هذا المقال بعنوان: ”أول رائد تربوي متخصص إسماعيل القباني ‘‘ هو الثاني من سلسلة مقالات حول إطلالة على نخبة من علماء التربية العرب، ينشرها الدكتور إيهاب إبراهيم السيد محمد حصريا على صفحات تعليم جديد. المقال الأول: ‘‘مؤسس علم الاجتماع العلامة عبد الرحمن بن خلدون’‘ من هنا.
القباني أول رائد تربوي متخصص، وقد تميز بشمول التكوين العلمي في حقل التربية من وجهتي النظر النظرية والعملية، وجُمع في شخصه كفاءة البيداغوجي وخبرة السيكولوجي، فقد قام بالتدريس بمدرسة المعلمين العليا العلوم التربوية والنفسية وقام بتدريب طلابها على فنيات وطرق التدريس وذلك بعد سنوات طويلة من العمل مدرسًا بالتعليم الثانوي أظهر خلالها تفوقًا مهنيًا ملحوظًا.
وذاعت شهرته كمجدد تربوي على مستوى الفكر ومستوى العمل، خصوصًا بعد عودته من البعثة التعليمية التي ذهب إليها مبتعثًا إلى لندن.
تفرد القباني ومهر كمخطط استراتيجي من نوع نادر فكان ملهمًا يعرف تمامًا كيف يوظف ما تعلمه خارج مصر بروح مصرية أو عربية، وكيف يدير آليات تطبيقها بنجاح عملى منقطع النظير.
وساعده على ذلك أنه تقلد وظائف حكومية كبيرة وحساسة في الدولة أمدته بسلطتين: علمية وتنفيذية، مما مكنه من تحقيق مشروعاته الإصلاحية والتى كرس لها حياته العريضة، وجعل منها قضية وجوده المهني والسياسي والإنساني.
قبل ظهور المفهوم العلمي الحالي لأهداف التربية وفنيات تحديدها إجرائيًا بالشكل الذي يحكم منهجيًا تخطيط الأهداف التربوية وتصميم البرامج الخاصة بها وممارسة الأساليب المختلفة لتعليمها وكيفية تقويم العائد منها فعل القباني ذلك بشكل فطري.
كان القباني كأغلب التربويين يركز على “سياسة وأساليب التعليم” باعتبار أن التعليم يقوم بوظائف تقليدية يعرفها الكل، وتقوم بها المدارس في جميع أنحاء العالم وعلى حد السواء، منها:
- نقل وتجديد وتحديث التراث الثقافي، بما يؤدى إلى تواصل الأجيال.
- تعليم وإتقان المعارف والمهارات والقيم لتشكيل تكوين شخصية المتعلم وتطبيعه اجتماعيا مع الآخر.
- إعداد القوى العاملة في المجتمع والتأهيل لسوق العمل لسد حاجات التنمية والتقدم.
وحينما تولى القباني وزارة المعارف في مصر بعد ثورة 1952 وضع أهدافًا رئيسية لتربية عربية، من أهمها:
- التربية لتعزيز النمو الشخصي والاجتماعي للأطفال تبعًا لحالة كل طفل على اعتبار أن كل طفل حالة منفردة.
- التربية لتعزيز قدرات المتعلم في مهارات التفكير العليا خاصة التفكير الناقد، والتحليل الاستدلالي والتصور الخلاق.
- التربية لتعزيز خبرات ومهارات العمل والإنتاج، وتأهيل المتعلمين لسوق العمل للتكيف مع حاجات الاقتصاد، وتكون غير مقصورة على مجال الوظائف الحكومية.
- التربية لتعزيز روح المواطنة المستنيرة والقومية العربية الأصيلة.
ولكى تتحول تلك الأهداف والمبادئ من مجرد حبر على الورق و مستوى الفكر أو النظرية إلى مستوى التنظيم والتطبيق العملي، كان لا بد من جهد كبير قام به القباني ومعاونوه لتجسيد حركة التربية التقدمية في بنيات مؤسسية وبرامج تعليمية وهيئات فنية وسياسية تشريعية وتنفيذية.
وفي هذا المجال نجح القباني بشكل مبهرو منقطع النظير، مع أنه واجه على أرض الواقع مقاومات وصراعات طبيعية في هذا الوقت، وأحيط في كثير من الأحوال بظروف حرجة على المستويين المادي والفني، اضطرته تلك الظروف أن يخوض معركته للإصلاح بعزيمة المناضلين الذين لا يعرفون الكلل أو الملل أو الإحباط، والذين لا يبعدهم عن تحقيق أهدافهم النقد أو التجريح، وسنقوم بعرض في السطور القادمة لجزء بسيط من جهوده ومشروعاته في هذا المجال:
نشطت رابطة خريجي معهد التربية والجمعية المصرية للدراسات النفسية ورابطة التربية الحديثة، وكلها كانت تحت رئاسة و إشراف القباني، في ترجمة أمهات الكتب التربوية العالمية والـتأليف والنشر لخدمة تحديث الفكر التربوي وتطبيقاته العملية.
وقد قامت في عام واحد بتأليف عدد من الكتب القيمة بلغ عددها تسعة كتب تربوية تناولت طرق التدريس الحديثة، إعداد المعلمين الجدد وتأهيلهم، أساليب تربية الأطفال، رسالة المعلم وكيفية القيام بأدواره الوظيفية، طرق مكافحة الأمية، النظريات الحديثة في التربية، تربية أولياء الأمور(التوعية التربوية للأسر).
وجاء هذا المسلك ليعطي لسياسات القباني الإصلاحية قدرًا كبيرًا من النمو المطرد والتي حملتها في حياته وبعد موته أجيال متعاقبة من كبار التربويين الذين رعاهم وسعى لإيفادهم في بعثات دراسية خارج البلاد، وقد عادوا إلى مصر يحملون أرفع الدرجات العلمية وتم تعينهم في معاهد التربية لتدريس ما تعلموه من طرائق حديثة في التدريس للطلاب المصريين.
وأوكل القباني إليهم مهمات وظيفية عدة تمثلت في التدريس والقيام بالبحث العلمي وتغيير هندسة النظم التعليمية في مصر والعالم العربي.
وآمن القباني بأن تشارك المشاكل والحلول مع الآخر من أفضل الطرق الإصلاحية فقام بتنظيم عدة ندوات ومؤتمرات محلية وعربية ودولية لدراسة أهم القضايا التي تتمحور حول مشروعاته الإصلاحية الكبير في التعليم في مصر وقد حرص على أن يدعوا إليها كبار التربويين العالميين.
وعمل القباني على إصدار تشريعات وقوانين ولوائح تنظيمية من شأنها أن تقوم بحماية مشروعاته الإصلاحية وتسمح لها بالثبات وتتيح له المرونة في التنفيذ، ومن أهم ما تم إصداره في هذا المجال:
- إعادة تنظيم سلم التعليم العام والذي كان يتكون من مرحلتين ابتدائية وثانوية فقط (والذي كان إعداده وفق لنظام التعليم في فرنسا) ليكون نظامًا من ثلاث مراحل: ابتدائية وإعدادية وثانوية.
- إقرار مجانية التعليم الابتدائي للجميع.
- عمل تقييم لكل المدارس الإلزامية وتحويل المدارس الغير منضبطة إلى مدارس أولية لها فاعلية تربوية وتغيير أنظمتها الدراسية.
- إعادة تنظيم محتوى التعليم الثانوي بما يؤدى إلى تنويعه ورفع مستواه.
- تضمين مناهج المدارس الأجنبية للغة العربية والثقافة القومية المصرية وجعلها من المواد الأساسية في امتحاناتها.
- إنشاء مدارس في الريف المصري نموذجية ومدارس معلمين ريفية ووضعها تحت إشراف وزارة المعارف.
- إلغاء الشهادة الابتدائية القديمة حيث كانت تدفع بكثير من الحاصلين عليها من أبناء الطبقة العاملة إلى الاتجاه لسوق العمل والانقطاع التام عن الدراسة دون مواصلة التعلم.
وللقضاء على الارتجالية في سياسة التعليم المصرية التي كانت تقوم بها السلطات المسؤولة مع تعاقب الحكومات الحزبية وقراراتها المتعارضة وفق الأهواء الشخصية والسياسية، عمل القباني على إنشاء هيئة علمية دائمة ومستقله بذاتها تكون مسؤولة عن تقييم ووضع ما يتعلق بالسياسات والقوانين والمشروعات والمناهج والطرق التعليمية، والتي تدرس بمنهجية موضوعية بعيدًا عن مناورات الساسة وتقلبات الحكومات، واختير القباني أول مستشار يرأسها وكان يعاونه شباب مؤهلون على أعلى مستوى.
وقد صدرت عن الهيئة بعض البحوث والدراسات القيمة والتي أسهمت في تحسين وتطوير نظم التعليم في مصر، وقد تم إلغاء وظيفة المستشار الفني وذهبت اختصاصات هذه الهيئة إلى أحد وكلاء الوزارة المتخصصين في ذلك الشأن.
وحرص القباني على استقدام عدد من التربويين أصحاب الشهرة العالمية في مجال التربية الحديثة التقدمية، من أجل:
- تفقد أحوال المعهد بصورة عملية واقتراح ما يكفل تطويره.
- إفادة التربويين المصريين من خبرات وتجارب الدول المتقدمة التي وفدوا منها.
- إلقاء المحاضرات في معهد التربية للمعلمين والخاصة بالاتجاهات الحديثة في التربية.
- الكتابة في صحيفة التربية الحديثة.
كانت في مصر جمعيات وروابط خاصة بالعديد من فئات المعلمين (بحسب مراحل التعليم التي كانوا يعملون بها وبحسب التخصصات العلمية التي كانوا يقومون بتدريسها) وكانت في أغلبها ذات اتجاه نقابي فقط وتعمل لأغراض اجتماعية واقتصادية، فاتجه بها القباني نحو التوحد ولأغراض تربوية فنية غايتها النهوض بالتربية في إطار المفاهيم والتنظيمات الحديثة.
وكانت أول رابطة تنشأ لتحقيق هذه الغاية هي رابطة التربية الحديثة، وقد قام القباني بجعلها فرعًا للمركز الرئيسي في لندن، وضمت عند تأسيسها نخبة من المربين والمربيات بلغ عددهم حوالى ثمانين عضوًا.
تعددت في مصر مدارس إعداد المعلمين في مراحل التعليم المختلفة، ولم يكن لها نظام ثابت ولا قواعد ضابطة وحاكمة ترقى بمستويات إعداد المعلمين العلمي والتربوي.
مما أثار شكوى الخبراء والمسؤولين الناقدين للأوضاع التعليم من مصريين وغير مصريين، ولهذا تحرك القباني ونجح في مسعاه الحميد، حيث أقنع المسؤولين بضرورة إنشاء معهد عال يتخصص في الإعداد المهني الجيد لكافة المعلمين بالمدارس المصرية، ثم أخذ الموضوع في التطور النوعي المستمر حتى تم إنشاء أول كلية للتربية في مصر.
شبه الكثير القباني بجون ديوي، فكما فعل ديوي وأنشأ مدرسة تطبيقية ملحقة بجامعة شيكاغو لتكون معملاً للبحث التربوي والتجريب المنهجي (خارج دائرة التدريب المهني للمعلمين)، فإن القباني فعل نفس الشيء في مصر، وقد بدأ بفتح فصول منفصلة ملحقة بمعهد التربية للمعلمين للتجريب، يطبق فيها الطلبة ما تعلمون نظريًا، ويجربون تجارب رائدة تستهدف تحديث تربية جديدة حديثة لم تكن معروفة من قبل.
حيث كان يلتحق بهذه الفصول الطلاب الذين لديهم صعوبات في التعلم تمثلت في فئة بطيئو التعلم وفئة ذوي الاحتياجات الخاصة (عقليًا أو جسديًا)، كما هيأ القباني للتجريب مجالا أوسع وعلى عينات طبيعية (أو خاصة) في مدرستين ثانويتين حيث عين فيهما- واحدة بعد الأخرى- مديرًا مسؤولا.
ولكن ترك القباني الإدارة وانتقاله إلى وظيفة وكيل للمعهد، أدى إلى إهمال هذه التجربة الفريدة في التجريب، و الذي فقد راعيه وكثر مهاجموه، مما ألجأ القباني إلى البحث عن بديل تجريبي ثابت ومضمون.
واستطاع أن ينشئ بحي حدائق القبة بالقاهرة مدرسة النقراشي النموذجية الابتدائية ثم ضم إليها مدرسة النقراشي النموذجية الثانوية، وجعل القوصي، وهو من كبار معاونيه، مشرفًا عليهما.
وكانت إبداعات النموذجيات موضوع تأثير وتقليد كثير من المدارس المصرية، ومحل تقدير وإعجاب الكل من المسؤولين والمربين والإعلاميين.
وكان من أهم الاستحداثات التي تم استحداثها داخل النموذجيات “مجلس الأباء”.
كانت في مصر صحف مدرسية أقدمها “روضة المدارس المصرية” التي أنشأها رفاعة الطهطاوي، كما أحصيت أعداد الصحف المدرسية فكانت فوق الثلاثين صحيفة، لكنها كانت جميعها تخص الشؤون الداخلية وأحوال المدارس، ومقالاتها خفيفة ذات طابع إخباري (إعلامي) فقط.
ولم يكن هذا الاتجاه ليرضى القباني الذى حارب وراء إصدار صحيفة التربية الحديثة، لتكون مجلة البحوث والمحاضرات الأصلية التي يعدها أعضاء الرابطة.
وظهر أول عدد منها في أربعينيات القرن الماضي بواقع عدد كل أربعة شهور، لكن سرعان ما عدلت الرابطة نظام صدورها في العام التالي، فأصبحت تظهر أربع مرات في السنة بواقع مرة كل ثلاثة شهور، واحتفظت بذلك النظام.
لم تكن عند القباني وأتباعه أي حساسية تبعدهم عن تقبل النقد والأخذ بالتعديل ومسايرة التغيير، مؤمنين بأن التجديد المتواصل ما دام يعمل في صالح هدف واحد وهو تطوير المدرسة والمجتمع فهو على الطريق الصحيح.
لقد حمل القبانيون لواء التغيير إلى خارج مصر في أجيال متتابعة، وغيروا الكثير من نظم التعليم في الدول العربية.
أعتقد أن القباني غادر الدنيا مطمئن النفس لأن أتباعه كانوا من حوله يؤكدون له أن ما غرسه باق ومزهر يؤتى ثماره في كل حين.
قائمة المراجع
- السيد محمد (1931)،تاريخ الاستاذ الشيخ محمد عبده، مطبعة المنار، القاهرة.
- جرجس سلامة (1963)،تاريخ التعليم الأجنبي في مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، القاهرة.
- عبد الحميد فهمى مطر(1939)،التعليم والمتعطلون في مصر، الإسكندرية.
- نعيم عطية(1966)،معالم الفكر التربوي في البلاد العربية في المائة سنة الأخيرة، الجمعية الأمريكية، بيروت.
المفترض أن منصب وزير التعليم هو منصب سياسى وليس فنى متخصص، ومهمته هى رسم السياسات العليا للتعليم فى إطار فلسفى معين قبلا، ويأتى التنفيذ من خلال الفنيين التربويين المتخصصين من أمثال إسماعيل القبانى.. لذلك أرى أن آخر أفضل وزير تعليم وفق ما قدمت هو الدكتور طه حسين..
لمزيد من التوضيح، فى سنة ١٩٥٤ قدم إسماعيل القبانى وزير المعارف طلبا لمجلس قيادة الثورة لتنحية توفيق الحكيم عن منصبه كمدير لدار الكتب المصرية التابعة لوزارته فى ذلك الوقت بسبب أنه موظف كسول وغير منتج..!! هكذا كانت رؤية إسماعيل القبانى، رؤية تريد تخريج موظفين وليس مثقفين و مبدعين.