{الجميل هو ما هو جميل في ذاته وليس خاصية مرتبطة بالأشياء والكائنات والسلوكات}*. يمكن الانطلاق من الأطروحة هذه لسقراط للبحث في موضوع الجمال باعتباره فرعا من فروع الفلسفة، حيث يمكن فهم الجمال انطلاقاً من هذه القولة على اعتباره هو ذلك الشيء الذي نراه على أنه جميل وأُعْجِبَت به حواسنا بعد تلقيه. وقد نُصنف الجمال ضمن خانة الصفات التي تميز الأشياء والتي تجعلنا نقول: إن ذلك الشيء جميل. لكن استعمال كلمة الصفات قد يبدو متناقضاً مع ما سأقدمه هنا، فاستعمال هذه الكلمة لا يشفي الغليل وسنرى هذا الأمر لاحقاً من خلال محاور هذه المقالة، لهذا أدعوك عزيزي القارئ إلى التركيز معي جيداً أثناء قراءتك لهذه المقالة والتي أتمنى أن تفيدك ولو قليلاً.
ما الداعي إلى دراسة الجمال فلسفيا في عصرنا هذا؟
ما معيار الحكم على الشيء بأنه جميل، أو ليس جميل؟
وما هي العلاقة بين الجمال والحب؟
وهل هناك علاقة تربط الجمال بالصفات والمميزات؟
أولاً: الداعي إلى دراسة الجمال فلسفيا في هذا العصر
حاولت البدء بهذا المحور أولاً كونه محورا مهما للقارئ من أجل فهم ضرورية مقاربة الجمال فلسفياً في عصرنا هذا، وكي يتمكن من فهم ما تبقى من المحاور في مقالتي هذه، وكذا كي تستطيع عزيزي القارئ أن تطبق مقتضيات هذه المقالة في حياتك اليومية عند مصادفتك لكل الأشياء التي قد تود وصفها بجميلة ويكون لديك معيار للحكم على الأشياء بأنها جميلة.
موضوع الجمال هو موضوع تم البحث فيه فلسفيا منذ القدم، ولكن على المستوى العربي لم ننتج كثيراً في هذا الموضوع الذي كان لا بد من البحث فيه فلسفياً مراراً وتكراراً، فاستحضار موضوع الجمال فلسفياً داخل الأوساط العربية يمكن من التفتح والازدهار مستقبلاً في العديد من الجوانب.
ففي حياتنا اليومية من خلال ما نراه عند بعض الناس من حولنا أو على مواقع التواصل الاجتماعي نجد أن هذا الموضوع لا زال فيه البعض من اللبس، فعندما يرى أحد الناس شيئاً ويربطه بالجمال انطلاقاً من إحساسه الذاتي بأنه جميل يقول إنه ذلك الجمال مصدره صفة معينة في ذلك الشيء، بمعنى أن تلك الصفة هي المحدد الأساسي للجمال في ذلك الشيء، لكن إذا أخذنا تلك الصفة وأعطيناها لشيء آخر قد يختلف رأيه. وهذا هو ما يفسر أن الحكم على هذا الشيء أو ذاك بأنه جميل ينطلق من الأذواق الذاتية عند كل شخص، وتختلف من شخص لآخر، على عكس تلك النظرة الجزئية الانطباعية التي تحصر الجمال في صفة معينة لشيءٍ ما، لهذه فالجماليات كفرع من فروع الفلسفة تحاول الانطلاق من هذه الآراء والنظرة الجزئية لدى بعض الناس إلى مستوى فلسفي أعلى وأرقى من التفكير.
ثانياً: معيار الحكم على الشيء بأنه جميل
الحكم على الشيء بأنه جميل والقول على إنه يتسم بالجمال، يعني أن هناك حكم ذوقي ذاتي يسلط الأضواء على ذلك الشيء ويعتبره جميلاً. لكن إعطاء صفة الجمال للأشياء تختلف من شخص لآخر على اعتبار أن الحكم على الأشياء بأنها جميلة هو ناتج عن علاقة بين الإدراك والإحساس الداخلي. فالإدراك هو عملية كالسمع والنظر ويأتي بعد هذه العملية إحساس داخلي قد يكون سيئا أو جيدا، إيجابيا أو سلبيا، متعة أو ألما، وبالتالي فمن خلال العملية الإدراكية الحسية يتم إدراك الجمال والإحساس بالجميل، وهو إحساس ذاتي قد يختلف من حين لآخر عند نفس الشخص وكذا يختلف من شخص لآخر.
لهذا عندما نقول أن ذلك الشيء جميل فإن ذلك يعني إحساسا ذاتيا يعبر عن ذوق خاص وليس عاما.
ثالثاً: علاقة الجمال بالحب
لتوضيح العلاقة بين الجمال والحب، سنحاول استحضار أطروحتين مهمتين موجودتين في كل من محاورة فيدروس * * ومحاورة المأدبة * * * لأفلاطون. لأفلاطون. هاتان المحاورتان ورغم مرور زمن على تأليفهما إلا أنهما عالجتا قضية الجمال في علاقته بالحب، وهذا ما سيتجلى من خلال إبراز أطروحة كل محاورة على حدة، بخصوص الجمال ومن تم معرفة علاقته بالحب.
ففي تعريف الجميل في محاورة المأدبة يرى أفلاطون أن الجميل هو الخيّر/ الطيب Le bon(بالفرنسية)، وبالتالي فامتلاك الخيّر يعني امتلاك الجمال وهذا منبع السعادة. لهذا فمحاورة المأدبة هذه تربط حب الجمال بحب الخيّر على اعتبار أن كلاهما محقق للسعادة.
هذا في محاورة المأدبة، أما تعريف الجميل في محاورة فيدروس فيتبين حسب أفلاطون أن الجميل يرتبط بتذكر عالم المثل، فالجمال حسب أفلاطون يتجلى في كل ما نحبه.
هنا لا بد من التذكير أن أفلاطون -وباعتباره يميل لما هو مثالي، عقلاني، رياضي -* * * *، وحبه لعالم المثل جعله يرى الجمال مرتبطا بتذكر عالم المثل.
وما نلاحظه في هاتين المحاورتين لأفلاطون أن الموضوع الرئيسي لهما هو الحب وليس الجمال، لكن الحديث عن الحب يجر المتحاورين بالضرورة للحديث عن الجمال.
لكل هذا نخلص أن هناك علاقة ترابط بين كل من الحب والجمال على اعتبار أن الشيء الذي يحبه الناس يرونه جميلاً حتى وإذ كان يبدو للآخرين سيئاً.
رابعاً: علاقة الجمال بالصفات والمميزات
من خلال إيجاد العلاقة بين الجمال والحب سنتمكن من فهم علاقة الجمال بالمميزات.
في محاولة فهمنا للعلاقة بين الجمال والمميزات المحددة لهذا الجمال سنجد أنه الجمال وباعتباره، كما سبقت الإشارة، يتجلى في كل ما نحبه يصعب تحديده بميزة أو خاصية عامة.
أي أنه لا توجد خاصية معينة نطبقها على جميع الأشياء وأينما وجدت هاته الخاصية وجد الجمال. بمعنى آخر، الحكم على شيء ما بأنه جميل يكون من الصعب التدليل على أن جمال ذلك الشيء يتجلى في صفة أو خاصية معينة توجد في ذلك الشيء.
حيث أنه، كما قلت سابقاً، إعطاء صفة الجمال للأشياء يختلف من شخص لآخر، لهذا كل شخص يرى الجمال في الشيء انطلاقاً من إحساسه بأن ذلك الشيء جميلٌ.
وكمثال للتوضيح أكثر بخصوص علاقة الجمال بالمميزات. عندما نسأل مشجع كرة القدم لفريق معين لماذا اختار تشجيع ذلك الفريق وليس فريق آخر سنجد أنه عاجز عن إعطاء سبب عقلاني منطقي وراء إعجابه وحبه لذلك الفريق.
فإذا قال إنه يشجع ذلك الفريق ومعجب به ويراه جميلاً لسبب أن ذلك الفريق يمتلك بعض البطولات فهذا سبب غير مقنع، فهناك فِرَق أخرى لكرة القدم لها ألقاب أكثر من الفريق الذي يشجعه وفي نفس الوقت ليس لها جماهير، وهناك أيضاً فرق ليس لها بطولات وألقاب ولها جماهير بعدد محترم.
لهذا إذا كان سبب إعجابه لذلك الفريق ورؤيته على أنه جميل هو أنه يمتلك بعض الألقاب والبطولات فيمكنه أن يذهب لتشجيع فريق آخر له بطولات أكثر.
وحتى إذا كان سببه وراء تشجيعه لذلك الفريق ورؤيته على أنه جميل كونه فريق المدينة فحالياً كل مدينة لها فرق كثيرة وبالتالي يمكنه تشجيع أحد الفرق الأخرى في المدينة، كما أنه هناك أشخاص يشجعون ويحبون فرق أخرى وهم ليسوا من المدينة التي توجد فيها تلك الفرق.
كخلاصة من خلال هذا المثال يتبين أن ربط الإعجاب والجمال في الشيء بخاصية أو صفة معينة التي قد يتضمنها ذلك الشيء هو أمر صعب جداً إلى حد كبير.
فرؤية الجمال في شيء معين يتم عن طريق تداخل للحواس والعاطفة والتي يرونها معظم الفلاسفة الباحثين أنها خادعة أحياناً ومتناقضة مع الاستدلال العقلاني.
ومن غير هذا المثال هناك أمثلة عديدة لا تعد ولا تحصى، والتي تبين مدى صعوبة التدليل على الشيء الذي يراه شخص معين أنه الجميل عن طريق الصفات التي يحتويها ذلك الشيء.
– خلاصة:
وفي الأخير كخلاصة عامة لموضوع الجمال في مقالتي هذه نخلص إلى أن الأذواق تختلف حسب عدة محددات، على اعتبار أن الذوق ملكة ذاتية متعلقة بالأشخاص وليس بالجماعات، ومصدره هو المعرفة الحسية بعناصرها الثلاث: الإحساس كفعل في هذه العملية، والحواس كفاعل، بالإضافة للمحسوسات كمفعول به في هذه العملية الحسية. وبالتالي فالشيء نراه جميلاً أولا انطلاقاً من علاقة هذا الشيء أو الموضوع بذاتيتنا، وليس عن طريق صفة أو خاصية تحددها الجماعة، وننطلق منها للحكم على الأشياء بأنها جميلة، فكم من شخص يعجب بأشياء قد يراها البعض منا على أنها سيئة، لكنه هو يراها جميلة، فهذا ناتج عن ذوقه وإحساسه الذاتي بجمال ذلك الشيء.
المراجع:
*: أرستو كليس بن ارستون، أفلاطون
“أفلاطون المحاورات الكاملة”، المجلد الرابع، محاورة “هبياس الكبرى”
ترجمة: شوقي داود تمراز.
الناشر: الأهلية للنشر والتوزيع.
سنة النشر: 1994.
**: أرستو كليس بن ارستون، أفلاطون
“محاورة فيدروس”
ترجمة: أميرة حلمي مطر.
الناشر: دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع.
سنة النشر: 2000
***: أرستو كليس بن ارستون، أفلاطون
“محاورة المأدبة”
ترجمة: وليم الميري.
الناشر: دار أقلام عربية
سنة النشر 2019
****: هناك الكثير ما يدل على انتماء أفلاطون وفلسفته لما هو مثالي عقلاني، لكن سأترك لكم رابط يمكنكم العودة إليه من ويكبيديا:
https://ar.m.wikipedia.org/wiki/أفلاطون