ألا تغيب عن بالنا أبسط القوانين النفسية وهي أن ما من كائن بشري – ولا سيما المربون – يحب أن يتلقى دروساً من الغير. ويعرف علماء النفس منذ زمن بعيد أنه، في تعاملنا مع المدرسين والإداريين، يجب ألا نظهر بمظهر من يفرض مذاهب سيكولوجية بل أن نتصرف وكأننا نوجه فقط إلى الأداء الأفضل. ولكن، إذا أمعنا التفكير نجد هنا أيضًا المبدأ التربوي الأساسي الذي يدين به بياجيه ” لقد وثقنا بالقيمة التربوية الخلاقة للتبادل الموضوعي واعتقدنا أن المعلومات المتبادلة والفهم المتبادل لوجهات النظر المختلفة من شأنها أن تولد الحقائق”. وابتعدنا عن الوهم الخادع للحقائق العامة لنؤمن بتلك الحقيقة المحسوسة الحية التي تتولد من النقاش الحر ومن التنسيق التلمسي الشاق بين منظورات مختلفة وأحيانًا متعارضة. وهذا المبدأ لا ينحصر بحقل الأعمال التربوية فحسب، إنه من وجه نظر بياجيه الشرط الضروري لكل عمل علمي وهو المبدأ الضابط لكل نشاط بشري وقاعدة حياة كل إنسان نبيه.
بهذه الروح تابع جان بياجيه على إمتداد سنوات طويلة المشروع الكبير الذي كان يراود فكره منذ بداية حياته المهنية وهو أن يتمكن من تأسيس”علم أجنة العقل” وهكذا ومن خلال دراسة تطور العقل منذ الطفولة الأولى، عبر مقاربات وطرائق متنوعة وعبر المجابهة بين علماء من آفاق وتخصصات مختلفة، توصل بياجيه إلى صياغة فرضيته الشهيرة بوجود ” تواز” بين عمليات تكوين المعرفة الفردية وعمليات تكوين المعرفة الجماعية أي بين نشوء العقل وتطوره وبين تاريخ العلوم. وقد أثارت هذه الفرضية مجادلات ومناظرات حادة تخطت حدود منطقة جنيف ومجال علم النفس بالذات، ولكنها كانت جزيلة الفائدة من الناحية الاستكشافية، فلقد كانت مصدر روحي وإلهام للإنتاج العلمي الضخم الذي قام به المركز الدولي للأبستمولوجيا الوراثية هذا المركز الذي جُمعت أعماله في ذلك الوقت بسبعة وثلاثين مجلدًا. كما كانت في أصل الانطلاقة الجديدة التي اتخذها الجدل الاساسي حول تربية بياجيه على المستوى الدولي لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان جان بياجيه عالم النفس قد قدم للمربي سلسلة هامة من الوقائع التجريبية الداعمة للطرائق الفاعلة تلك الطرائق التي نادى بها كثير من علماء التربية، ومن خلال أعماله حول مراحل نمو العقل، كان قد حث المربين على تنوع تدخلاتهم التربوية على نحو أفضل مع مستوى التقدم الذي بلغه التلميذ. وهنا بياجيه الإبستمولوجي يدلي بوجهة نظر أخرى مقترحا عدم التركز على النلميذ، وعلى مستواه وصعوباته ومهاراته الخاصة وإيلاء انتباه أكبر للسياق الثقافي ولمختلف المسيرات والخطوط التاريخية للمفاهيم التي يراد دراستها أو يراد تدريسها. وبالتحديد فإن المسلمة الأساسية للإبستمولوجيا النفسية الوراثية القائلة بأن تفسير أي ظاهرة طبيعة كانت أم نفسية أم اجتماعية، ينبغي البحث عنه في تكوين هذه الظاهرة بالذات وليس في مكان آخر. إن هذه المسلمة قد أسهمت في إعطاء دور جديد للبعد التاريخي، سواء في الممارسات التربوية أو في التفكير حول التربية، فكل نظرية وكل مفهوم وكل شئ من صنع الإنسان كان في الماضي عبارة عن إستراتيجية، وعملاً وحركة ومن تلك المسلمة الأساسية، ولدت قاعدة تربوية جديدة مفادها أنه،إن كان على المرء أن يفهم جيدًا ليتعلم جيدًا،فإن عليه ليفهم جيدًا أن يعيد بنفسه بناء الشئ أو المفهوم المقصود. إن هذا المبدأ يمكن أن يطبق على موضوع المعرفة وعلى الذات العارفة سواء بسواء.
رأى بياجيه أن للثقافة اتجاهات كثير يمكننا التوقف عند إتجاهين رئيسيين هما:
- الاتجاه الأول ينظر إلى الثقافة على أنها صرح ينبغي بنائه تدريجيًا وفق نهج مبرمج.
- الاتجاه الثاني ينظر إلى الثقافة على إنها أشبه بشبكة تتميز ببعض المرونة وبقدرة تنظيم ذاتي.
إذا كان بياجيه عالم النفس، قد ترك بعض الأثر على الممارسات التعليمية وإذا كان بياجيه سياسي التربية قد أسهم بالتأكيد في النهوض بحركات التنسيق الدولي في مجال التربية فإن بياجيه الإبستمولوجي يمارس حتى اليوم تأثيرًا واضحًا على الأعمال التربوية.
المراجع:
1- Denoel,(1969) Psychologie et Pedagogia , Paris.
2- Denoel,(1972) Ou Va L education? , Paris
3- Universitaires de France,(1974) La Prise de conscience Paris.
4- Universitaires de France,(1974) Reussir et comprendre Paris.