توصف بعض الشعوب بأنها كالساعة. والمقصود بذلك أنها شعوب منضبطة تؤدي كل مهمة من مهام حياتها في الوقت المناسب دون تأخير. ولكن ما الذي يجعل بعض البشر -كذلك- دون الآخرين؟ لا شك أنها الخطة التي تسيطر على حياة الفرد وتحكمه، فالشخص الذي لديه هدف مخطط له ويؤدي مهام خطته تأدية صحيحة، يوصف -ببساطة- بأنه إنسان منضبط. الأمر ذاته يمكن أن نواجهه في مدارسنا؛ فبعض المعلمين منضبطين بخططهم، في حين أن بعضهم الآخر لا يملك خطة، ولا دفتر تحضير الدروس أصالةً، مما ينعكس بالسلب أو الإيجاب على المتعلمين. فما هو التخطيط؟ وكيف يسهم في تلبية احتياجات المتعلمين؟ وهل التخطيط الجيد يضمن تحقق عملية التعلم داخل الغرفة الصفية؟ وكيف يؤثر غياب التخطيط لدى شريحة كبيرة من المعلمين في أداء الطلاب في المدارس الأردنية؟ في ضوء ذلك، فإنني سأسعى في هذه المقالة إلى تجلية دور التخطيط في العملية التعليمة، بعامة، وفي مدارسنا الأردنية، وتجربتي -معلما-، بخاصة.
التخطيط من الخط، وهو “فكرة مثبتة بالرسم”[1]، ومنه التخطيط القلبي الذي يحول مسير نبضات القلب إلى رسومات، فهو -إذن- خط مرسوم، وهو -هنا- صراط مستقيم، والخط المستقيم واضح الملامح، وهذا هو جوهر التخطيط؛ أي السير على طريق واضحة صوب وجهة واضحة. واصطلاحا: “هو تصور مسبق للموقف التعليمي بإجراءاته المختلفة التي يجب أن يخطط لها المعلم وينفذها في فترة زمنية معينة لضمان نجاحه فيما يخطط له”.[2] ونلاحظ أن هناك أسبقية للتخطيط على الدرس وأنه مرهون بالزمان، فهو بكلمات أخرى -فيما يمكن أن نستخلصه-: وعي المعلم المكتوب والمجدول وفق منحى زمني عن منهاجه وطلابه والإمكانات المادية والمعنوية التي تتوفر لديه، وعيه من أين يبدأ وكيف سيسير بهم وأين سيصل معهم وفق نظام متسق. ولا شك أن التخطيط بنوعيه: قصير المدى وبعيده، يجب أن يشمل العملية التعليمية كاملة حتى يؤتي أكله، فهو يبدأ باختيار الدرس، ووضوح أهدافه، وكيفية إجرائه، والاختتام بتقويمه.
فمثلا، عندما يخطط الأستاذ لدرس استماع في اللغة العربية، فإن ذلك يعني أنه سيهتم بالتمهيد جيدا لأنه يمثل العتبة الأولى للدرس، والتي إن تجاوزها المعلم بطالبه وكسر جليد خوفه فإن الدرس سيسر سيرا حسنا. لذلك، فإن من الجميل أن يبتدر المعلم الدرس بفيديو رسوم متحركة يتناول قصة في بر الوالدين للدرس المعنون بـ”أحاديث عن بر الوالدين”، كما يعني أنه سيخطط للأسئلة القصيرة الحافزة وكذلك الأسئلة السابرة التي ستفعل الفيديو وتفعل كلمات الدرس وتكون بمثابة الجسر الذي يسير عليه المعلم بطلابه إلى الأحاديث ذاتها أي متن الدرس، ويعني -أيضا- أنه سيجهز الأسئلة في مجموعتين: (أ، ب) ثم يقسم الصف في مجموعتين، ويفعل التعليم التعاوني بين طلابه، فيعطيهم مدة زمنية لطرح هذه الأسئلة فيما بينهم والتحاور حولها، ومن ثَمَّ فإنه سيوسع دائرة الحوار ليكون بين المجموعتين فيتعرف الطلاب على أسئلة المجموعة الأخرى والمفاهيم التربوية والعلمية التي ترمي إليها، ثم يعني -كذلك- بأنه سيختتم درسه بلعبة لغوية مستخدما إياها وسيلة لكسر الرتابة من جهة، وأداة قياس وتقويم من الجهة الأخرى، فيجري لهم لعبة مجهزة سلفا عن بر الوالدين على موقع “وورد وول” -مثلا-، ثم يكلفهم بواجب منزلي: فيديو يتحدثون فيه عن مشاعرهم تجاه آبائهم. وهكذا نرى كيف ساهم التخطيط الجيد للدرس بتفعيل كل أجزائه والاستفادة القصوى من كل دقيقة فيه.
إن “التعليم المتمايز يقوم على ضرورة مراعاة الطبيعة الخاصة لكل طالب على حدة، مع مراعاة عناصر القوة التي يمتلكها، والتي يمكن البناء عليها، وكذلك احتياجاته التعليمية التي يمكن تلبيتها، وذلك بهدف تحقيق الحد الأقصى من النجاح في إنجاز عملية التعلم”.[3] وفي المثال السابق، يظهر لنا كيف أن التخطيط الجيد للدرس يحقق مفهوم التمايز لدى الطلبة ويراعي الفروق الفردية أيضا. فالطالب البصري سيجد متعته بالمقطع المرئي الذي استخدمه الأستاذ مدخلا لحصته، والطالب الاجتماعي سيجد متعته في الحوارات داخل المجموعات والمناظرات التي تجري بين المجموعات، كما أن الطالب الذي يحبذ استعمال التكنولوجيا سيجد متعته في اللعبة المستخدمة في موقع الألعاب التعليمية “وورد وول”، وبذلك يجد كل نوع شغفه ويمارسه، ويخرج الدرس عن النمطية، كما أن اعتماد التعليم التعاوني في المجموعات سيراعي الفروق الفردية بين الطلاب إذ يكون المعلم قد خطط من ضمن خطته لتوزيع الطلاب التوزيع الدقيق الذي يراعي مستوياتهم، ويحقق الفائدة المرجوة من الدرس. كما يظهر لنا أن التخطيط الجيد قد أسهم في خلق تدريس فعال وبيئة تعليمية غير نمطية، متكئا على الطريقة التفاعلية التي توافق روح العصر.
هنا يتبادر السؤال: هل التخطيط الجيد يضمن تحقق عملية التعلم داخل الغرفة الصفية؟ وللإجابة عنه، نقول: هل كل من حمل قلما استطاع الكتابة! بالتأكيد، لا بد على كل أستاذ مهما تقدمت به سنيُّ الخبرة أن يحضر خطته الفصلية ودروسه اليومية، لأن الخطة ليست من نافلة القول بل هي عماد العملية التعليمية وهي هرمون الأنسولين الذي ينظم السكر في جسد الصف، ولكن الخطة الجيدة لا بد من تطبيقها تطبيقا جيدا، وإلا فلن تتحقق غاياتها المأمولة. إن الخطة قد وضعت سابقا لكي تطبق داخل الدرس، فهي ليست كتابا يؤلفه صاحبه ثم يهديه لأحد أصدقائه أو يزين به مكتبته ولا يقرؤه لسنوات، بل هي كتاب وضعه صاحبه ليقرأه ويعود إليه في كل حال من أحواله؛ ينظر فيه ويطبق ما فيه؛ ينظر فيه ويطبق ما فيه، وهكذا. ولكن للأسف، فإننا في، مدارسنا الأردنية، هنا، -مثلا- نجد الأساتذة في ذلك على ثلاثة أنواع: نوع لا يخطط ويجري دروسه هكذا كيف ما اتفق، ونوع يعنى بالتخطيط أو بالأحرى بتسليم الخطط ولكن دون تطبيقها في غرفة الصف، ونوع يخطط وينفذ خطته ويشفع ذلك بالتحسين المستمر، وهذا هو فقط النوع الذي يستفيد من التخطيط ويؤدي وظيفته معلمًا كما ينبغي، ويصبح التخطيط لديه آلة فاعلة تأخذ بيد المتعلمين وتطور مهاراتهم.
ولذلك، فإن غياب التخطيط يؤثر -لدى شريحة كبيرة من المعلمين- في أداء الطلاب في المدارس الأردنية، والواقع يشهد بذلك. ولكن كيف يتم الأمر؟ في الحقيقة وكما أسلفنا، فإن شريحة من المعلمين لا يخططون لدروسهم، بل إن بعضهم لا يعي مفهوم التخطيط أساسا لأنه تخصص الجامعي كان تخصصا أكاديميا غير مشفوع بمواد تربوية، فهو لا يحسن هذه الصنعة، كما أن هنالك قسم آخر يعرف التخطيط وأهميته لكنه دخل في حالة من اليأس نتيجة المشاكل التي تواجهه داخل الغرفة الصفية متمثلة في الأداء السيء لدى فئة غير قليلة من طلاب الصف، وضعف اهتمام الأهالي بتحصيل أبنائهم، إضافة إلى وجود ما نسبته 20-35% من الطلبة الأميين في كل صف، وغياب حس المسؤولية لدى الطلبة وإعراضهم عن التحضير، وغيرها من المشكلات التي قد تدعو إلى اليأس. ولكن الحل يمكن في التخطيط (التخطيط مجددا) لحل هذه المشكلات والارتقاء بمستوى اهتمام الطلاب بالمسؤولية أولا، وبالتعلم ثانيا، وسينعكس ذلك -تلقائيا- على أداء الطلاب في حجرة الصف، ويساعد المعلم الصادق على تنفيذ خطته درسه المحكمة مع طلابه.
ومن تجربتي، وفي أحد دروسي مع طلاب الصف الثامن، فقط خططت لتدريس الطلاب حصة المعجم والدلالة بطريقة تفاعلية. فأجريت ذلك مع الطلاب، واستهللت الحصة بأسئلة تفاعلية حول موضوع الدرس الذي كنا قد قرأناه في الحصة السابق، ثم أمهلت الطلاب عشر دقائق لحفظ الكلمات ومعانيها مقسما إياهم في مجموعات ثنائية وطالبا منهم أن يحفظوها معا بطريقة السؤال والجواب موظفين إياها في جمل لا على طريقة القوائم التي لا أرى جدواها في تعلم اللغات عموما، ثم قسمت الصف كاملا في مجموعتين، واخترنا اسما لكل مجموعة، ورسمنا جدولا على السبورة لرصد النتائج، ووضعت قائدا لكل مجموعة، ومديرا للعبة لكي يسأل على الكلمة لأحد الطلاب الذي يخرج متجها بوجهه صوب مجموعته، ويطلب منه المدير ألا ينظر ويطلب من زملائه أن يقرّبوا له الكلمة ويرشدوه إليها دون استخدام جذرها اللغوي، وكان إلى جانب المدير مساعد يضبط الوقت ويرصد الإجابات، وهكذا. ولمست أن ذلك قد حقق جوا من المرح، واستنطق بعض الطلاب الذي لا يشاركون في الدرس إطلاقا، كما حفزهم العمل التعاوني إلى التحلي بروح الفريق، واستطعنا تطبيق التعلم النشط والتفاعلي، وأصبح إجراء هذه اللعبة -مستقبلا- أسهل وأمتع، لأن التعليمات أضحت واضحة في عقول الطلاب.
حتى اللعبة، كما في المثال السابق، تحتاج خطة. فلا يمكن أن تكون اللعبة عبثية غير مقرونة بأهداف تعليمية وتربوية أو غير مضبوطة بالزمان والتعليمات، وإلا فإنها لن تحقق نتائج تعليمية تربوية، وسوف تفتقر إلى مقومات اللعبة اللغوية التي تعرف بأنها: “وسيلة ممتعة ومشوقة للتدرب على عناصر اللغة وتنمية مهارات اللغة المختلفة، لها بداية محددة ونقطة نهاية في إطار قواعد موضوعة سلفا.” [4] (عبد العزيز، 18) بل إن الدرس سيتحول إلى ساحة لعب فوضوية، وتصبح اللعبة عملا شاقا في حين أن دورها الحقيقي يتمثل بكسر جمود الدرس وإشاعة جو المرح، ولكن لغياب التخطيط فإنها تفشل، إذ كيف يستطيع الطالب أن يؤدي اللعبة أداء منظما في ظل غياب التعليمات الواضحة من لدن الأستاذ! وكيف يستطيع الأستاذ أن يقدم تلك المعلومات الواضحة والمحددة إن لم يكن قد أعد لعبته إعدادا جيدا، وخططا لتنفيذها تخطيطا جيدا، أيضا!
في الختام، وبناء على تجربتي ومشاهداتي، فإن المعلم هو المسؤول عن الأدوات التخطيطية التي تحقق العملية التعليمية في الغرفة الصفية. فلا بد أن يخطط لدرسه وأن ينفذ ما خططه في درسه، وإلا فإن التعليم سيغدو شاقا عليه وعلى طلابه، ولن يؤتي ثماره، ولن يكون مناسبا لروح العصر الذي يتسم بالتقسيم والدقة والتفاعل والحركية. ومن هنا، فإننا نؤكد دور التخطيط وأهميته مستذكرين بأنه من أهم صفات المعلم الناجح الذي يمشي سويًّا على صراط مستقيم، والذي يشكل لبنة طيبة في بناء العملية التعليمية. بل إن العملية التعليمية برمتها تتأثر بالأستاذ وخطته، لأن الأستاذ الناجح يعزز حس المسؤولية لدى الطلبة. وبالتالي، فإن ذلك سينعكس على أدائهم الأكاديمي في حصته، وفي حصص الأساتذة الآخرين، لأن الطلاب سيشعرون بالجدية، وسيغدون منظمين وفاعلين في كل الحصص. وعليه، فإن الأداء العام للمدرسة سيتحسن. وإذا تحسن أداء كل مدرسة، فإن ذلك يعني النهوض بالعملية التعليمية برمتها، واستنقاذ بقيتها الباقية قبل أن تغرق السفينة!
المراجع:
حلس، داوود درويش؛ أبو شقير، محمد. محاضرات في مهارات التدريس. د. ن، د. ت.
عبد العزيز، ناصف مصطفى. الألعاب اللغوية في تعليم اللغات الأجنبية. الرياض، دار المريخ، 1983.
الإحالات:
[1] المعاني، مادة (خـ ط ط).
[2] حلس، داوود درويش؛ أبو شقير، محمد. محاضرات في مهارات التدريس. د. ن، د. ت. ص 88.
[3] https://www.youtube.com/watch?v=bApuBiitL8Q
[4] عبد العزيز، ناصف مصطفى. الألعاب اللغوية في تعليم اللغات الأجنبية. الرياض، دار المريخ، 1983. ص 13.
كلام جميل.. مستوى التخطيط هو مستوى تأسيسي ضروري.. ويظهر من الأمثلة الرائعة اللي ساقها الدكتور كيف سيتطور تحصيل المتعلمين ودافعيتهم اذا أعطاه المعلم الاولوية والوقت الكافيين.. ونأمل أن نرى في مدارسنا في كل العالم العربي نقلة نوعية من تأسيس التخطيط إلى تصميم الخبرات التعليمية متكاملة!! بوركت دكتور ممتنون لمشاركتنا علمك وخبراتك!
بعض مما عندكم أستاذة أماني. نعم؛ بالتخطيط الجيد تكون النتائج جيدة.
ولكن على المعلم أن يحب مهنته حتى يبدع ويخطط ويتقن
الحب أساس يبنى عليه كل شيء، لكن الجانب العاطفي ليس الركن الوحيد في العملية التعليمية، كثير من الناس لا تحب وظائفها ولكنها تقوم بها بمهارة وإتقان. إذا لم تحب شيئا فعليك بالتحدييد. لكن ما أجم العمل بحب في كل الميادين.