لا شك أن الإنسان قد مُيز عن غيره من المخلوقات بنعمة عظيمة وهي نعمة العقل التي جعلت من الإنسان السيد على هذه البسيطة رغم امتلاك بعض الكائنات من القوة والذكاء والسرعة و الجرأة أكثر مما يملك الإنسان، ولكن نعمة العقل جعلت هذا الأخير يتحكم في تلك الكائنات ويعمل على إخضاعها له ليس بقوة الجسد وانما بقوة العقل والتفكير.
و بهذه النعمة وهذا الاختيار أصبح من أولى مهام الإنسان أن يُعْمِل هذا العقل بما يخدم البشرية وسائر الكائنات التي وجدت على هذه البسيطة من خلال توظيف العقل و استخدامه في التطوير و الإنتاج وتوظيف الموارد الطبيعية بما يحقق التوازن في مكونات النظام البيئي.
فعلى مستوى العنصر البشري، ظهر التمايز في توظيف العقل و إعماله في عملية التعلم التي يتعلم من خلالها الأفراد المبادئ والأسس المعرفية والقيم والأخلاق والعلاقات الاجتماعية. فالتربية و التعليم هما من أهم العوامل التي ترسم معالم المجتمعات و الأمم، و تحدد مشاركة هذه المجتمعات في خدمة الإنسانية وتقديم إنجازات علمية و أدبية. فلا شك أن حجم الإنجاز العلمي والأدبي يجعل للأمم مكانة تختلف عن الأمم والمجتمعات التي تكون عالة على غيرها.
لذلك كانت هناك صرخة وحاجة لنا كأمة عربية و إسلامية، فقد قدم أسلافنا للعالم من أنواع الفنون و الاختراعات وعلوم الطب والهندسة والمعمار و الكيمياء و الفلك الكثير الكثير حتى قامت حضارات على هذه العلوم . و لنا أن نتساءل ما هو نتاج ما تقدمه مناهجنا و أنظمتنا التعليمية المعاصرة في مجال الاختراع والإبداع و الإنجاز العلمي للبشرية؟ و ما هي حصيلة إسهامنا كأمة عظيمة من بين الأمم في خدمة الانسانية؟
الإجابة بلا شك تستدعي منا دراسة واقع التعليم من حيث الإنجازات والإخفاقات و الوسائل والأهداف و الأنظمة ومكونات المنظومة التربوية، و دراسة واقع المدرسة و المعلم و إدارات التربية و التعليم و كليات التربية و أنظمة إعداد المعلمين، و دراسة المنهاج من حيث المحتوى والأهداف وطريقة العرض والأسلوب و أسس التقويم، و دراسة أنظمة التجارب الناجحة التي حققت إنجازات على مستوى الإبداع وعلى مستوى الاختراعات و رفاهية الأفراد و مجالات التنمية الاقتصادية و الاجتماعية للمجتمعات.
في الواقع، إن إحدى الإجابات عن هذه الأسئلة الكثيرة والكبيرة المشروعة في عملية النهضة التي نريد، تتمثل في أننا نحتاج إلى ثورة في التفكير حتى نحقق التغيير الذي نريد. هذه الثورة تستهدف المؤسسات التربوية في الوطن العربي و الإسلامي، وتغير طريقة التفكير في بناء المحتوى التعليمي بما يحقق تنمية مهارات التفكير، تغير طريقة إعداد المعلم من معلم مشرف و موجه لعملية التعليم و التعلم الى معلم محفز و منشط لعمليات التفكير و الإبداع، تغير أسس التقويم من معايير تهتم بالحفظ و الاستظهار إلى معايير تنمي عمليات العقل بالتفكير والإبداع.
يقول أحد المفكرين اليابانيين: ” إن الشعوب تعيش على موارد تدوسها أسفل أقدامها، أما نحن فنحمل فوق أكتافنا موارد دائمة لا تنضب وهي العقول “.
فالنظرة الحديثة للشعوب إذن هي نظرة تنمية العقول و الاستثمار في تنمية النشء و تطوير عقول الأجيال بمهارات التفكير و الإبداع لأنها موارد لا تنضب، أما الموارد الطبيعية مع أهميتها فهي موارد عرضة لأن تنضب وتنتهي.ونحن كأمة عربية و إسلامية، نعيش في مكان زاخر بموارد الطبيعة.
نحتاج في الحقيقة إلى ثورة جديدة نوظف من خلالها الاستثمار في إعداد وتوظيف البيئة التعليمية و المؤسسات التربوية و المؤسسات الإعلامية من أجل تطوير التفكير لأنه يعتبر خطوة نحو تغيير الواقع التعليمي ومخرجات العملية التعليمية، وهو ثروة دائمة متجددة مربحة لنا كأمة و للعالم بأسره.
ولعل السائل يسأل : لماذا التفكير؟
ينادي كثير من التربويين والباحثين بضرورة تدريس التفكير للطلاب كمطلب عصري تفرضه المتغيرات الحياتية المعاصرة لأنها لا تنمو بصورة تلقائية بالنضج والتطور الطبيعي، بل من خلال تعليم منظم هادف لهذه المهارات. فتعلم التفكير ينمي القدرة على التخيل والعمل العقلي و الصور الذهنية للمواقف ويكسب كذلك طرق مواجهة المشكلات وتقديم الحلول الإبداعية لها. فتعليم التفكير يعتبر ذا أهمية أكبر للطلبة الأذكياء لأن هذا الاهتمام بدراسة الشخص الذكي يعمل على تحويله إلى شخص مبدع، و تنمية العوامل التي تسهم في إبداعاته هي من أهم اهتمامات التعليم الحديث.
أصبحت تربية العقول المفكرة وتنمية التفكير الإبداعي غاية مستهدفة على مستوى المجتمع والتربية بمؤسساتها المختلفة و هدفاً مُهماً على مستوى مراحل التعليم المختلفة داخل هذه المؤسسات، و لعلنا نقف في هذه النقاط على تعريف التفكير و أهم خصائصه وما تأثيره على الأفراد و المجتمعات.
فالتفكير نشاط ذهني عقلي معرفي يستوجب إعمال العقل بعدد من العمليات المعقدة للإدراك والاستبصار و حل المشكلات بطرق إبداعية ونقدية وعلمية و منطقية.
ومن أهم خصائصه أنه سلوك هادف لا يحدث من فراغ أو بلا أهداف، سلوك تطوري يزداد تعقيداً مع نمو الفرد وتراكم خبراته وتجاربه. و التفكير الفعَّال غاية يمكن بلوغها بالتدريب و الممارسة حيث ينطلق من الخبرة الحسية، فهو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنشاط العلمي للإنسان. و التفكير الإنساني جزء عضوي وظيفي في بنية الشخصية، فنظام الحاجات و الدوافع و الانفعالات و الاتجاهات و الميول ينعكس على تفكير الفرد.
إنَّ الناظر إلى الشعوب والأمم من حولنا يجدُ الاهتمام البالغ بالتفكير ومهاراته وطرق تعليمه و كيف عمل التفكير على تغيير حياة هذه الشعوب وتغيير واقعها إلى الأفضل. فعلى سبيل المثال، تغير واقع اليابان بعد الحرب العالمية الثانية المدمرة، بينما تحتل اليوم اليابان صدارة الأمم من الناحية التنموية و الاقتصادية وذلك لأنها تبنت سياسة التفكير وثقافة التعليم المعتمد على التفكير وغيرت من النظرة القديمة لعملية التعليم عبر المؤسسات التربوية المختلفة إلى تعليم يعتمد على الإبداع و تحفيز التفكير و إثارة التساؤلات.
و نذكر أيضا ماليزيا التي حققت قفزات هامة في الوصول إلى صدارة الأمم وتغير موقعها في ترتيب الأمم، وذلك يرجع إلى اعتمادها على المناهج والمقررات التي تُبنى على التفكير حتى وصل الحال بالمسؤولين هناك أن خصصوا مقررات في المدارس والجامعات تعلم الطلبة التفكير.
نحتاج إذن كأمة عربية و إسلامية إعادة النظر في النظم التربوية من مؤسسات و إدارات تربوية و كليات مشرفة على إعداد المعلمين و إعادة صياغة مناهج التعليم بما يتيح إعمال العقل وتوظيفه في عملية التعليم و التعلم للوصول إلى واقع أفضل مما نحن فيه، واقع يسجل الإبداع و التميز و الاختراع لخدمة أنفسنا أولاً و خدمة الإنسانية ثانياً.
هذا صوت وصرخة تحاول أن تصل إلى آذان من يهمهم الأمر، و أعتقد بأن الجميع يهمه الأمر لأنه لا يوجد أهم من أجيالنا القادمة. و حتى تترجم هذه الفكرة في واقعنا العربي والإسلامي تحتاج إلى البيئة الحاضنة لها، وتوفر الظروف و الإمكانات المناسبة لها. نعلم أن الواقع يعتليه بعض الألم و الحسرة و اليأس، ولكن لابد من تغيير هذا الواقع و أن نضيء شمعة أفضل من أن نلعن الظلام ، فالتغيير لا يتم الا بثورة التفكير…
الكاتب بلال محمود سلمان أبو طير – أتّفق معك في ضرورة تغيير
أنماط وأساليب وطرائق التربيّة والتعليم في أوطاننا لنحقّق النهضة
التي ننشدها؛ وفعلًا التركيز على التلقين والحفظ لن يساعد في
تحقيق القفزة النوعيّة المرجوّة!
نعم، نحتاج لتنمية مهارات التفكير والإبداع، ولكن بدون توفير البيئة
السياسيّة والاجتماعيّة الحاضنة الداعمة، ستفشل محاولات التغيير.
يجب توفير الحرّيّة أوّلا وإعطاء المواطنين الحقّ في اختيار ممثّليهم!
استاذ بلال ..
مقالك رائع، فهو من الموضوعات التي ولدت مع خلق الانسان، وستصحبه الى نهايته. يدعم ذلك الدين والفطرة السليمة والعقل الانساني. هناك حاجة ملحة من قبل المعنيين خصوصا التريويين والمعلمين للقيام بدور مؤثر في ذلك، وان كانت النتاجات القوية والواسعة، والفاعلة بقوة تتأتى بالدرجة الاولى من البرامج المؤسساتية خصوصا الحكومية، اكثر منها جهودا فردية، إلا ان لا ذلكلا يعني بحال توقف الفرد عن التفكير فالابداع.
من الواضح ان انه لا يجب التوقف عند اهمية التفكير، بل يجب وضع الضوابط والمحفزات ضمن رؤية صلبة وتوجه استراتيجي رزين، للارتقاء بعملية التفكير وانتاج جيل مفر مبدع.
شكرا، وتحياتي
مقال رائع وجميل وينطوي على حقائق مهمة يجب علينا الانتباه لها
شكرا الأستاذ بلال على هذا المقال الرائع
نحن نحتاج إلى أعمال الفكر ليتم لنا الإبداع الذي نحتاج اليه
عمل جيّد للغاية . أستنير به لتكوين المدرسين
مقال رائع
ما أحوجنا إلى إلى استعمال مهارات القرن الواحد والعشرين.