التدريس بناء له ركائز راسخة بنتائج البحوث التربوية والنفسية، والنظريات المفسرة له، والفلسفة التي تضفي عليه الشرعية وتمنحه المسوغات العلمية. وفي ظل الثورة المعرفة والعلمية الهائلة التي تشهدها الساحة التربوية في هذا العصر-عصر الانفجار المعلوماتي الضخم والمتجدد- باتت الضرورة ملحة في إيجاد إطار جديد يرسم متطلبات التدريس وملامحه بمنظور حديث، ويجري بها توظيف ذلك واستثماره في إنجاح عملية التدريس؛ إذ أن نجاح العملية التعليمية برمتها، متوقف بشكل أساسي على عملية التدريس الصادرة من المدرّس، ودوره في التأثير الإيجابي، وقدرته على توصيل المعرفة وإكساب المهارة لطلبته، ومدى كفاءته في مواجهة التحديات والصعوبات في الميدان.
ولمهنة التدريس مكانةٌ مرموقةٌ في المجتمع بشكل عام والمجتمع التربوي بشكل خاص، فقد حظيت بقدر كبير من اهتمام صناع القرار في السياسيات التربوية، بتسليط الضوء على التدريس، والكشف عن أسراره وبدل الجهود من أجل الرقي بممارساته التي تعود بالنفع على المجتمع. بجعله مجتمعاً معرفياً قوياً قادراً على مواجهة التحديات، وعاملاً من عوامل رِفعة الوطن.
والتدريس موقف أو فكر ينطلق منه المدرس في أدآئه لعملية التدريس، وهو محصلة خبراته، وما يتاح له في أثناء مرحلة الإعداد والتدريب، فضلاً عن اتجاهاته، والقيمة الحاكمة لسلوكه التدريسي. إن أفضل من يؤدي عملية التدريس بشكل علمي وفني هو المدرس المحيط بالفكرالتربوي والتعليمي، المحب لمهنته والمطلع على نظريات التدريس. ولا بد من امتلاك الكفايات، ففيها يصبح المدرس قادراً على الأداء وحل المشكلات في الغرفة الصفية. وفي التدريس تجري عملية أداء فعل معقد بنشاط معين على نحو متقن، والمدرس هنا يؤدي معاً مهارات حركية ولفظية وعقلية، موظفاً الاستراتيجيات والطرائق المختلفة. وإن التدريس بعد ذلك هو حقيقة، وتعزيز، وتغذية راجعة، وتقنيات، وفكر تربوي، وتنمية مستدامة، وقيم، و ذكاءات متعددة، أهمها الذكاء العاطفي.
و ينظر التربويون إلى المدرس بأنه الشخص المؤهل تربوياً، والمتمكن معرفياً من تخصصه، والماهر في توصيل المعرفة بكل كفاءة وقدرة، والمتسلح بالمهارات الذاتية من الاتصال والتواصل، وأنه يمارس أدواره الجديدة بكل اقتدار. وعلى كاهل المدرس واجب اتجاه المسؤولية الملقاة عليه، وهي بذل الجهد في معرفة المتطلبات، والتسلح بالمعرفة العلمية، وكيفية الوصول إلى الطريقة التي تجعل من ممارساته التدريسية ناجحةً تخدم التطلعات، وتحقق الأمال المرجوة منه. وهنالك مسؤولية اتجاه المدرس من التربويين تتمثل في تدريبه وتأهيله، من أجل امتلاك المهارات الجديدة في ضوء هذه المتطلبات.
إن المدرس المؤهل يُنجِح العملية التعليمية، ويذلل الصعوبات والتحديات التي يمكن أن تواجهه؛ لأنه يعد حلقة الوصل بين المنهاج الذي يضم في ثناياه المادة الدراسية من معلومات ومهارات، وبين الطلاب، وهو المترجم للمادة النظرية، باستخدام المناسب للطلبة من استراتيجيات وطرائق وأساليب. فضلاً عن أن المدرس هو الركيزة الأساسية في بناء الصرح التربوي، والروح التي تمنح الحياة لجسد التربية، إذ لا فائدة مرجوة من أي تطوير للعملية التعليمية، ما لم يكن المدرس قادراً على ترجمة هذه التطلعات من برامج ومناهج وممارسات إلى أرض الواقع في الغرفة الصفية. ومن هنا وجب تمكين المدرس برفع كفاياته، وتحسين مهاراته التدريسية. فقد يمتلك المدرس ذكاءً عالياً ومؤهلات علمية عليا، وشهادات ودورات مختلفة، ولكن لا يمتلك التطبيق الصحيح لمهارة التفاعل الجاذبة مع طلبته، وتكوين علاقات إيجابية نشطة معهم، ومع ذويهم. لذلك تأتي من هنا أهمية الممارسات التدريسية الحديثة، التي تنتج مدرساً متميزاً مبدعاً متفرداً في حصته المتفاعلة الممتعة وأنشطته المختلفة وطرائق تدريسه الجاذبة، ومن أجل ذلك لا يكتفي المدرس بتطوير أدائه فحسب، بل أن يطور قدرته على التأثير في طلابه.
و ينظر إلى التدريس بمفهومه الحديث بأنه الممارسات التدريسية التفاعلية التي تجعل من الطالب محوراً للعملية، نشطاً متفاعلاً، وهذا يشير إلى نوعية وكفاءة العملية التدريسية، ويقال بأن التدريس الفعال يعلم المتعلمين مهاجمة الأفكار لا مهاجمة الأشخاص، وهذا يعني أن التدريس الفعال يحول العملية التعليمية التعلمية إلى شراكة بين المدرس والمتعلم، بهدف توفير المعرفة والمهارة وتعميق الوجدان والخبرة، لتنمية شخصية الطالب بكل جوانبها.
و يستخدم المدرس المبدع الحواس والإيماءات و التمثيلات غير اللغوية والإشارات وحركات الجسد ويوظفها في ممارساته التدريسية، وفي هذه الحالة يصبح الاتصال أكثر فاعليةً وترسيخاً وثباتاً عند الطالب، مما يؤدي إلى تدريس فعال، يُحسن من تعلم الطالب، ويعالج الخلل في اعتماد الطالب على حاسة دون أخرى، إذ يستطيع أن يطبق المدرس استراتيجيات متنوعة تخدم ذلك في ضوء معايير الجودة.
و تعد لغة الجسد من الموضوعات الحديثة التي سلط الضوء عليها تربوياً، بوصفها مهارة تمكن المدرس من اكتساب القدرة والكفاءة اللازمة، ليصبح مميزاَ في ممارساته التدريسية، وقادراً على إدارة صفه، وميسراً للمعرفة بشكل فعال، ومتصلاً إيجابياً مع طلبته. ومحققاً للأهداف التربوية المختلفة. ولغة الجسد تعين المدرس في حياته العملية والعلمية والاجتماعية على أن يكون في مصاف المبدعين على مستوى الاتصال والتواصل والتأثير الإيجابي، والوصول إلى النجاح في تحقيق الهدف. وللغة الجسد الأثر الكبير في عملية التدريس، إذ إنها تعكس مهارات وقوة المدرس أمام طلبته، فهي خير دليل وبرهان على شخصية المدرس التربوية المؤثرة وصدقه في المعاملة، وإظهار حزمه وحكمته في الادارة، وفن التعامل مع المواقف داخل الغرفة الصفية.
والملاحظ في هذا الصدد غياب استهداف هذه المهارة في البحوث والدراسات والدورات التدريبية في معظم الدول العربية، علاوةً على نُدرة الكتب والمؤلفات التي تتناول لغة الجسد في العملية التعليمة، وقلة الكتب في المكتبة التربوية العربية، و على العكس من ذلك تحرص معظم الدول المتقدمة على إقحام هذه المهارة في قطاعات الحياة المختلفة، ومنها القطاع التربوي، على غرار استهداف واضح المعالم للغة الجسد في القطاعات السياسية والاقتصادية والإعلامية والتربوية. وهذا ما لا نجده في دولنا العربية.
وهنالك ثغرة أخرى- من وجهة نظري- تكمن في ضعف المعرفة العلمية الصحيحة في التدريس، والمصطلحات المتعلقة به، وما ينبثق عنها من نظريات ومتطلبات، والتعرف إلى طبيعته. وما هي الممارسات التدريسية المرغوب فيها، فضلاً عن حالة عدم الاستقرار والثبات في الإجماع والاتفاق على مدلولات التدريس ومصطلحاته، بالرغم من كثرة الكتب والمؤلفات التربوية في هذا الحقل، فنجد تخبطاً واضحاً في تحديد معالم التدريس لفظياً، وتمييز مصطلحاته ومعرفة أبعاده بطريقة سليمة. مما يترك ثغرةً معرفيةً مهمةً في هذا الجانب.
أرى أن تهتم السياسات التربوية بمواكبة التطعات الجديدة في العلمية التعليية التعلمية بالتركيز على الممارسات التدريسية الجديدة كتوظيف مهارات لغة الجسد، واستخدام التمثيلات غير اللغوية، فضلاً عن بناء عمق معرفي صحيح وغير مشوه لمفهوم التدريس ليشكل بناء صلبا لصرح التعليم بقواعد تربوية صلبة.
برامج مفضلة لدي
عمل يستحق كل الشكر و االثناء . بارك الله في الجهد المبذول
أتّفق مع الباحث د. محمّد عيد قرعان في الدور المركزيّ والحاسم
للمدرّس في العمليّة التعليميّة – التعلّميّة، من هنا ضرورة الاختيار
السليم والدقيق لمن يلتحق بهذه، وإعداده وتأهيله بصورة ناجعة.
وبحسب رأيي وتجربتي أضيف: النجاح والتميّز في مهنة المدرّس
تحتاج للموهبة والمعطيات الفطريّة، ثمّ عمليّة الإعداد والتأهيل؛
فالتدريس مهنة تكتسب، وفنّ وموهبة في الأداء والتعامل.