تشكل الوضعية-المشكل مدخلا أساسيا لكل درس كيفما كان نوعه، فلا يمكن لأي مدرس أن يشرع في إنجاز درسه دون البدء أولا بِمَوْضَعَتِهِ وَأَشْكَلَتِهِ، فوضع الدرس موضع مشكل هو ما يعد مدخلا أساسيا لمقاربة التدريس بالكفايات، حيث كان في السابق، مع مقاربة التدريس بالمضامين أو المحتوى، التركيز على المضمون والمحتوى Contenu وفحوى الدرس، من خلال التركيز على مجموع المعارف والأفكار والنظريات والكم المعرفي وفقط، حيث كانت الغاية هي إتمام الدرس من الناحية المعرفية، لذلك تجد الأستاذ هنا المالك لكمية من المعارف والعلوم والفنون يسابق الزمن لإتمام الدرس وبلوغ نهايته.
لكن مع بروز مقاربة التدريس بواسطة الأهداف، سيتغير براديغم التدريس Paradigme pédagogique حيث أصبحنا نتحدث عن تجزيئ وتقطيع للمعارف والعلوم والنظريات إلى أهداف قابلة للقياس Des objectifs observables et mesurables وبهذا تغيرت تماما وجهة نظرنا للدرس حيث لم نعد نركز على محتواه المعرفي بل أصبحنا نركز على تقسيمه وتجزيئه علاَّ هذا يساهم في إدخاله إلى ذهن المتعلم.
لكن سرعان ما آفل هذا البراديغم مع ظهور مقاربة التدريس بواسطة الكفاءات أو الكفايات Approche l’enseignement par les compétences هاته الأخيرة التي ستهمل الرائز المعرفي وتركز على الرائز الكفاياتي، هذا الأخير الذي ينطلق من افتراض وضعية-مشكلة أو وضع المتعلم في بَدَاءَةِ الدَّرْسِ في وضع مشكل، والذي يشير
“Dans le cadre scolaire, la situation-problème a une fonction précise : elle est au service des apprentissages. C’est à travers un ou plusieurs obstacle(s) à surmonter par les élèves que se réalisent de nouveaux apprentissages (Martinand, 1987).”[1]
حيث أن المشكل الذي يقترحه المدرس في بداية الدرس يصبح هو الدعامة والركيزة الأولى لبناء الدرس، وتحقيق التعلم الجيد والكفؤ الذي يخدم ومقاربة التدريس بالكفايات.
لهذا نجد أن فيليب ميريو يقدم تعريفا أكثر دقة وشمولا للوضعية-المشكل بوصفها المحطة الأولى التي يعمل المتعلم من خلالها على توظيف وتعبئة ما لديه من مكتسبات قبلية، حيث يقول :
C’est notre capacité à” concevoir des situations
problèmes mobilisatrices, organisées de telle manière que l’apprenant ne puisse pas contourner l’apprentissage, mais qu’il doive l’effectuer lui même…c’est à cette capacité-là que se mesure notre véritable efficacité didactique.” [2]
وهنا يلعب المتعلم دور الفَاعِلِ l’acteur أو المحور l’axe في العملية التعليمية التعلمية لا اَلْمُنْفَعِلِ Passif الذي يذوب Se dissout في الفعل التعليمي، وتمكنه الوضعية-المشكل من إرغامه على التعليم والتعلم الذاتي رُغْماً عنه.
أما عن التعريفات التي تقدمها لنا الوثائق الرسمية، وأخص بالذكر هنا وثيقة حول التكوين المستمر “ديداكتيك مادة الفلسفة وتقويم التعلمات”، الصادرة عن الوحدة المركزية لتكوين الأطـر يونيو 2009، حيث قدمت لنا تعريفا عَمَلِيّاً نجد فيه ما يلي : “تمثل الوضعية المشكلة لحظة بلوغ الفكر تناقضا أو تعارضا ينبغي حله حتى يمكن الاستمرار في التفكير على نحو يتجاوز ذلك التناقض. وهي وضعية نظرية تهم العلاقات بين الأفكار. والتناقض الذي يميز الوضعية المشكلة هو منطلق التفكير وليس نهاية له كما يبدو للوهلة الأولى. وهنا قد يكون المفهوم/التصور الأولي مجالا لبناء وضعية تتسم بالتناقض أو التعارض أو المفارقة، مما يحفز الفكر المتسائل ويفتح إمكانية صياغة أمثلة موجهة للتفكير ومشكلات تنخرط في سياق التفكير الفلسفي بمرجعياته وآلياته وضروراته المنهجية”[3].
وكملاحظة هامة هنا، نشير إلى أنه في درس مادة الفلسفة، لا يتوخى المدرس أثناء مرحلة الوضعية-المشكل في بداية الدرس حلَّ المشكل كما في باقي المواد الأخرى، أمثال المواد العلمية والتقنية الدقيقة : كالرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة والأرض والمعلوميات والتكنولوجيا… إلى آخره، أو حتى في المواد الأدبية سواء اللغوية : اللغات العربية، والفرنسية، والإنجليزية، والإسبانية، والألمانية،… ، أو حتى مادتي التاريخ والجغرافيا والتربية الإسلامية، وبهذا تصبح لمادة الفلسفة خصوصية لا نجد مثيلا لها في باقي المواد الأخرى، حيث لا تتوخى [أي الفلسفة] حلَّ مشكل، بقدر ما تتوخى إيجاد وتحديد المشكلات، ذلك أنها حسب كل من كارل ياسبرز وجون ديوي علم المشكلات بامتياز، وهذا موضوع آخر لا داعي لإثاره هنا، فما يهمنا الآن هو تحديد الوضعية-المشكل الذي نجد إضافة أخرى، أكثر حدة وتدقيقاً، حيث “تعتبر الوضعية-المشكل دعامة مشيدة لأغراض تعليمية بهدف تنمية كفاية معينة أو تقويمها. وتفترض بما هي وضعية، تفاعل ذات مع سياق ينخرط فيه المتعلم لأنه يعنيه بكيفية ما، كما تفترض بما هي مشكل، وجود عائق يخلق توترا معرفيا ويحث على التفكير والتأمل والوعي بالحاجة إلى تعلمات جديدة لمعالجة المشكل. لذلك فهي إطار للتفكير ومناسبة لبناء المفاهيم أو لاستثمارها في معالجة وضعيات جديدة”[4].
من خلال كل هذه التعريفات والتوضيحات، نكون قد استنتجنا أن الوضعية-المشكل هي بمثابة حالة أولى État initiale يفترض أن تكون مطلع كل درس، ثم أنها تلعب دورا جوهريا في خلق المشكل لدى المتعلم، وجعله يدخل في حالة عدم استقرار أو انعدام الثبات، فيدخل في أزمة فكرية ذهنية Crise intellectuelle هذه الأخيرة هي التي تخلق لديه نوعاً من التفكير في إيجاد أو اقتراح حل لهذه الأزمة التي أصابت مستوى التفكير-الذهني لديه، وتعمل كذلك على خلخلة مكتسباته وموارده المعرفية السابقة، فيعمل على توظيفها عبر تعبئتها من أجل المشاركة في إيجاد حل مناسب يتوافق والأزمة، لكن ما تجذر الإشارة إليه هنا أيضاً، هو أن الوضعية-المشكل لا تتم بطريقة عشوائية وتلقائية وعبثية بل تحتاج إلى كثير عناية ودقة ومجاورة، حيث يقترح فيليب ميريو Philippe Meirieu “لصياغة الوضعية المشكلة، الإجابة على الاسئلة التالية:
- ما هو الهدف المراد بلوغه؟ ماذا سَأُكْسِبُ التلميذ بحيث يمثل ذلك خطوة هامة في تدرج تعلمه؟
- ما هي المهمة اللازم اقتراحها والتي تتطلب بلوغ الهدف المسطر اذا ما انجزت بشكل جيد (تبليغ واتصال، إعادة صياغة، لغز، تصليح مشكل معين، اقتراح حل…؟)
- ما هي الوسائل التي يجب توفيرها حتى تسمح للنشاط العقلي، أثناء انجاز المهمة، بلوغ الهدف؟ ما هي الأدوات التي تستجمع والتعليمات التي تقدم لاستعمالها في تنفيذ المهمة؟ ما هي الصعوبات التي تدرج لمنع المتعلمين من التهرب من التعلم؟
- ما هي الأنشطة التي ستقترح بحيث تسمح باستخدام الوسائل والادوات وفق مختلف الاستراتيجيات؟ كيف يتم تنويع الوسائل والطرائق ودرجة التوجيه وأشكال التفويج؟” [5]
لهذا لا يجب على مدرسنا اليوم التسرع في إنجاز درسه دون البدء بصياغة وضعية-مشكلة من خلال الإجابة على هاته الأسئلة أعلاه التي اقترحها الخبير البيداغوجي الفرنسي فيليب ميريو، وذلك لأنه كما قلنا منذ بدايتنا الأولى أن :
La situation-problème est une introduction essentielle à l’approche de l’enseignement par compétences. ولهذا على مُدَرِّسِنَا المُعَاصِرِ أن يلتزم بهذا المدخل والمبدأ، لا أن يركز في درسه على المكون المعرفي الذي هو مكون أصبح متجاوزا ومتهافتا أيضًا في عصر ثورة كوبرنيكية عظيمة في المعلومات والمعارف والمباحث والعلوم والنظريات والفنون، فبِمُجَرَّدِ كَبْسَةِ زِرِّ على الأنترنت حتى نتوفر على كميات لا حدود ولا نهاية لها من المعلومات والخبرات والمعارف…، لهذا يجب إعادة النظر في طريقة تدريسنا لجميع المواد بغض النظر عن الوضعية-المشكل.
المراجع والمصادر:
[1]-Martinand (Jean-Louis). — Connaître et transformer la matière , [compte-rendu]
, Année 1987 , pp. 113-115.
[2]- Philippe MEIRIEU, Guide méthodologique pour l’élaboration d’une situation-problème
Apprendre … oui, mais comment? (Annexe1)
[3]- المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، التكوين المستمر، ديداكتيك مادة الفلسفة وتقويم التعلمات، الوحدة المركزية لتكوين الأطـر، يونيو 2009، ص 7.
[4]- نفس المرجع السابق، ص 13.
[5]- Philippe MEIRIEU : Situation problème , « Cahiers pédagogiques n° 263 » Avril 1988.
بداية الدرس بمشكلة هو في حد داته مشكلة.
هناك مقاربات أخرى أكدت فاعلياتها…
موضوع مهم جدا شكرا جزيلا