يُعتبر الإنسان بطبعه ميالا إلى الكشف عن ذاته والعالم من حوله من خلال المعرفة المتعددة والابتكارات التي يتم إنجازها ووجهات النظر الثورية على ما يتم تجاوزه ويتنافى مع تطلعاته وجموحه.
وتُعتبر الاختلافات القائمة بين المُجتمعات الإنسانية في الأنماط والقيم الثقافية السائدة فيها ظواهر ثقافية شاهدة على قُدرة الإنسان على الإبداع والابتكار وتبادلها بين أصناف الفكر البشري وهواجسه، وتعتبر أحد أدوات التنوع التي تُثري تواجد الإنسان من خلال نسج هذا التراث المُشترك للإنسانية حاضرا ومُستقبلا.
ويتجلى دور الإعلام والمُجتمع المدني من منظور مُجتمع الرقميات في تصحيح المسار أو النظرة لإيجابيات التنوع الثقافي والتقريب بين الثقافات المُتعددة، والمُتمثلة في احترام القيم الدينية والثقافية والاجتماعية والحضارية لدى الأقليات وتوظيف أهم الوسائل الحديثة لنشر أفكار التسامح والتعايش داخل فضاء يتقبل تشكيلة العالم بتكويناته اللامتناهية، بهدف خلق حوار خلاق مفتوح يحترم كينونة الإنسان وإنسانيته ووجوده، وهي تلك الفطرة التي يبحث من خلالها الإنسان عن الأفضل من خلال وسائل وأدوات ترتقي بالمُجتمعات الإنسانية إلى المُستوى الحضاري الذي يليق بها فتصنع بها ثقافة التنوع والاختلاف التي لم تعهدها البشرية قبل عصر الرقمنة والمعلوميات.
وقد ساهمت وسائل الاتصال الرقمي الحديثة في ربط العالم أجمع ببعضه البعض خاصة أن المُجتمع البشري لن يتمكن من العيش في عزلة بعد هذا التحول في الرقمية والثورة المعلوماتية، فقد تغلبت وسائل الاتصال الرقمي على قيود الوقت والمسافة حيث جعل المُجتمع يتجه إلى التفاعل الجمعي والمُشاركة. ومع انتشار شبكات الاتصال وتغلغل الاتصال الرقمي في وسائل إعلام جديدة، فقد أدى هذا التطور التكنولوجي الرقمي إلى فتح آفاق جديدة للاتصال بين الشعوب، وأصبحت التكنولوجيا الرقمية في متناول غالبية الأفراد أينما كانوا، حيث أدى تطور تكنولوجيا النُظم الرقمية في مجالات الاتصال والمعلومات إلى زيادة فرص تنويع مصادر المعرفة والمعلومات والتقريب بين الثقافات المُختلفة، الأمر الذي قلص الفجوة بين الشعوب التي تسعى إلى زيادة المعرفة حول الثقافات الأخرى.
المحور الأول: الاتصال الرقمي والتنوع الثقافي
1- مفهوم الاتصال
الاتصال هو عملية تبادل الأفكار والآراء التي تتضمن الصور أو الكلمات أو الرموز، وكلمة اتصال communication اُشتقت من الكلمة اللاتينة Communes وتعني شائعا أو مألوفا، لذا فإن كلمة اتصال كلمة تعني الانتشار أو الشيوع عن طريق انتقال المعلومات والأفكار، أو الآراء أو الاتجاهات من شخص إلى عدة أشخاص، أو من جماعة إلى جماعات أخرى. ( الايباري، 1985)
ويُعرف الاتصال على أنه عملية يتم من خلالها إيصال معلومات أيا كان نوعها وشكلها من أي عضو من أعضاء الوحدة الإدارية الواحدة إلى أي عضو آخر يُقصد به التغيير. ( درويش وتكلا، 1986)
أما كولي فيعرفه على أنه ذلك الميكانيزم الذي يتم من خلاله بناء علاقة إنسانية تنمو وتطور الرموز العقلية والفكرية بواسطة وسائل نشر هذه الرموز عبر المكان واستمرارها عبر الزمان، وتتضمن هذه الرموز تغييرات الوجه والإيحاءات ونبرات الصوت والكلمات. ( عوده، 1988)
2- مفهوم الاتصال الرقمي
يُطلق مُصطلح الثورة الرقمية على العصر الحالي وذلك بعد أن تم الاندماج بين تكنولوجيا المعلوماتيات والاتصال، وتعني كلمة رقمي من الناحية التقنية أن الحروف والصور والأصوات يتم تحويلها إلى بيانات رقمية: آحاد وأصفار، ويمكن تخزينها ومعالجتها وإرسالها بواسطة أجهزة الحاسوب.
ويُعرف الاتصال الرقمي Digital Communication بأنه المهارة الأساسية لمُعظم الأعمال التي يجب أن يكتسبها الفرد في إطار المفاهيم، والإنتاج والتوصيل والاستقبال لوسائل الاتصال في وظائفهم وحياتهم، حيث أن الاتصال الرقمي هو القدرة على خلق الاتصال الفعال من مُختلف الوسائل الرقمية. ( عبدالحميد،2007)
3- مفهوم الثقافة
كلمة ثقافة Culture هي كلمة مُشتقة من الفعل اللاتيني Colere وتعني الزراعة، وأصبحت الكلمة تُستخدم للتعبير عن زراعة الأفكار والقيم. وقد مضى بعض المُفكرين والعلماء في التفرقة بين مُصطلحي الحضارة والثقافة في ألمانيا في القرن السادس عشر، إذ قال “توماس مان” أن الثقافة: هي الروح الحقيقية، بينما الحضارة هي المكننة الآلية، وقد وصف العالم الألماني “ألفرد فيبر Weber الحضارة بأنها: المجهود الإنساني للسيطرة على الطبيعة . (مُرسي، 1989)
أما اصطلاحاً، فهناك العديدُ من التّعريفات للثّقافةِ ومنها: هي مجموعةٌ من العقائد والقيم والقواعد التي يقبلها أفرادُ المُجتمع، ،وتُعرفُ أيضاً بأنّها المعارف والمعاني التي تفهمها جماعةٌ من النّاس، وتربطُ بينهم من خلال وجود نُظُمٍ مًشتركة، وتُساهمُ في المُحافظةِ على الأُسسِ الصّحيحة للقواعد الثقافيّة. وتعرف الثقافة أيضاً على أنها وسيلةٌ تعملُ على الجمعِ بين الأفراد عن طريق مجموعةٍ من العوامل السياسيّة والاجتماعيّة، والفكريّة، والمعرفيّة، وغيرها من العوامل الأخرى. (الموسوعة العربية العالمية، 1999)
4- التنوع الثقافي
وهو وجود العديد من الثقافات في مؤسسة مُعينة أو في مُجتمع أو في العالم، وهو عبارة عن مجموعة من الثقافات المُختلفة والمُتنوعة، وقد تُشير إلى وجود العديد من الثقافات المُتنوعة والتي تحترم بعضها البعض حيث يتم استخدام هذا المُصطلح في الكثير من الأحيان في الثقافات المُجتمعية. وتختلف الثقافة بشكل تام في الكثير من المُجتمعات مثل التقاليد واللباس واللغة، ويوجد العديد من الاختلافات بين المُجتمعات في طريقة تنظيم أنفسهم، وتصورهم للأخلاق بالإضافة إلى طريقة تفاعلها مع البيئة. ومن مظاهر التنوع الثقافي اللغة: حيث تميّزت الحضارات والأمم بلغاتها الخاصة على مرّ العصور والأزمان، وهي تُعتبر الركن الأساس الذي تقوم عليه الثقافة، كما أنها تُعد أحد مظاهر الاختلاف بين الحضارات والأمم، حيث نجد كل أمّة تفتخر وتتباهى بمزايا لغتها بالإضافة إلى أنها تحرص على تعليمها للجميع بشكل دائم، فهي البوابة التي تستخدم للتعرف على جميع الحضارات، والتمازج بين الشعوب في كافة أنحاء الأرض. ويُعتبر الدين من أهم مظاهر التنوع الثقافي. أما العادات والتقاليد فتعُتبر على رأس الاختلاف الثقافي والحضاري بين الأمم، حيث تحرص الأمم على توريث جميع عاداتها وتقاليدها للأجيال التالية من أجل الحفاظ عليها ومن أجل أن تُميزها عن غيرها من الشعوب والأمم.
وتشكل الاختلافات القائمة بين المُجتمعات البشرية في الأنماط والقيم الثقافية السائدة فيها والماثلة في داخلها ظواهر ثقافية تعترف بقدرة الإنسان على الإبداع والابتكار وتبادلها بين أصناف الفكر البشري وهواجسه، وهذا التنوع يُثري تواجد الإنسان من خلال نسج هذا التراث المُشترك للإنسانية في الحاضر والمُستقبل. (بواغراس، 2016)
وقد أصبح للتواصل الرقمي دوراً في التنوع الثقافي والتقريب بين البشر، وكذلك رافداً من روافد احترام الأقليات الدينية والثقافية ووجودها لا دافعا من دوافع إثارة الفتنة والعنف ونهج سياسة الإقصاء والمحو الذي يسعى إلى طمس الذات وطمس الهوية ولا منهجا لظهور الطائفية المُتشددة واستنبات توتراتها وتقلباتها العدوانية الساعية إلى التفرقة والتشتت، وهذا ينتج من خلال التواصل والحوار الساعي إلى تعلم لغات جديدة أصبح لها دور في حياة الفرد بالإضافة إلى الاطلاع على ثقافات الشعوب الأخرى، والقدرة على معرفة مكنوناتها…