“من القلق البيداغوجي إلى صناعة التدريس”
ننطلق من هذا العنوان، من كتابين بارزين في حقل التربية والتعليم، الأول ل”محمد بازي”، «صناعة التدريس ورهانات التكوين»[1]، والثاني ل ” محمد الداهي” «القلق البيداغوجي المدخل الثقافي للنهوض بالمدرسة المغربية»[2].
لا نتوخى استعراض، أو عرض ما جاء في الكتابين، ولكن نسعى إلى وجهة نظر منطلقها أفكار الكتابين، سعيا منا إلى استثمار أمثل لطرق التدريس وإتقان هذه الصناعة، متجاوزين القلق البيداغوجي الذي يصاحب مهنة التعليم. يلاحظ القارئ أن تقابلا ابستمولوجياً يربط بين الكتابين، رغم المدة الفاصلة بين صدروهما، 2010- 2016، وهذا التقابل يجعلنا نطرح سؤالا إشكاليا: كيف نتغلب على القلق البيداغوجي، من خلال صناعة التدريس؟
تعيش المدرسة المغربية منذ الاستقلال واقعا متداخلا، منه ما يتميز بالحركية والدينامية، ومنه ما يتسم بالثبات، ومنه ما يوصف بالارتجاج، وضمن هذا الواقع المتناغم أحيانا، والغير المتجانس في أحايين كثيرة، تفرض مدونة الإصلاح والتغيير والتجديد نفسها كل موسم دراسي، وتُرصد لها ميزانية كبيرة، الغاية منها تجويد العرض المدرسي، وتجاوز العقبات والاختلالات لمختلف التقارير الوطنية والدولية، أهمها التي أعقبت تقرير المجلس الأعلى للتعليم عن حالة المنظومة الوطنية للتربية والتكوين[3].
لاشك أن المواطنة تقتضي الانخراط في سياسة الإصلاح، وتشجيعها، وليس هدمها وانتقادها؛ بل بتجويدها والإسهام في ترسيخها بالتجديد، والابتكار، والمواكبة لمختلف المستجدات والتقارير والتجارب التربوية، لذلك فالاستثمار الجيد لهذه السياسة هو الالتفات إلى “المورد البشري” humaine Ressource . لقد ركز على هذا المكون في إحدى الدورات التكوينية لسلك الإدارة المفتشان التربويان الباحثان “مصطفى اعزاير”، و”عبد الرحمان زيطان”،[4] واعتبرا أن الإصلاح ينطلق من صناعة الإنسان/ المورد. إن هذا الاستثمار كفيل بزرع الثقة بين الأستاذ والمنظومة التعليمية، بل والإدارة التربوية كذلك. وعليه ستكون الرهانات والرؤى تتحقق بالغاية أولا قبل الوسيلة، بحيث نجعل مهنة التعليم مهنة إنسانية قبل أن تكون وظيفةً وعملاً.
عودة إلى السؤال الذي انطلقنا منه، يتوجه “محمد بازي” بأسلوب المدرس الحكيم، والخبير التربوي إلى الباحثين والأساتذة بتوجيهات تربوية تنطلق من تراثنا العربي الإسلامي، ويجعل من كتابه نوراً يُضيء به المسارات والمسالك، فيسمي مباحثه بالممرات والشرفات، والنوافذ، والإضاءة، والتنوير، والدعامات والأركان، وكأن الباحث يُشيد صرحاً، وبيتاً يستند إليه المدرس، ويأوي إليه احتماءً من القلق البيداغوجي، الذي يعتبره “محمد الداهي”، معطى ثابتا، وراسخاً بحكم الظروف النفسية، والمهنية، والاجتماعية، التي يشتغل فيها المدرس، لذلك فالسبيل إلى التغلب على هذا القلق هو تملك، وامتلاك مختلف المهارات الحياتية في تدبير فصول الدرس، إلى جانب التوفر على كفايات معرفية، ثقافية، منطقية، موسوعية، تنطلق من الأستاذ وتنتهي إلى المتعلم، وعبر هذا المسار تبرز مقومات بناء الدرس، ومدى التحكم في صياغته وتدبير عناصره، ومدى جودة العلاقة بين المدرس والمتعلم، دون أن نغفل الاشتغال على تحسين ظروف، ووضعية الفاعلين التربويين والإداريين، لأن الأستاذ/ المدبر الإداري في النهاية هو المحور، وصلب القاعدة للنهوض بالمدرسة المغربية.
تباين مؤشر القلق البيداغوجي بين الماضي والحاضر
بالعودة إلى المناهج الدراسية بعد فترة الاستقلال وإلى حدود الألفية الثانية، نلاحظ أن السياسة التعليمية كانت تهدف بالأساس إلى تقوية، وبناء الأسس التي تبنى عليها المدرسة، من تغيير المقررات، وحذف أخرى، تعميم التعليم، ومحاربة الأمية، تعريب التعليم، تأهيل فضاءت التربية التكوين، زيادة تكوين المعلمين[5]. ورغم الإشكالات وصعوبة البناء وتشييد مدرسة مغربية في مرحلة انتقالية، يكاد يعترف كل المتخصصين، والخبراء وأولياء الأمور بأن التعليم حينها كان متوافقا مع متطلبات الأستاذ، ومنسجما مع ميولات التلميذ الذهنية والمعرفية والنفسية. وفي هذا الإطار نتساءل لماذا يتضاءل منسوب القلق في ظل وضعية حرجة ومرحلة مغايرة، ما أسباب ارتفاع منسوب القلق اليوم؟ في ظل تحسين الظروف المادية والمعنوية للأستاذ، في ظل بروز تكنولوجيا التعليم، وأمام تدفق المعلومات، والتجارب البيداغوجية.
إن الإجابة عن السؤال يرتبط بلا شك بالاجتماعي والنفسي، لأن التعليم الذي أعقب فترة الاستقلال وما بعدها ارتبط بما يمكن تسميته بالمهمة وليس الوظيفة، حيث كان يشغل المعلم/ الأستاذ تربية الأجيال، وتزويدهم بالمعارف الضرورية لبناء شخصيتهم، رغم القساوة المترتبة عن ذلك والتي عانينا منها جميعا. والتي أصبحت اليوم جُرما قد ينهي مسار الأستاذ. إن مفهوم المهمة قد يرتبط عند القليل من المربين، لكنه يغيب عند الكثير، ومرد ذلك إلى ما يمكن تسميته بالفجوة بين الأساتذة والفاعلين في ميدان التربية والتكوين، أي باتساع الفجوة بين متطلبات الأستاذ، وتصور الإدارة المركزية، وقد عبر عن هذه الفجوة الإضراب الذي ضرب قطاع التعليم بالمغرب لمدة تزيد عن ثلاثة شهور خلال الموسم الدراسي الماضي 2023/2024، لقد تحدثنا في مناسبة سابقة أن مواقف الفاعلين التربويين جعلت الأساتذة يشعرون بالإحباط في مواصلة مهامهم بنفس الحيوية والنشاط، ثم اقترحنا مخرجات للتغلب على هذا الشعور المرير[6].
خاتمة
إن المدرسة المغربية تعيش نوعا من الارتباك عبر عنه تقرير حديث للمجلس الأعلى للتربية والتكوين ب ”أزمة تعلم”، هذه الأزمة مردها إلى المناهج التربوية المعتمدة، وعدم ملاءمتها للسياسة اللغوية للبلاد، وتجاوزها لمستوى الإدراك لدى المتعلمين. لهذا يقترح تقرير الهيئة الوطنية الاهتمام ب «”عامــل الأستاذ” الــذي يؤثــر بشــكل قــوي في مكتســبات التلامذة وإنجازاتهــم. وثــمة اتفــاق واســع عـلى أن جــودة النظـام التربوي رهينـة بجـودة أسـاتذته. وفي المقابل، وبشـكل غـيـر مبــاشر، لا يمكــن لجــودة الأساتذة أن تتجــاوز جــودة السياسـات العموميـة التـي تشـكل بيئـة عملهـم في المدرسـة، وتوجه انتقاءهــم، وتوظيفهــم، وتطورهــم، وترقيهــم»[7].
المراجع
- منشورات كلية علوم التربية، المغرب، الطبعة الأولى، 2010
- منشورات فكر، المغرب، الطبعة الأولى، 2016
- التقرير السنوي، منشورات المجلس الأعلى للتربية والتكوين 2008
- الحسن اللحية، تاريخ الإصلاحات التعليمية بالمغرب منذ 1956 إلى اليوم، موقع https://maglor.fr/tribune، تاريخ الزيارة 25/07/2024.
- عبدالمجيب رحمون، «الانتقال بالمجتمع المدرسي من الإحباط إلى تحقيق الأهداف»، نشر بتاريخ: 11/03/2024 (new-educ.com)
- رحمة بورقية، تقرير الهيئة الوطنية لتقييم منظومة التربية التكوين والبحث العلمي، منشورات المجلس الأعلى للتربية والتكوين، ص: 03، الرباط، المغرب 2021
[1] – منشورات كلية علوم التربية، المغرب، الطبعة الأولى، 2010.
[2] – منشورات فكر، المغرب، الطبعة الأولى، 2016.
[3]-التقرير السنوي، منشورات المجلس الأعلى للتربية والتكوين 2008 .
[4]– التكوين النظري لأطر الإدارة التربوية، «فئة النظار والمديرين»، مديرية شفشاون، الموسم الدراسي 2014/2015.
[5] – انظر الحسن اللحية، تاريخ الإصلاحات التعليمية بالمغرب منذ 1956 إلى اليوم، موقع https://maglor.fr/tribune، تاريخ الزيارة 25/07/2024.
[6] – انظر عبدالمجيب رحمون، «الانتقال بالمجتمع المدرسي من الإحباط إلى تحقيق الأهداف»، نشر بتاريخ: 11/03/2024 (new-educ.com).
[7] – رحمة بورقية، تقرير الهيئة الوطنية لتقييم منظومة التربية التكوين والبحث العلمي، منشورات المجلس الأعلى للتربية والتكوين، ص: 03، الرباط، المغرب 2021