من المنطقي أنه عندما تتغير طبيعة المفعول به تتغير طرق الفاعل ووسائله التي يستخدمها تجاهه، فهل ما وقع للتعليم في زمن كورونا من تغير الطرق والوسائل سيحتم على الإشراف التربوي تكييف نفسه مع مجريات ذلك التغير؟ ولو سلمنا جدلا بتلك الحتمية فما الأشياء التي ينبغي لها أن تكيف مع الوضع الجديد؟
وللإجابة على التساؤلات يجدر بنا أولا تحديد ما نعني بالإشراف التربوي.
فالإشراف التربوي هو بإيجاز خدمة لتجويد التعليم، تطور مفهومها عبر الزمن مع تطور وتشعب احتياجات المتعلمين.
وقد عرفته اليونسكو بأنه: <<خدمة فنية تقدم من أجل رفع أداء المعلمين ويقوم بأدائها فنيون متخصصون بهدف المشاركة في خلق موقف تعليمي أفضل لتحسين عمليتي التعليم والتعلم>> (التوصية رقم 42 الصادرة عن مؤتمر اليونسكو المنعقد في جنيف سنة 1975 ص 86)
ولئن كانت سُنة التطور تجعل هذا التعريف لم يعد جامعا ولا مانعا، فإنه مازال مرجعا رغم توسع مجالات اهتمام الإشراف وتغير الأسماء والمفاهيم والأساليب تبعا للفلسفات السائدة في كل فترة، فبعد أن كانت الزيارة الصفية المفاجئة تكاد تكون هي الأسلوب الوحيد للإشراف التربوي (التفتيش)، ظهرت أساليب ومجالات جديدة أكثر ديمقراطية وفاعلية، فتغير الاسم من التفتيش للتوجيه ثم للإرشاد ثم للإشراف، ومازالت التغييرات مستمرة تبعا للفكر التربوي القائم وما ينبني عليه من تغيير أساليب وطرق التعليم.
وعموما فهو عمل يقوم به جهاز إداري تربوي يتألف من مجموعة الأشخاص المكلفين بمتابعة ورقابة مدى وصول عمليات التعليم والتعلم إلى أهدافها، وبتقديم الدعم للمدرس حتى يصل تلك الأهداف.
فماذا على الإشراف التربوي في زمن كورونا أن يفعل لصالح طلاب توشك سنتهم أن تبيض، وهل لديه القدرة على القيام بمهامه بوسائله الحالية؟
بطبيعة الحال! سيقف الإشراف عاجزا لبعض الوقت بسبب عدم الجهوزية فكرا وخبرة ومواردا، فلكي نرى مدى فداحة التغير الذي عليه مواجهته، نأخذ أبسط نشاط كان يقوم به المشرف (حصة مشاهدة مثلا) فهو عندما يريد أن يقيس مدى تحقق هدف تعليمي إجرائي ما، يعمد إلى حضور حصة يراقب فيها: مدى قدرة المدرس على تحديد الهدف الإجرائي للحصة انطلاقا من الكفاية المطلوبة، ومدى تناسب المحتوى المقدم مع احتياجات تحقيق الهدف ومع الوقت المخصص للحصة من جهة ومدى تناسبهما مع المستوى العقلي والمعرفي للمتعلم من جهة ثانية وكذلك مدى ملائمة الطرق والوسائل وأداء المدرس لمتطلبات تحقيق الهدف أيضا ومدى قدرة هذا كله على جذب انتباه المتعلمين وإحداث التفاعل الإيجابي المطلوب منهم ومعهم، وكذلك تفاعل الجميع مع البيئة المحيطة بهم من جهة ثالثة.
فأين الإشراف في زمن كرونا من هذا؟ بعد فقدان إمكانية تزامن جل هذه العناصر، و هو ما يجعل الصورة المأخوذة من حصة تعليم عن بعد صورة قاصرة، فلا تستطيع أن تلتقط من هذه العناصر المتشابكة سوى نزر قليل: معطيات مبتورة لا يمكن التعويل عليها في بناء تصور عما جرى، وبالتالي لا يمكن بناء خطة علاجية على أساسها، وقس على ذلك ما هو أهم وأكثر تعقيدا فما العمل في مثل هذه الحالة؟
أعتقد أن الأمر ينبغي أن ينظر إليه من وجهة نظر أشمل من علاج فقط للوضعية المؤقتة الحالية، بل لابد من وقفة تأمل في المسارات و المآلات، و بدل محاولة عودة الأنظمة التربوية لما كانت عليه قبل كرونا – وهو وضع لم يكن مرضيا ولا حتى مقبولا – عليها أن تعمل على تحويل هذا التعثر المرحلي إلى محطة انطلاق نحو إصلاح تعليمي حقيقي متكامل يعتمد آخر ما وصل إليه الفكر الإنساني من تجارب وتقنيات في مجال تنمية الموارد البشرية، مع البناء على إيجابيات النظم القائمة دون تعصب لماض ولا انبهار زائد بحاضر.
و من نافلة القول أن الإصلاح التعليمي المرغوب سيمر حتما من مدخل مناهج التعليم التي هي عُدة مصنع تنمية رأس المال البشري، لذلك فكل الأجهزة العاملة في مجال التعليم يجب أن تخضع لعملية تحديث ضمن خطة متدرجة شاملة لتطوير المناهج، تأخذ في الحسبان كلا من متطلبات التعليم الحضوري والتعليم عن بعد.
تبدأ هذه الخطة بإعادة تحديد الأولويات و ترتيبها من جديد، تكيفا مع مستجدات الاحتياجات والخبرة الإنسانيتين، ومع مقتضيات التعليم عبر الإنترنت، وما يترتب على ذلك من تغير في الأهداف والمجالات والوظائف والوسائل.
وجهاز الإشراف بوصفه جهازا للقيادة الميدانية في المنظومة التربوية سيكون تحديثه من أولى الأولويات ليتمكن من القيام بدوره في تحديث الأجهزة الأخرى، وفي المساعدة في تصور وتنفيذ الإصلاح المنشود.
فهو وإن لم يكن صاحب قرار، إلا أن معايناته الميدانية و تقاريره تبقى ملهمة لصاحب القرار، وعليه في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ نظم التعليم، كما على غيره من ذوي الاختصاص مسؤولية لفت نظر أصحاب القرار إلى جوهرية انعكاسات التغيرات الحاصلة اليوم وضرورة الأخذ في الحسبان حقائق وضرورات لم يعد تجاهلها ممكنا وهي:
- أن المقررات الضخمة والطرق والوسائل التي كانت تعمل مع طفل الأمس الوديع، طفل دماغه صفحة بيضاء على رأي الحسيين، ولا تحيط به مشوشات بصرية ولا صوتية ولا مغريات، لم تعد صالحة مع طفل الهواتف الذكية وكل ما يوفره جوجل مما يحشو الدماغ ويضر بالتركيز.
- إن المعلم الذي كان بالأمس مصدرا معتمدا للمعلومة لم يعد كذلك، بل أصبح المتعلم في كثير من الأحيان أقدر منه على الوصول للمعلومة بلمسة أصبع على محرك بحث.
- إنه آن الأوان للتركيز على تعليم مهارات الحياة بدل حشو الدماغ بما لا يؤسس لمعرفة أو ما انعدم مجال تطبيقه.
- أنه بعد أن فعل كوفيد 19 فعلته ففرض على الجميع البحث عن بديل للتعليم الحضوري، لم يعد هناك سبب ولا وقت للانتظار والتسويف، فلابد من البدء في تحديث نظم التعليم بما يضمن الجودة لمخرجاتها.
وهذا يعني بطبيعة الحال أن تغييرا شاملا في التعاطي مع الواقع التعليمي أصبح لا مناص منه، وفي هذا الصدد لدي اقتراح للذين لم يستطيعوا بعد مواكبة تداعيات الظرف الجديد مثل بلادي موريتانيا، أن يتداركوا الموقف بخطة عمل من شقين: شق تعويضي مستعجل في العطل المدرسية، وشق استراتيجي طويل المدى، ففي الشق التعويضي أرى أن هناك خطوتين ضروريتين أيضا لابد من الشروع فيهما:
-
الشق المستعجل
تنظيم دورات تدريبية للمشرفين التربويين في أساسيات ما يحتاجه الإشراف من استخدام التقنيات والوسائل المتاحة، ليكونوا قادرين على متابعة تطوير العملية التعليمية بجد، ثم يقوم المشرفون بالتعاون مع خبراء في مجال التقنيات الحديثة على:
- تنظيم دورة للمدرسين في أساسيات ما تحتاجه عملية التعليم عن بعد من استخدام التقنيات والبرمجيات والوسائل و طرق إعداد المحتويات التعليمية.
- تصميم خطة الفترة التعويضية بحيث تعبأ جهود كل الأطراف المعنية بالعملية التعليمية بالعمل على:
- تنظيم حملة إعلامية تستهدف التلاميذ وأولياءهم لتشعرهم بخطورة استسهال الخلود إلى الراحة على مستقبل أبنائهم، وتشفع بتشبيك علاقات عملية مع روابطهم في كل مدرسة.
- دفع الحكومات للتكفل بمستلزمات متابعة الدروس للأطفال الذين لا يستطيع ذووهم التكفل بحاجاتهم وإلزام الأولياء الموسرين بتوفير مستلزمات أولادهم.
- تدريب أكبر قدر ممكن من طواقم التدريس على تقنيات إعداد محتويات تجمع الجودة والاختصار المناسب للظرفية بحيث تركز على المواد الأساسية فقط وعلى العناصر التي تشارك في بناء المعرفة تحديدا، وكذلك التدريب على استغلال ما هو متاح من وسائل تواصل، حسب ظروف كل منطقة، ومن أكثرها سهولة وانتشارا وتوفيرا للتزامن Educatoin suit . whatsapp..
- إعادة تهيئة وتنشيط الطواقم التعليمية والمتعلمين نفسيا وبدنيا بعد أن تعودوا الخلود للراحة عدة أشهر ليكونوا مستعدين لمواكبة فاعلة لانطلاقة الخطة التعويضية.
- تشكيل لجنة من ذوي الخبرة في التقويم التربوي والإداري لمتابعة وتقويم سير الخطة عبر شبكات تقويم علمية حسب محطات زمنية محددة، يرفع عن كل محطة تقرير نصف شهري يبين نقاط الضعف والقوة.
-
الشق الاستراتيجي
يتعلق الشق الثاني بمراجعة بنية المنهج وخطط التقويم والتكوين لتكييفها مع مقتضيات عالم ما بعد كرونا، ذلك العالم الذي لم تتضح بعد معالمه – وإن كان من المؤكد أنه سيختلف في بعض أساسياته عما قبله، وأن اعتماد التعليم فيه على التقنيات الجديدة سيزداد، و لن تكون هذه المرة مكملة لأساليب التعلم التقليدية فحسب، بل إن التعليم عن بعد سيدخل كخيار استراتيجي في النظم التعليمية، وذلك أمر طبيعي بالنظر لمقتضيات صيرورة التطور العلمي وكذلك نظرا لتجربة كوفيد19 واحتمال تكرارها ، مما يتطلب تأهيل المشرفين والمدرسين على تقنيات التعليم عبر الانترنت، لتوظيف مختلف البرمجيات والتطبيقات المتاحة.
يمثل هذا المقترح أحد العلاجات الممكنة، ورغم كل الظروف المحبطة قبل وبعد أزمة “كورونا” أبقى غير متشائمة بشأن إمكانية إصلاح نظمنا التربوية، بل أتوقع لها مستقبلا زاهرا، حينما تجمع إيجابيات طرق التعليم و الإشراف القديمة، مع إيجابيات طرقهما الحديثة: كالقدرة على الاستمرارية في الوقت، و التنوع و المرونة.
وبذلك تنتقل العملية التعليمية إلى فضاء أرحب، لا يقيد المدرس ولا المشرف بالزمان ولا المكان، كما أنه سيكون أكثر اقتصادية، حيث يستطيعان أن يقوما بكثير من الأعمال من بيوتهما، فبإمكان المشرف -كما المدرس- أن يشكل مجتمعا تعليميا يجمع فيه المدرسين بواسطة تطبيق مثل Google groups الذي يوفر إمكانية التواصل المتزامن وهو ما يمكن المشرف من نقاش القضايا التربوية التي تحتاج لحسم سريع مع فريقه، كما يمكنه أيضا من العمل بمرونة وحرية في الأعمال التي لا تحتاج للتزامن، فيقدم كل منهم ما يريد في وقت يناسبه، ويستقبله الآخر أيضا في وقت يناسبه.
نتمنى أن نستفيد من تجاربنا وتعمل أنظمتنا التعليمية على تحويل انتكاسة التعليم بفعل كفيد 19 إلى نصر فتواكب تطور العلم والتكنولوجيا من حولها، بل وتسعى لتصدر قافلتهما.
نتمنى كذلك أن يأخذ الجميع العبرة مما حدث بفعل هذه الجائحة التي عرت ضعف ووهن الأنظمة التعليمية القائمة وأن يقتنع القائمون على التعليم بأن رهان اليوم هو رهان العلم والخبرة، فيهيئوا حقلا مشجعا لتنمية قدرات المشرفين التربويين والمدرسين كل في مجاله، ليتمكنوا من استغلال المصادر المعرفية الإلكترونية المتجددة والتقنيات الحديثة والقديمة لصالح العملية التعليمية.
نتمنى على الله أن يرفع الوباء وأن تكون التجربة القاسية التي مرت بنا ملهما وحافزا لبناء نظم تعليم تأخذ بأسباب الجودة الشاملة.
المقال رائع، والاستعداد لكل تغيير مهم جدا قبل حدوثه، وبحاجة الى ادوات متقدمة وواضحة للاشراف لدعم المعلمين وتطويرهم قبل تقييمهم
السلام عليكم
الموضوع جدا مثير ويحكي الواقع وخاصة ان الاشراف التربوي في بعض الدول اصبح جهاز مترهل ويشكوا من علل كثرة واهمها هي عدم قدرة المشرفين على استخدام التقنيات الحديثة التي اصبحت عصب الحياة العصرية .واعقد ان الاشراف التربوي اذا ظل على هذا المنوال اعتقدفي القريب لعاجل يفقد لقدر على تطوير اداء المعلمين ودفعم للتطوير.ان النقاط التي ذكرت في المقال يجب ان تخذعلى محمل الجد من اجل السيطرة على الموقف التعليمي .دكتور كاظم عبدالله صوب الله مشرف اختصاصي تربوي /العراق بغداد
أؤيد بشدة ما ذكرته الباحثة و لعلها تكون نقطة إنطلاق لتطوير و تحسين الإشراف التربوي بما ينعكس على العملية التعليمية التعلمية مستقبلا.