يعاني المجتمع المغربي من “باثولوجيا اجتماعية”، تعبر عن حالة اللاثقة التي تواجه بها المدرسة العمومية من قبل الآباء وبالأخص على مستوى الحواضر.
قبل الوقوف عند مسببات هذه الوضعية لعله من الضروري العودة إلى جذور ظاهرة عدوى التعليم الخاص بالمغرب. لهذا الغرض نقترح مناولة تنتقل بين بارديجمات تاريخية، اقتصادية، وبيداغوجية. فالفهم الصحيح لأزمة التعليم بالمغرب يفرض علينا مقاربة مركبة تنفتح على جذوره التاريخية، معطياته الاقتصادية وأبعاده الاجتماعي، وأيضا مشروعه البيداغوجي. ودون أن تحجب عنا هذه المؤشرات حالة الحنق الاجتماعي الذي يغذيه إفلاس المشروع المدرسي في المغرب.
1- تاريخيا
ارتبطت تجربة المدرسة الخاصة في المغرب بتطور مرحلي قد يجوز لنا حصره في أربع محطات أساسية شهدت تحولات جذرية على مستوى سيرورتها التأسيسية:
1–التعليم الاستعماري:
كما يسميه محمد عابد الجابري في كتابه “أضواء على مشكل التعليم”،1 حيث يتناول الجابري في كتابه هذا بتفصيل السياسة الفرنسية الكولونيالية فيما يخص التعليم، مخططاتها، أهدافها، ونتائجها في مرحلتي الاستعمار و ما بعده ويقف بإسهاب عند ما دافع عنه Paul Marty أبرز منظري الفكر الاستعماري الفرنسي في المغرب.
أولى مراحل مؤسسة التعليم بالمغرب كانت إذا مؤطرة ضمن قوالب الفكر الاستعماري المتمثلة في مؤسسات كولنيالية تقدم لتعليم فرنسي خاص بأبناء المعمرين وتسعى لاستقطاب أبناء الأعيان خدمة لاستراتيجيات التطويع و الإدماج في السياسة التعليمية الاستعمارية لفرنسا و التي استهدفت البرجوازية المغربية التجارية، العقارية و الزراعية حتى تكون حليفا لها في تنفيذ ايديولوجيتها الاستعمارية. أما أبناء الفقراء والفلاحين فيؤهلون لأعمال حرفية تخدم المشاريع الاقتصادية للمستعمر.
ثم أنشئت بعد ذلك مدارس الرابطة الإسرائيلية لأبناء اليهود المغاربة التي ارتبطت بظهير الحرية لليهود 2. الذي أصدره الملك محمد بن عبد الرحمن سنة 1864 والذي سيشكل نقطة بداية نشاط الرابطة الإسرائيلية العالمية بالمغرب التي ستعمد الى إنشاء العديد من المدارس الإسرائيلية بالمغرب ‘تقدم لأبناء اليهود المغاربة تعليما عصريا يلقن باللغة الفرنسية و يعلم اللغة العبرية ‘ 3
الى جانب بعض مؤسسات البعثات الأجنبية التي تم إنشاؤها منذ سنة 1908 يحصرها محمد عابد الجابري في: 13 مدرسة إسبانية و4 إنجليزية. إضافة الى مدارس فرنسية عديدة في مرحلة ما قبل الاستعمار الفرنسي4.
وكنتيجة لهذا الطابع الأجنبي للتعليم الكولنيالي فإن»: الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب المغربي قد بقيت طول عهد الحماية بدون تعليم، وإذا كان هذا يرجع بالدرجة الأولى إلى تخطيط رجال الحماية، فهو يعود كذلك إلى مقاطعة الشعب المغربي للمدارس التي أنشأتها فرنسا بالمغرب. لقد كان جل التلاميذ لا يتمكنون من إنهاء السلك الذي ينتمون إليه، بل يُطردون أو ينقطعون دون مستوى الشهادة الابتدائية، مما جعل الآباء يدركون أنه لا فائدة في إرسال أبنائهم إلى المدارس ما داموا سيغادرونها بعد حين، دون الحصول على أية مؤهلات تضمن لهم وضعية أفضل عندما يلِجون الحياة العملية. أضف إلى ذلك أن مصيرهم بعد التعليم، إذا تعلموا، كان حتما العملَ مع سلطات الحماية، إما في الإدارة وإما في المؤسسات الاقتصادية الفرنسية، الشيء الذي كان يؤهلهم لأن يصبحوا متعاونين بشكل أو بآخر مع الحماية الفرنسية، مما كان يعد خيانة وطنية «كما ذهب لهذا محمد عابد الجابري.
إذن ومنذ بدايته ارتبط التعليم الخاص في المغرب ببارديجمات النخبوية والفئوية في إطار ما يسميه محمد عابد الجابري ب: “انتقاء زبناء المدارس على أساس طبقي و فئوي ديني و اجتماعي .«6
2– التعليم الوطني:
مواكبة لهذه المرحلة الكولونيالية و لمقاطعة التعليم المفرنس المخالف للهوية الجماعية المغربية، عمد بعض من الأعيان المغاربة إلى إنشاء مدارس وطنية خاصة تكفل تعليما وطنيا أصيلا لم تمتد إليه يد المستعمر وذلك مع مطلع سنة 1944، سعيا منهم إلى » النضال من أجل الاستقلال ونشر الثقافة الإسلامية بشكل أقل جمودا مما كان عليه الأمر من قبل « . 7 وهذا شكل النواة الأولى لمفهوم المدرسة المغربية.
3–المرحلة الثالثة:
ارتبطت المؤسسات الخاصة في تجربتها الأولى برياض الأطفال وسط الأحياء السكنية قبل أن تنتقل إلى تجربة المدارس الابتدائية الخاصة، لتظهر موجة جديدة من مدارس خاصة على مستوى التعليم الابتدائي تهم أبناء الفئات الميسورة وتقدم تعليما نخبويا على نمط مدارس البعثات الأجنبية. وأمام نجاح تجربة المدارس الابتدائية الخاصة انتقلت التجربة إلى الاشتغال في الإعدادي والثانوي التأهيلي.
في سنوات الثمانينات خصصت مدارس خاصة لإعادة إدماج التلاميذ المفصولين أو الفاشلين دراسيا في المدن، لتتحول مع الألفية الثانية إلى استقطاب المتمدرسين بمختلف الأسلاك. ولا زالت تجربة التعليم الخصوصي مستمرة على مستوى التعليم العالي رغم ما يشوبها من عوائق بالأخص على مستوى معادلة الشواهد. وفي حالة كليات الطب الخاصة وما صاحبها من جدال اجتماعي طيلة السنة الجامعية 2019-2018 خير مثال على حالة التخبط وغياب سياسة واضحة للتعليم الخصوصي بالمغرب، وإن كان ينبغي الإشارة الى أن تجربة المدارس والكليات الخاصة بالمغرب مازالت تجربة فتية زمنيا، لنشهد في العشرية الأخيرة ظهور أنماط جديدة للمدارس الخاصة تروج لاستراتيجيات انجلوساكسونية، انجليزية، كندية وأمريكية… وظهور موضة “المدارس الأجنبية” كشكل آخر من أشكال هجر المدرسة الوطنية. فهل حل أزمة التعليم يكمن في تغيير الانتماءات البيداغوجية؟
4–المرحلة الرابعة:
بعد الألفية الثانية ستتغول المدارس الخاصة في ساحة التعليم المدرسي وتصبح بديلا عن مدرسة عمومية سلم بفشلها. فلن يعد تمدرس الأبناء في مدارس خاصة ترفا اجتماعيا وإنما ضرورة ملح، وهذا ما يؤكده التقرير الخاص ب Global Initiative for Economic، Social and Cultural Rights الذي يوضح بان نسبة المتمدرسين في القطاع الخاص قد شهدت زيادة بنسبة تفوق % 4 1الى حدود سنة 2013. 8 إذ جاء في هذا التقرير أن نسبة المتمدرسين بالتعليم الخاص في المرحلة الابتدائية قد انتقلت من نسبة 4% سنة 1999 الى %14 سنة 2013 بمعدل 6% زيادة سنوية.
وفي قراءة توقعية أكد نفس التقرير أن نسبة التلاميذ المتمدرسين بالخاص ستبلغ 24 % من مجموع المتعلمين سنة 2020 %30 سنة 202352 %. في سنة 2030، لتصل الى % 97 سنة 2038.
نفس المصدر يؤكد على فئوية القطاع الخاص وما يغذيه من فوارق اجتماعية كما جاء من قبل في تقرير الأمم المتحدة الفقرة 30. هذا التقرير الأممي يسجل تزايدا مضطردا في قطاع الاستثمار بالتعليم الخاص. إذ يعتبر أن الدولة تساند التعليم الخاص بشكل ضمني في ظل غياب رقابة صارمة على القطاع من قبلها. وينادي التقرير بضرورة الحد من حالة اللامساواة في التعليم بالمغرب والتي تؤكدها مؤشرات النجاعة والتفوق التعليمي التي تفصح عن فوارق صارخة على مستوى المهارات القرائية واللغوية بين أبناء الخاص والعام من جهة وبين أبناء المدن والبوادي من جهة أخرى.9
إجمالا تعبر السيرورة التاريخية لظاهرة التعليم الخاص بالمغرب عن وضعيات انتقال على مستوى الفئات المستقطبة من جهة أولى وعلى مستوى الأهداف التعليمية من جهة أخرى. فبعد أن كان التعليم الخاص برجوازيا عميلا للمستعمر تحول إلى تعليم نخبوي، فتعليم اختياري ذاتي التمويل يتوافق والحاجات الاقتصادية للفئات المتوسطة بالمغرب.
فكيف يغذي التعليم الخاص الفوارق الاجتماعية والطبقية؟
يرى العربي ابعقيل في التعليم الخاص اليوم مسا بالحق في التربية والثقافة، مؤكدا أن تشجيع الخاص تهميش للعمومي طالما أن انتقائية التعليم الخاص وفقا لمعايير اقتصادية بالأساس تكريس للهوة الاجتماعية بين الطبقات وإقصاء لسكان البوادي على الخصوص 10 ، فالولوجية للمدارس الخاصة لا تتحدد وفقا لمعايير موضوعية وإنما تبعا للقدرة الشرائية للآباء. ولأن المدرسة في التمثل الاجتماعي ترتبط بالتفوق في السلم الاجتماعي وضمان مستقبل أفضل للأبناء فان الآباء ينخرطون بجهد مالي أكبر في تدريس أبنائهم كما يدفع بذلك ابعقيل.11
ينتج عن هذا أن “الاستثمار في تمدرس الأبناء يظل الهدف الأكبر بالنسبة لكل الطبقات الاجتماعية بغض النظر عن قدرتها الاقتصادية”12. ذلك أن التفوق الدراسي خاصة في المسالك العلمية هو الشرط الأساسي لولوج المدارس العليا وكليات الطب والصيدلة ذات الاستقطاب المحدود. وهنا تتضح معالم إشكالية أخرى في أزمة التعليم بالمغرب تولدت عن “أرثدوكسية العلوم” في التمثل الاجتماعي، فالتلميذ النجيب هو من يختار المسلك العلمي. لتبقى مسالك الآداب والعلوم الإنسانية طوابير انتظار لمن لم يحالفه الحظ في الرياضيات والفيزياء. لهذا نجد المدارس الخاصة تراهن على علمية مناهجها ومقرراتها وترفع شعارات تمجد التوجهات العلمية بل وتتاجر أحيانا ببيداغوجيات دول أبانت عن تفوقها في حقل تدريس العلوم.
نحن إذن أمام تنام مفرط للتعليم الخاص على حساب التعليم العمومي المجاني، وأمام راديكالية بيداغوجية تساهم فيها بشكل أو بآخر المدارس الخاصة. لنجد أنفسنا في النهاية أمام سياستين مدرسيتين في المغرب.
ولعل ما يثبت صحة ما رأى فيه ابعقيل إضرارا بالحقوق الأساسية للمواطن المغربي تقرير الأمم المتحدة الصادر في ماي 2006 والذي يحذر المغرب من تنامي التفاوت الصارخ بين التعليمين الخاص والعام متحدثا عن “تعليم بيثيرتين مختلفتين“13.
هذه الازدواجية من شأنها المس بالحق في تكافؤ الفرص وتعزيز الهوة بين المدينة و البادية. فهل في التفكير في إنشاء مدارس خاصة بالأوساط القروية حل لحالة اللاعدالة التعليمية هذه؟
2-اقتصاديا
في تقريره السنوي لسنة 2018، أكد بنك المغرب أن قطاع التعليم قد حقق نجاحات على جميع الأصعدة لا من ناحية المردودية الاقتصادية ولا من ناحية الأسعار. على مستوى الأرباح حقق التعليم الخاص زيادة بنسبة أكثر من 47 في المائة. أما على مستوى رسوم التمدرس، فقد انتقلت الزيادات من 3.2% الى %3.8 من نفس السنة. وإن كانت الأسعار لم تشهد زيادات ملفتة إلا أن نسبة الأرباح توضح الإقبال المتزايد على التعليم الخاص في المغرب.14
إذن كقطاع استثماري فإن سوق المدارس الخاصة قطاع مربح. ولعل هذا ما يبرر التهافت على إنشاء مؤسسات خاصة. لكن ماذا عن تدخل الدولة لتقنين القطاع وتنظيمه؟ ماذا عن جودة الخدمات؟
ظهير 1.00.202 الصادر في 15 صفر 1421الموافق ل 19 ماي 2000 يعد بمثابة النظام الأساسي للتعليم المدرسي الخاص بالمغرب. يعرف هذا النظام في بابه الأول المتعلق بأحكام عامة التعليم الخاص في مختلف الأسلاك، ليشير في بابه الثاني إلى التزامات المؤسسات الخاصة على مستوى المناهج الدراسية وضوابط اشتغالها. البابان الثالث والسادس يقفان عند المتابعة التربوية والإدارية لأطر المؤسسات الخاصة من قبل أكاديميات التربية والتكوين.
في حين لا يشير هذا النظام الأساسي إلى ضوابط تحديد الواجبات الشهرية للمسجلين في هذه المؤسسات. مما يفتح النقاش بشأن رسوم التمدرس وواجبات التأمين والسقف الأعلى للأسعار. ولعل إغفال المشرع لهذا الأمر هو ما يفسر الربحية العالية لأرباب المدارس الخاصة.
رغم كل هذا ورغم ارتفاع الأسعار وما يصحبها من زيادات سنوية في الرسوم كيف يمكن تفسير الإقبال المتزايد على المدارس الخاصة؟
في محاولة منا لتفسير هذا الوضع قمنا باستبيان على موقع surveymonkey تحت رابط : https://mobile.surveymonkey.com/web/surveys/270341295?from=surveys عبر من خلاله المستجوبون وهم أكثر من 100مشارك، أغلبيتهم من الطبقة المتوسطة بالمغرب، عن موقفهم من التعليم الخاص، وذلك من خلال الإجابة عن استمارة من 5 أسئلة.
جاءت نتائج هذا الاستقصاء كالآتي:
-97% يتمدرس أبناؤهم بالقطاع الخاص بنسبة %69 في الابتدائي %16 في الإعدادي %12 بالثانوي التأهيلي و3% فقط بالتعليم العالي.
-أما بخصوص ما يصرفه المستجوبون شهريا على تمدرس أبنائهم فعبرت نسبة 49 %على أنها تؤدي أقل من 2000درهم شهريا، في مقابل %6 تؤدي أقل من 500درهم، ونسبة 24% تلتزم بأكثر من 3000درهم لتمدرس أبنائها بالمدارس الخاصة.
مما يوضح التكلفة الباهظة للتمدرس بالخاص مقارنة بمتوسط دخل الطبقة المتوسطة. لكن رغم هذا العبء الاقتصادي ما الذي يبرر لجوؤهم للتعليم الخاص؟
-أجابت نسبة 36% أنها تبحث عن الأمن والانضباط الذي توفره المدارس الخاصة من خلال مراقبتها الصارمة لتغيبات التلاميذ.
-أما 36 % أخرى فأقرت أنها تسعى خلف جودة التعلمات التي تسوق لها المدارس الخاصة.
-15% فقط عبرت عن أن إكراه الزمن الدراسي يبرر إقبالها على الخاص فمواقيت العمل هي التي تلزمها بذلك.
-وعن مدى استعدادهم للعودة الى التعليم العمومي عبر %13 فقط من مجموع المستجوبين عن رفضهم القاطع للعودة للمدرسة العمومية. بينما أبدى البقية استعدادهم النسبي لهذا.
-وفي سؤالهم عن دوافعهم لذلك، تراوحت إجاباتهم بين اعترافهم بإنهاكهم المادي بسبب التكلفة المرتفعة. بعضهم ذهب الى التنديد بالطابع التجاري الصرف للتعليم الخاص وجشع بعض المستثمرين في القطاع الخاص وتغييبهم للعامل الإنساني. آخرون أكدوا على ضعف مردودية المدارس الخاصة مقارنة بحجم تكلفتها، فيما صرحت فئة بضعف التكوين البيداغوجي لأساتذة القطاع الخاص، البعض نادى بضرورة تحقيق المساواة أمام التعليم، كما وقف بعضهم الآخر عند ما تشهده المدرسة العمومية من مشاكل تتعلق خاصة بشروط الأمن والجودة.
يتضح إذا أن قطاع التعليم الخاص كقطاع استثماري يفصح عن نجاعته كمشروع ربحي. أما من زاوية اجتماعية فانه يعري حالة الازدواجية على مستوى الرغبات والأفعال في الذهنية المغربية. فالمغاربة و إن استنكروا شجع نسبة كبيرة من المدارس الخاصة و عشوائية اشتغالها و تغييبها لشروط الجودة و الكفاءة المهاراتية و التواصلية إلا أنهم رغم هذا غير مستعدين للعودة الى حضن مدرسة عمومية مفلسة في اعتقادهم. ولعل في مشكلة الظهور الاجتماعي تبريرا آخر لاختيار التعليم الخاص، فالتخلي عن تمدرس الأبناء في مدارس خاصة قد يبدو كنوع من المغامرة غير محسوبة العواقب في نظر البعض، هو أيضا بالنسبة لقلة منهم شكل من أشكال التمرد على النظام الاجتماعي.
التعليم الخاص إذن كظاهرة يعبر عن حساسيات اجتماعية متعددة في البنيات الذهنية للمواطن المغربي.
3-بيداغوجيا
امبريقيا أعداد المدارس الخاصة في المغرب ضخمة، لكن ماذا عن جودتها؟
المدرسون في المدارس الخاصة أغلبهم تحصلوا على شواهد جامعية وقلة منهم فقط لديهم شواهد مهنية تؤهلهم لحقل التدريس. وإن كانت الاجازات المهنية التي توفرها الجامعة المغربية في العقدين الأخيرين قد أسهمت في الرفع من جودة تكوين العاملين في القطاع الخاص، ليعود بنا النقاش إلى غياب التخطيط لفلسفة تعليمية واضحة في استراتيجياتنا التعليمية، إذ نجد أنفسنا في الغالب أمام مشاريع ديداكتيكية هجينة.
قبل أن نسترسل في الحديث عن خارطة طريق للتعليم بالمغرب، لا بأس أن نقف عند غياب الجانب الديداكتيكي في تكوين أغلب أساتذة التعليم الخاص. هكذا يجد المتعلمون أنفسهم أمام أساتذة وإن كانوا يمتلكون المعرفة، لكن ينقصهم التكوين النظري على مستوى آليات التدريس، طرائقه، آليات ضبط المتعلمين والتعامل مع بنياتهم النفسية، أساليب الاشتغال مع ديناميات فصلية متعددة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المقاربات البيداغوجية لمدرسة أطفال “جيل الأصابع” تجمع في أغلبها على أن الأستاذ اليوم لم يعد يحتكر المعرفة وإنما يكتفي فقط بتسيير العملية التعلمية. على هذا الأساس يفترض في الأستاذ أن يمتلك مهارات تسيير الجماعات وضبط شبكات العلاقات داخل القسم.
تحررت مدرسة الألفية إذن من عمودية العلاقة بين الأستاذ و متعلميه إلى أشكال علائقية أقل فوقية بفعل ما تسميه حنا ارندت بمبدأ “الطفل الملك المستقل في عالمه عن الراشدين” في رفضها للأيديولوجيات الديداكتيكية الجديدة التي تخلت عن مفهوم سلطة المربي15، لتعلن ارندت أن أزمة الثقافة العالمية تتجذر بالأساس في تنازلها عن مفهوم السلطة،16 واقتصار دور المربي على المصاحبة و التوجيه، و هذا ما يفسر تلاشي مفهوم القدوة والمثل الأعلى بل وأيضا ما يفسر لاقدسية (la désacralisation) دور المدرس اليوم وهو الذي كان سابقا مرجعا معرفية وأخلاقية.
من جهة ثانية تمويل الآباء لتمدرس أبنائهم بشكل مباشر خول لهم حق المراقبة طالما أن المدارس الخاصة تتسابق وتجتهد لإرضاء ميولاتهم، ليجد المدرس نفسه مطالبا باقتسام سلطته البيداغوجية مع أولياء الأمور، الأمر اليي يطرح إشكالية موضوعية التقويم والتعليم ويغذي من جديد معايير النخبوية والانتقائية.
من زاوية مغايرة لا يتعامل المعلمون مع عقول جافة بل مع بنيات نفسية مركبة ومتعددة، وفي غياب تكوينات في حقول علم النفس التربوي والسلوكي يصبح من الصعب على المربي تسيير الفصل الدراسي. لذلك من الملح برمجة تكوينات عملية لفائدة أساتذة الخصوصي على نمط التعليم عن بعد e-Learning على منصات تعليمية تعزز التكوين الذاتي و المستمر خاصة في حقول البيداغوجيا، علم النفس التربوي، أنثروبولوجيا التربية و أدبياتها. كما ينبغي التفكير في تفعيل آليات المصاحبة البيداغوجية للمدرسين. وقد يكون من المجدي أيضا انفتاح المدارس الخاصة على التدريبات في المدارس العمومية، فمدارسنا العمومية وإن أشهرت إفلاسها إلا أنها تحتضن خبرات وكفاءات عملية راكمتها سنوات العمل الميداني.
أية بدائل؟
خوصصة قطاع استثماري لا يمكن ان تعني بأي حال من الأحوال تخلي الدولة عن سلطتها التنظيمية. لذلك من الجانب القانوني، على المشرع المغربي مواكبة تطور قطاع التعليم الخاص بالمغرب وتنظيم فوضى هذا القطاع عبر سن قوانين تنظيمية وزجرية وذلك باللجوء إلى مساطر المحاسبة الإدارية والقانونية. كما ينبغي تفعيل قوانين الشغل بالنسبة لمدرسي القطاع الخاص، فهم وإن أغفل الحديث عنهم يشكلون محور عملية التعليم الخاص. لذلك لا بد من العمل بنظام الكفاءة المهنية بالنسبة لمدرسي الخصوصي وإخضاعهم لضوابط ترقية وتدرج مهني.
يمكن إذا تبني استراتيجية “مدرسة خاصة مواطنة” وذلك عبر إلزام المؤسسات الخاصة بالاستثمار في العمل الاجتماعي كشكل من أشكال التضامن. ولا يكفي فقط استقبالها لبعض التلاميذ المعوزين المتفوقين دراسيا وإنما وضع “كوطات” محددة للتلاميذ المستفيدين من منح دراسية مجانية في المدارس الخاصة كشكل من أشكال التكفير المالي عن أرباحها.
على مستوى بيداغوجي، لا بد من مراجعة الاستراتيجيات التعليمية في المغرب و تبني هندسة بيداغوجية فعالة عبر استحضار أنماط تعلم جديدة تعزز الفاعلية البيداغوجية لمدارسنا وتواكب الطفرة المعرفية التي نعيشها، لكون فعل التعليم فعلا متواصلا منفتحا على التغيير، فهو أكثر تعقيدا مما نتصور كونه شبكة متداخلة من العلاقات بين باراديجمات ثقافية، اجتماعية، انثربولوجية، سياسية و اقتصادية… توجهه و تتحكم فيه. علينا ‘ذن ألا نركز احتياجاتنا على المنتوج المعرفي بل على المتعلم إمكاناته، مهاراته، احتياجاته ونماذجه العقلية وفق ثالوث جديد نستقيه من أنثروبولوجيا الاقتصاد: الفعالية، الإمكانية، الحافزية. إذن علينا بناء تعلم فعال ومحفز قابل للاستثمار المباشر والعملي في سوق الشغل. حتى يتوافق سوق المعرفة مع سوق الشغل وحتى تظل مدرستنا منتجة للكفاءات وليس لما يسميه أبعقيل “بروليتاريا مثقفة و عاطلة”.17
فكيف يكون تدريسنا إبداعيا؟
وكيف له أن يظل عادلا؟
إحالات و مراجع ورقية و إلكترونية
-1محمد عابد الجابري، أضواء على مشكل التعليم بالمغرب، دار النشر المغربية 1985
-2 ص 14
-3نفس المصدر، محمد عابد الجابري، ص 15
-4 نفس المصدر، ص 16
-5نفس المصدر، ص25
-6 نفس المصدر، ص 21
7-نفس المصدر، ص 33
8-الصفحة 2 من التقرير:
Privatisation dans l’éducation au Maroc et droit à l’éducation: fiche résumé visuelle Global Economic، Social and Cultural Rights، Septembre 2014 Contacts Sylvain Aubry، chercheur à la Global Initiative for Economic، Social and Cultural Rights: sylvain@globalinitiative-escr.org / +33 7 81 70 81 96
9-الفقرة 30 من تقرير الأمم المتحدة :
10-Laarbi IBAAQUIL، L’école marocaine et la compétition sociale، aspiration،s tartégies، édition Babil،Rabat،1996.p XI.
11-ابعقيل، ص 4
12-نفس المصدر، ص 185
13-تقرير الأمم المتحدة
14-تقرير بنك المغرب للسنة المالية 2018 ص 51 www.bkma.ma
15-Hannah Arendt، La crise de la culture، folio essai 2016، p 234
16-نفس المصدر، ص 250
17-ابعقيل، XI
شكرا جزيلا كان موضوع جدااااا مهم للجميع
ولكن توجد بعض المصطلحات الصعبة ( بيداغوجية ، باثولوجية ، انثروبولوجيا ، بارديجمات ، انجلوساكسونية ………) والكثير التي لم اتعود استخدامها وهي العائق الوحيد والفواصل بين المعلومات المقدمة، حيث انها مصطلحات صعبة لا يستطيع غالبية القراء فهمها وربما سيترك الكثير متابعة الموضوع الذي يعتبر كنز مفقود يجب على جميع الطلاب واولياء الامور قراءته للنهاية .
اتمنى منكم تفهم ما ذكرت والحرص على استخدام مصطلحات عامة للجميع وليست خاصة ، كما استخدمتم اللغة العربية الفصحى لغة القران في طرح الموضوع لاتمكن انا وغيري من متابعة اي موضوع جديد يطرح في المرات القادمة و شكرا لتفهمكم ما ذكرت .
كقارئ عربيّ “حياديّ” – ليس من المغرب – أعجبتُ كثيرًا بالمقال
لما فيه من معلومات قيّمة وتحليل موضوعيّ لوضع التعليم في المغرب،
خاصّة لمدارس التعليم الخاصّ.
أنا شخصيًّا أدعو لتوفير فرص متساوية ومتكافئة لجميع الطلاب، والتحرّر
من الانتقائيّة والنخبوية، وأذكر تجربة دولة فنلندا التي حقّقت الجودة
والتميّز في نظامها التعليميّ كما عرضتُ في مقالي الذي نشر في هذه
المدوّنة التنويريّة الحضاريّة. فدولة فنلندا ترفض المدارس الخصوصيّة…
السلام