إذا كان دوركهايم يرى أن التربية تقتصر على الفرد الذي لم ينضج بعد للحياة الاجتماعية و أنها عملية ممارسة سلطة الإكراه الاجتماعي المشترك، تحدث بين شخصية الراشد و الطفل، و أقر كذلك بأن غاية التربية في نظره ليست تكوين الفرد من أجل ذاته بل من أجل المجتمع في الدرجة الأولى، و اعتبر التربية عملية حفظ التراث الثقافي و نقله من جيل إلى آخر:
“هي الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال الصغيرة التي لم تصبح بعد ذلك ناضجة للحياة الاجتماعية، وموضوعها إثارة و تنمية عدد من الاستعدادات الجسدية و الفكرية و الأخلاقية عند الطفل، و التي يتطلبها المجتمع السياسي في مجمله والوسط الخاص الذي يوجه إليه”،[1]
فإن بيار بورديو تساءل عن براءة هذه التنشئة وشرعية سلطة الإكراه المبنينة في العملية التربوية، و لم يفصل تحليله للتربية عن توجهه العام في التحليل السوسيولوجي النقدي، وعمل على دراسة النظام التعليمي من الداخل عن طريق التركيز على دراسة المسارات التي تجري داخل النظام التعليمي و الأولويات البيداغوجية الانتقائية، من خلال أطروحته حول:
إعادة الإنتاج la roproduction
ماسنحاول القيام به في هذا المقال هو التعريج عن أهم الأفكار التي استحضرها بيار بورديو في تحليله من خلال كتابه إعادة الإنتاج الإجتماعي الذي أنجزه رفقة زميله كلود باسرون.
“la reproduction, éléments pour une théorie du système d’enseignement”
الفعل البيداغوجي l’action pydagogique والسلطة البيداغوجية L’autorité pydagogique:
ينطلق بير بورديو في تحليله الذي اختار أن يتناوله في كتابه من خلال العديد من المفاهيم الرئيسة في الحقل التربوي والتي تتداول بشكل اعتباطي وكأنها ذات شرعية منطقية تترفع عن كل مساءلة موضوعية، مستحضرا التحليل الماركسي للسلطة باعتبارها نتاج لهيمنة طبقية، كامنة تحت إيديولوجيا الشرعية وعلاقات العنف التي تؤسسها وتستمد شرعيته بالضرورة من اعتراف المهيمن عليهم بشرعية هذه الهيمنة، وبناء على ذلك استحضر بورديو مفهوم الفعل البيداغوجي Action pédagogique واعتبره نتيجة مباشرة لعنف رمزي فرض بواسطة سلطة اعتباطية أساسها ثقافي[2].
اعتبر بورديو أن القضايا التربوية هي كل فعل بيداغوجي يمارسه تشكيل اجتماعي ما ويكون هو أكثر الأساليب انتشارا بينهم، تتولى أمر هيكلته وتدبيره مؤسسة ذات وظيفة تربوية، يكون هدفه إعادة إنتاج البنيات الثقافية للطبقات المهيمنة أو الطبقات المهيمن عليها، ومنه فهو مطابق بالضرورة للطبقة الاجتماعية الموجه إليها، واعتبر بورديو أن السلطة الكامنة في هذا الفعل البيداغوجي وطريقة تدبيره هي شرط إنشاء علاقة تواصل بيداغوجي[3].
اعتبر بورديو كذلك أن الفعل البيداغوجي في الأساس سلطة رمزية لا تختزل أبدا بما هي به فإنها لا تنتج أثرا رمزيا إلا من خلال ممارستها في علاقة فعل تواصلي وبالتالي، فرمزية هذا الفعل لا تتحقق آثارها وخاصة تلك المسماة بيداغوجية، إلا عندما تتحقق شروط فرض سلطة هذا الفعل بشكل معلن. فالفعل البيداغوجي يتطلب فعلا تواصليا، كما أن سلطة هذا الفعل البيداغوجي تتحدد رمزيا بهيكلته في بنيات علائقية رمزية بين السلطات الممارسة (المعلم و المتعلم)، وهي في الأصل تعبير عن الشكل الاجتماعي السائد في المجتمع و الذي يجسد فعل الهيمنة، وفي الغالب فالمعارف التي يتم تلقينها تتحدد وفق الفعل البيداغوجي في الحقل الرمزي أو الاقتصادي المهيمن[4] .
وبالتالي فالقاعدة التحليلية تقول: أن تشابه المعارف وتكاملها وانسجامها دليل على أن موضوعها محدد موضوعيا بثقافة طبقة معينة باعتبارها نسقا رمزيا، وهو انسجام منطقي على اعتبار أن الثقافة نفسها تدين بوجودها لشروط معينة. لا يتصور بورديو أن الأشكال الثقافية (خيارات ثقافية) تنشأ بشكل عشوائي، لذلك من الضروري ربطها بشروط ظهورها وتأبيدها في الزمن الاجتماعي، أي لشروط إنتاجها الثقافية وإعادة إنتاجها اجتماعيا، وكل أشكال التأويل المرتبطة بها.
إن الفعل البيداغوجي إذن يلجأ إلى وسائل الإكراه في كثير من الأحيان ويبرر وجوده بحجة الطبيعة والمنطق، سلطة اعتباطية ثقافية كامنة في علاقات القوة (إعادة الإنتاج الاجتماعي لإعادة الإنتاج الثقافي) فكل مجتمع ينتج اعتباطه الثقافي (Arbitraire culturel) الخاص ويمارسه بسلطة إكراه شرعيتها فجة.
ينتقد بورديو التصورات الكلاسيكية للتربية خاصة منها تلك التي اهتمت بالنسق التربوي ككل واعتبرت محوره أوليات معرفية لأنها تنزع إلى فصل إعادة الإنتاج الثقافي عن وظيفته في إعادة الإنتاج الاجتماعي[5]، كما تصور دوركهايم أن الأفعال البيداغوجية التي تمارس في جماعة ما تعمل في تناغم على إعادة إنتاج رأسمال ثقافي بوصفه خاصية مشتركة للمجتمع، ولكنه في الأصل نتيجة مباشرة لعلاقات القوة التي تناسب المصالح المادية و الرمزية لطبقة ما.
يربط بورديو أيضا نجاعة الفعل البيداغوجي بدرجة اعتراف المتلقي بشرعية السلطة البيداغوجية، وهذه الشرعية لابد أن تبني حججها المنطقية الخاصة لتوهم بشرعيتها لكن كيف يمكن شرعنة هذه السلطة أكثر؟
يعتبر بورديو أن نجاح الفعل البيداغوجي مرتبط بشكل أساسي بنسق الروابط بين الأشكال الثقافية التي يفرضها الفعل البيداغوجي نفسه، من خلال الأنماط الثقافية المهيمنة للطبقة الاجتماعية المحظوظة وما لقنته من معارف أولية sucossion، و بالتالي يرتهن نجاح الفعل البيداغوجي بنسق الاستعدادت لذلك الفعل أو بالقيمة الاجتماعية التي تمنحها الأسواق الاجتماعية لولوج طبقة اجتماعية معينة، ومن تم يتضح الارتباط بالنعم الثقافية التي تورثها الأفعال البيداغوجية العائلية[6](sociodicée).
وبالتالي فالفعل البيداغوجي ينزع بخضوعه لهيمنة الفعل البيداغوجي السابق (الأسري) إلى إعادة إنتاج الطبقة الاجتماعية، وهو نتيجة تجاهل الحقيقة الموضوعية للثقافة باعتبارها اعتباطا ثقافيا، وتساهم في إعادة إنتاج علاقات القوة وعلاقات الهيمنة التي أدت إلى ظهورها في الأصل[7]
العمل البيداغوجي l’acte pédagogique:
يقول بير بورديو: “إن الفعل البيداغوجي يفترض سلطة بيداغوجية تؤطر تحوله إلى فعل تواصلي على أساس اعتباط ثقافي تفرضه طبقة معينة في المجتمع، وهذا الفعل البيداغوجي يصبح عملا بيداغوجيا باعتباره عمل تلقين ينتج تكوينا مستديما وينتج هابتوسا[8] قادرا على أن يتأبد في الزمن الاجتماعي”.
ويستحضر بورديو في شرحه حجة الواقع في التعليم الديني، فنفوذ السلطة الدينية مثلا يقتضي تحولها إلى فعل بيداغوجي، عبر سيرورات العمل البيداغوجي أي ممارسة الفعل، من خلال ممارسات مطابقة للمجالات أبعد عن تلك التي تترجمها السلطة الدينية، كالتصرفات السياسية و الخيارات الاقتصادية[9]
فالعمل البيداغوجي يجعل الفعل البيداغوجي قادرا على تلقين هابتوس دائم قابل للتنقل يكسب الفرد منطقا معينا للإدراك و التفكير و التقدير و الفعل، ومن ثم فهو يساهم في إنتاج وإعادة إنتاج الاندماج الفكري و الأخلاقي لطبقة اجتماعية فرضت وتفرض هيمنتها عن طريقه، وبالتالي فالاستعداد لارتكاب أي فعل ناتج عن وجود استعداد مسبق في البنيات الثقافية لارتكاب ذلك الفعل.
“إن أهم وسيلة لفرض الاعتراف بالثقافة المهيمنة باعتبارها ثقافة شرعية هي الاعتراف بلا شرعية الثقافة المهيمن عليها”[10]
ينتقد بورديو أيضا بعض التصورات التعليمة في علم النفس التي تأخذ بنمو الذكاء كسيرورة كونية من الحس الحركي إلى الذوق الرمزي، بل على نقيض ذلك يجب أن يكون الهابتوس المكتسب داخل الأسرة مبدأ لتلقي الرسالة المدرسية واستيعابها، فالعمل البيداغوجي يننتج لكل طبقة معينة أنساق استعدادات أولية منسجمة مع بنيتها الثقافية. فقضية اللغة مثلا مرتبطة بهابتوس عملي مسبق لاستعمال اللغة وفق علاقة مثقف باللغة، و الذي يطلب منه كتابة نص وصفي للمتحف لا يستطيع إلا بتملكه لقواعد اللعبة في فك شيفرات الأعمال المعروضة داخل المتحف من خلال قيمتها الرمزية أصلا[11]
وفي كثير من الأحيان تتحول هذه الممارسات إلى وظيفة لإقصاء تتوارى خلف وظيفة الإقصاء المبرأة، مثل الوظيفة التي تمارسها السلطة البيداغوجية اتجاه فئة معينة، مثل الوظيفة الإيديولوجية للإمتحان.
نسق التعليم l’enseignement:
بعد تحليله للفعل البيداغوجي في علاقته بالسلطة البيداغوجية و التواصل البيداغوجي، ليتحول إلى عمل بيداغوجي، يعطي بورديو مفهوم نسق التعليم، وهو ينطلق في تحليله للعملية التربوية من الميكرو إلى الماكرو في التحليل إذن، ويؤكد أن كل نسق تربوي ممأسس على إعادة إنتاج وسائل مأسسته، ومن تم الشروط الضامنة لاستمراره (إعادة الإنتاج الذاتي للمؤسسة) وإعادة إنتاج هذه الشروط هو إعادة إنتاج البنيات الثقافية وإعادة إنتاج العلاقات بين الطبقات، إعادة الإنتاج الاجتماعي[12].
وبالتالي على نسق التعليم أن ينشئ القضايا التي تصوغ شروط الفعل البيداغوجي وآثاره، وعلى الفعل البيداغوجي أن يكون قادرا في نفس الوقت على أن يعيد إنتاج الشروط المؤسسية لإنتاج الهابتوس وفي الوقت ذاته إنتاج الجهل بتلك الشروط، فكل عمل مدرسي يفرز خطابا ينزع إلى الجهر بمبادئ الهابتوس ومنهجيته وفق منطق الطاعة لمستلزمات مأسسة التعليم ومن تمت، فالصراع بين القيم و الإيديولوجيات المتنافسة من أجل الشرعية الثقافية، تشكل حلا نموذجيا للمعضلة المدرسية تحديدا، التي تتعلق بالتوافق حول البرنامج الدراسي باعتباره شرطا ضروريا لبرمجة الأذهان وتنميط سيرورة وصيرورات تفكيرها[13]
ويرى بورديو في هذا السياق أنه حتى هيئة التدريس تنزع باستمرار إلى إعادة توريث ما اكتسبته وفق بيداغوجيا مماثلة قدر الإمكان لتلك التي هي نتاج منها، ومنه فالحقيقة الموضوعية لممارسة مهنة الأستاذ (السلطان البيداغوجي Auctoritas) تتجلى حينما تصبح ممارسة المهنة أمرا عسيرا. فهناك من يعتبرون الأستاذ مضطرب الشخصية وآخرون يحتجون لأنه قبل الخوض في نقاش حبوب منع الحمل، ذلك أن التربية الجنسية من شأن الأسرة، وآخرون وصفوه بالشيوعي إذا طرح سؤال ماهي الماركسية؟
يؤكد بيير بورديو أن نسق التعليم في تشكله الاجتماعي يستطيع أن يجعل العمل البيداغوجي المهيمن عملا مدرسيا من غير أن ينتهي أولئك الذين يدرسونه، فهم يحملون تبعيته لعلاقات القوة التي تكون الطبقة الاجتماعية، لأن يعيد إنتاج نفسه أي النسق التعليمي، بواسطة الوسائل الخاصة أي الشروط الضرورية لممارسة وظيفته التلقينية، فتصبح وظيفة النسق التعليمي الإعتناء بالشروط الكافية لإنجاز وظيفته الخارجية لإعادة إنتاج الثقافة الشرعية ولإنجاز مساهمته المرتبطة بإعادة إنتاج علاقات القوة.
إن الوسائل التي يتوفر عليها النسق التعليمي باعتباره مؤسسة شرعية تبرر العنف الرمزي مهيأة سلفا لأن تخدم تحت مظهر الحياد الطبقة الاجتماعية المهيمنة عليها وفق نمط إعادة إنتاج البنيات الثقافية.
الإحالات:
[1] E. Durkheim, éducation et sociologie, p 41
[2] Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, la reproduction, éléments pour une théorie du système d’enseignement, édition de minuit, 1980, p 103.
[3] La reproduction/p.104
[4] P106
[5] P110
[6] P135
[7] P135
[8] نسق من الاستعدادات المكتسبة التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى العالم الذي يكتنفه، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم ويتوسط الأبتوس العلاقات الموضوعية و السلوكات الفردية باعتباره مجموعة من الاستعدادات المكتسبة بين نسق الضوابط الموضوعية و نسق التصرفات القابلة للملاحظة المباشرة يتدخل دائما طرف آخر كوسيط، ألا و هو الأبتوس مركز الالتقاء الهندسي للحيثيات و تحديد الاحتمالات و الخطوط المعيشة، للمستقبل الموضوعي و المشروع الذاتي.
[9] P138
[10] P 148
[11] P160
[12] 163
[13] P 169