في عام 1955م وضع “راي كروك” الخلطة السرية لإدارة الأعمال في قطاع المطاعم؛ بتأسيسه شركة “ماكدونالدز سيستم”؛ الشركة التي لعبت دورًا في تغيير مفهوم إدارة قطاع الوجبات السريعة، بسبب انتشارها الواسع والسريع؛ فبحلول عام 1958م كان ماكدونالدز قد باع 100 مليون هامبرجر. وبحلول عام 2008م بلغ مجموع الإيرادات قرابة 23.5 مليار دولار لسلسلة المطاعم حول العالم.
يرجع هذا النجاح بشكل كبير إلى الفلسفة التي انطلق منها “راي كروك” بأن يعتمد على “تقديم الطعام بجودة عالية، وتوحيد أساليب تحضيره؛ إذ أراد تقديم برجر وبطاطس ومشروبات بالطعم نفسه الذي يقدّمه في ألاسكا وألاباما”([1]) على حد سواء.
لم يقف النجاح عند هذا الحد، بل لإمداد المشروع الناجح بالأيدي العاملة المُدرَّبة بشكل جيد؛ أطلق كروك في عام 1961م “جامعة الهامبرجر”. هذه الوصفة من النجاح جذبت لها الشركات الكبرى العالمية مثل ستاربكس، بودي شوب، وغيرها من العلامات التجارية.
واقعيًّا قد يبدو أثر هذا التسلسل الناجح منطقيًّا إلى حد كبير عند راود الأعمال، والضالعين في إدارة المشاريع، غير أنه لا يبدو كذلك من وجهة نظر بعض علماء الاجتماع؛ أمثال جورج ريتزر (George Ritzer)، عالم الاجتماع الأمريكي والبروفسور في جامعة ميريلاند. حيث يزعم ريتزر أن مقومات نجاح الهيكل التنظيمي لمطاعم الوجبات السريعة، وفي مقدماتها ماكدونالدز هي أربعة مقومات رئيسية: “الكفاءة، قابلية الحساب، القدرة على التنبؤ، والتحكم”)[2](، تتمثل كل هذه العناصر في تجربة بيع وجبة بيج ماك..!!
ترتكز عملية بيع برغر البيك ماك على الكفاءة، ابتداءً من قرب الفروع للعميل، وتوفرها في كل وقت، مرورًا ببساطة محتويات قائمة الطعام وتنوعها، وملاءمتها لبيئة العميل. وترتكز أيضًا على التحكم الفائق بكل خطوات إنتاج البرغر بدءًا من تصنيعه، مرورًا بالوقت اللازم لإعداده، إلى أن يتم تغليفه وتسليمه للعميل. وتعتمد العملية على القدرة العالية على التنبؤ؛ فقائمة الطعام البسيطة المحدودة تجعل من التنبؤ بوقت الإعداد، وعدد البرغر المباع، وشكل المنتجات النهائية عملية حتمية من خلال استخدام مواد خام وتقنيات إعداد وتقديم مماثلة في كل منطقة إعداد للوجبات.
الركيزة الأخيرة وهي قابلية الحساب، أو بمعنى آخر الجودة تتضح من خلال تحويل عملية القياس من نوعية إلى كمية، من خلال زيادة سرعة خط الإنتاج، وتقليل الوقت لكل مهمة، وخفض سعر المنتج النهائي، وزيادة المبيعات وزيادة الأرباح في نهاية المطاف.
في المقابل تبدأ تجربة العميل بكفاءة عالية من خلال خيارات الطلب المتعددة المتاحة ذات قيمة في متناول اليد؛ سواءٌ داخل المطعم، أو داخل السيارة، ومع تعدد هذه الخيارات تبقى قائمة الطعام بسيطة لتمنح العميل تحكمًا كاملاً في مكونات البرغر الذي اقتناه، بالإضافة إلى بساطة قائمة الطعام يستطيع العميل التنبؤ بالمنتج النهائي، وبالطعم المميز الذي ينتظره. وتُختتم العملية ببرغر ذي جودة عالية؛ بدلالة نسبة عودة العميل لتكرار الشراء.
في الحقيقة، ما يثير حفيظة جورج ريتزر على وجه التحديد هو انتقال هذه المعايير من قطاع إدارة المطاعم إلى باقي قطاعات المجتمع الأمريكي ابتداءً، ثم المجتمعات حول العالم، وهو ما يسميه بالاستعارة “مكدونالدزية المجتمع”. من وجهة نظر ريتزر أصبحت هذه العناصر تظهر بشكل ملاحظ في طبيعة العلاقات الاجتماعية، والمعاملات اليومية والقطاعات الخدمية الأخرى. على سبيل المثال، نظام التحضير الإلكتروني للموظفين يقوم على فكرة زيادة السيطرة على البشر من خلال استخدام التكنولوجيا غير البشرية لتحقيق الاستفادة القصوى من وقت الموظفين. وبشكل أكثر دقة وعلى نفس المنوال، يرىDennis Hayes ، البروفسيور في التربية في جامعة دربي البريطانية، أن تأثير المكدونالدزية يمكن أن يظهر للقارئ بشكل أوضح في قطاع التعليم العالي.
من وجهة نظر Hayes أنه مع ارتفاع الطلب المتزايد على التعليم العالي تتجه الأنظمة والمؤسسات التعليمة إلى خلق بيئة مشابهة لبيئة “ماكدونالدز”، وهو ما يطلق عليه “مكدونالدزية التعليم العالي” لتلبية هذا الاحتياج. فتتحول المؤسسات التعليمية إلى بيئة مشابهة لبيئة مطاعم ماكدونالدز تعمل على تقديم برامجها التعليمة وفق ذات الأربع مقومات: الكفاءة، قابلية الحساب، القدرة على التنبؤ، والتحكم، لكنَّ الفرق الوحيد أنها في بيئة تعليمية لا بيئة صناعية.
الفاعلية في مكدونالدزية التعليم العالي تعني زيادة عدد مؤسسات التعليم العالي، وتوفرها بشكل دائم، وتسجيل طلاب أكثر، وبالتالي تغيُّر طبيعة العملية التعليمة لتناسب هذا الكَمّ الهائل من الطلاب، تغير طريقة المحاضرات إلى المسجلة كمثال. القدرة على التنبؤ تتمثل في تغير هيكل الدرجات العلمية من أهداف عملية التعلم، ومعايير التقييم ومستوياتها، وكنتيجة ينخرط الطلاب في برامج مصمَّمة لتجاوزها بتحقيق الأهداف المحددة مسبقًا فقط. قابلية القياس أو الجودة في برامج مصمَّمة بهذه الطريقة تنحصر في المقاييس الكمية كعدد البرامج التعليمية والملتحقين بها، وعدد الخريجين، وترتيب المؤسسة التعليمة في التصانيف العالمية والمحلية، وفي مقابل ذلك إغفال النواتج التعليمية الفعلية.
أخيرًا التحكم، ويتمثل في أشكال عديدة؛ أحدها على سبيل المثال، للوصول لتحكم أعلى بالعملية التعليمية يتم تعزير استخدام التقنية كالمحاضرات المسجلة، على حساب تقليل الاعتماد على العنصر البشري لتصل المؤسسة لدرجة تحكم أعلى في المحتوى التعليمي وطريقة تقديمه للعميل “الطالب في هذه الحالة”.
قد تحمل الفكرة في ظاهرها -كغيرها من المتغيرات الحديثة- من الإيجابيات والمنافع ما يماثل بعض آثارها الجانبية؛ فالحاجة لمؤسسات تستوعب الأعداد الكبيرة من طالبي الخدمات التعلمية قد يكون مبرِّرًا مقنعًا لتحوُّلٍ مثل ذلك، غيرَ أن التربويين ينظرون إلى أبعد من بعض أضرارها الجانبية، ويتساءلون عن واقع قضايا أكثر تعقيدًا في ظل هذا التحول نحو مكدونالدزية التعليم العالي، مثل مصير الحريات الأكاديمية في بيئة مُشكَّلة ومؤطَّرة لتعطي نواتج محددة. ويتساءل آخرون عن الهويات الخاصة بالمؤسسات التعليمية في بيئة مصمَّمة على درجة كبيرة من التماثل لمتابعة الجودة. وآخرون عن النواتج التعليم الحقيقية وماهيتها في برامج مكدونالدزية التي تتحول فيها معاير التقييم إلى كمية بحتة. ما تثيره مكدونالدزية التعليم العالي يحمل في طياته تغيرات جذرية في طبيعة الخدمات التعليمة المقدَّمة وأهدافها.
في الواقع، قد تقع بعض النظم التعليمية في فخ مكدونالدزية التعليم العالي -بطريقة مقصودة أو غير مقصودة على حد سواء- في وقتٍ تزداد فيه وتيرة العولمة وتَبِعاتها، وتتزايد ضغوطات الأفكار الرأسمالية. غير أن تحديد عوامل التمايز في كل مؤسسة تعليمة كمنطلق، ومِن ثَم البناء على هذه المنطلقات قد يساهم -ولو بعض الشيء- في مقاومة هذا التوجُّه، وتحقيق درجة مقبولة من التمايز في هويات وممارسات هذه المؤسسات التعليمية. بالإضافة إلى ذلك، إعادة طرح التساؤل الجوهري عن غاية وهدف التعليم العالي الحكومي، وإعادة النظر في الأدوار الإضافية التي يُطلَب منه أداؤها قد تسهم في إعادة ضبط بوصلة هذا القطاع.
وكما يقول Hayes: “ماكدونالدز جيدة في المكدونالدزية. الجامعات ليست جيدة في المكدونالدزية. إنهم يقومون بذلك بطريقة سيئة، مثل الماكدونالدز الوهمية في مقدمة الشارع أو على جانبيه حول العالم”([3]). في المرة القادمة التي تقف فيها في الدور بانتظار استلام البيج ماك برغر داخل المطعم؛ تذكَّر أن بيج ماك في ماكدونالدز… أكثر من وجبة طعام!!
([1]) Our History. (n.d.). Mcdonald’s official website. https://www.mcdonalds.com/us/en-us/about-us/our-history.html
([2]) Ritzer, G., 2008. The McDonaldization of society 5. Pine Forge Press
([3]) Hayes, D. ed., 2017. Beyond McDonaldization: visions of higher education. Taylor & Francis
ليته يصبح بتلك الجودة التي عليها وجبة البيغ ماك فالتعليم العالي يفقد كفاءته من داخله فهو يمنح الشهادات تلو الشهادات دون ان تكون شاهدة على تغيير ما ايجابياً لمجتمعاتنا…
موضوع جميل جدا