التعليم السطحي هو التعليم التقليدي بينما التعليم العميق هو التعليم الجديد. فالتعليم السطحي و التعليم العميق كلاهما يهدفان الى اعداد التلاميذ ليصبحوا مؤهلين بشكل جيد للحياة في المستقبل، الفرق بينهما أن التعليم العميق يراعي معطيات العصر الذي يتميز بالتركيز على تطبيق عناصر الجودة في كافة الأعمال. التعليم العميق هو امتداد للتعليم السطحي و بناء عليه، فالحديث عن التعليم العميق هو حديث عن الامتدادات الجديدة التي نريدها للتعليم التقليدي، و يجدر بنا أولا أن نذكر الأسباب التي تقف وراء استقدام التعليم العميق إلى الأنظمة التعليمية وتتلخص في ثلاثة أسباب:
السبب الأول:
هو ظهور التقنية الرقمية التي شرعت في الهيمنة على كافة مفاصل الحياة المعاصرة و غيرت بالتالي الطرائق التي نمارس بها الحياة في الأكل و الشراب و الكلام و التنقل و التواصل و الزراعة و الصناعة… وبالطبع لم تصل الهيمنة بعد إلى أبعادها الكبرى لكن الخبراء عرفوا أن المستقبل الذي سيحيى فيه أولادنا و يمارسون فيه القيادة هو مستقبل تتحكم فيه التقنية الرقمية من رأسه الى أخمص قدميه. فمن الظلم الشنيع أن نستمر في أعداد أبنائنا بنفس طريقة إعداد آبائهم و أجدادهم. وصول التقنية الرقمية إلى الفصول قد بدأ في الكثير من الانظمة التعليمية بالفعل خصوصا في أمريكا الشمالية و أوروبا و أعتقد أن العالم العربي عليه أن يبدأ في تهيئة بيئته التعليمية لعالم التعليم العميق .
السبب الثاني:
هو ظهور المد الجارف للمعرفة الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية و الذي جاء كنتيجة مباشرة لظهور التقنية الرقمية في الحياة المعاصرة. ويقدر العلماء أن حجم المعرفة الذي تكون في عام 2015 يساوي حجم المعرفة البشرية التي تكونت منذ فجر البشرية و لغاية 2014. و النتيجة الأولى هي أن لا أحد قادر على أن يحيط بهذا المكون العملاق للمعرفة، أما النتيجة الثانية فهي أن المدرسة لم تعد هي المصدر الوحيد للمعرفة. و عليه، يجب أن تقوم المدرسة بتعليم الأطفال كيفية الانتقاء أو الاختيار الفعال من هذا الكم المتعاظم من المعرفة. إضافة إلى ذلك، يجب على المدرسة التركيز على تعليم المهارات بدل المعرفة لأن المهارات هي التي ستعبر حدود الزمان و المكان أما المعرفة فهي مثل الكائنات الحية لا تصلح لكل زمان و مكان و إنما تولد و تحيى و تموت ثم لا يبقى منها للزمن القادم إلا العظة و العبرة و الذكريات.
السبب الثالث:
هو النتائج البائسة للتعليم التقليدي فيما يتعلق بتحقيق أهداف التعليم. فالدراسات تشير إلى أن 40% من التلاميذ على مستوى العالم لم يتعلموا المهارات الأساسية المتمثلة في القراءة و الكتابة و الحساب رغم إكمالهم عامهم الدراسي الرابع. و هذه النسبة ترتفع إلى 60% بالنسبة للتلاميذ في إفريقيا و العالم العربي. فأي نفع يرجى من نظام تعليمي يفشل في تعليم النشء المهارات الأساسية و أي أمل ينتظر منه لإعداد هؤلاء التلاميذ لمستقبل يحتاج إلى جانب المهارات الأساسية للمهارات العميقة المسنودة بالاستخدام الجيد و الحكيم للتقنية. إن الحاجة إلى التعليم العميق إذن ليست فقط مسألة ضرورة و لكنها قبل كل شيء قضية مصيرية لكي لا يدخل العالم العربي و الإفريقي في دهاليز عصور مظلمة جديدة الله وحده يعلم إن كان سيخرج منها فيما بعد أم لا، و إن خرج، هل سيكون صالحا للترقي و التطور أم سيكون كالأنعام أو أسوأ من ذلك مآلا.
ما الذي يجب اتخاذه إذن ليصير التعليم تعليما عميقا؟ إنها عدة أشياء أهمها أن يتحول التركيز من المعلم إلى المتعلم. ويتم ذلك بالتركيز على ما يفعله التلميذ في المدرسة و هو قيامه بعمليات التعلم المختلفة مثل التطبيق و التحليل و التركيب و التقييم و الإبداع. و هذا هو بالضبط ما أشار اليه هرم بلوم المعروف والذي أوضح أن عمليات التعليم تبدأ بالتذكر و الفهم لتنتقل بعد ذلك للتطبيق و ما بعده. ويحتاج المتعلم دون شك للتذكر كما أن التلقين ينفعه كثيرا لكن، التوقف عند مرحلتي التذكر و الفهم يجعل التعليم قائما و معتمدا على التلقين و الحفظ فقط و هو التعليم الذي أسميناه التقليدي أو السطحي والذي سينتج طلابا غير مستقلين عن الكتاب و المعلم و المدرسة و غير قادرين على التعلم الذاتي و غير مؤهلين للمواكبة و التأقلم مع المتغيرات الهائلة التي تنتظرهم في المستقبل القريب قبل البعيد.
في نفس الوقت، تحول التركيز من المعلم إلى الطالب لا يعني إهمال دور المعلم. الحقيقة أن المعلم يكتسب دورا جديدا أشد أهمية و إلحاحا. ففي أجواء الحياة الجديدة التي وصفناها، يتحتم على المعلم أن يتبنى استراتيجيات جديدة للتدريس تواكب أجواء هيمنة التقنية و أجواء الانفجار المعرفي. فاستراتيجية المحاضرة و القراءة لا يجب أن تهيمن على أسلوب تدريس المعلم لأنها لا تركز على المتعلم، و بالمقابل يتوجب عليه تبني استراتيجيات التعلم العميق التي تجعل الطلاب يمارسون النقاش و الحوار و التطبيق و التدريس في أجواء التعلم التعاوني الذي ينقسم فيه الطلاب إلى مجموعات صغيرة يتخلصون معها من التعليم الفرداني القائم على المنافسة ضيقة الأفق، و ينتقلون إلى عالم العمل التعاوني بروح الفريق و الجماعة. العالم المقبل علينا وعلى أولادنا يتم فيه إنجاز الأعمال عبر فرق العمل التي قد تضم أفرادا من بيئات ثقافية و اثنية و جغرافية و لغوية شديدة التباين.
النجاح في الأعمال في المستقبل يعتمد على القدرة على العمل مع الآخر المختلف بروح التعاون و التفهم و التسامح و القبول و الانسجام، و المكان الذي يتم فيه إعداد أولادنا لهكذا عالم هو المدرسة المعتمدة على التعليم العميق بلا جدال.
لقد حسم العالم أمره و بدأ في تطبيق أساليب و أدوات التعليم العميق و التي من بينها أيضا تغيير البناء النظري الذي يعتمد عليه النظام التعليمي. و من بين النظريات العديدة التي نشأت للتأصيل لتعليم جديد، نجد النظرية البنائية التي تقف في المقدمة ليس لأنها أوجدت العلاج لكل شيء، و لكن لأنها تقول أهم شيء يجب أن يقال بعد أن وضعت أصبعها على الجرح الحقيقي. تقول النظرية البنائية أن “التعليم عملية وجدانية تحفها مشاعر الإثارة و التشويق و الفضول و الحيرة و الانبهار”. و هذا لا يحدث إلا في الفصل الذي تجد فيه الطلاب و معلميهم يعملون كخلية نحل كل واحد يعلم و يتعلم من الآخر. و تقول النظرية البنائية أيضا أن “التعلم يعتمد على المعرفة السابقة الموجودة في بنية العقل و على اهتمامات الطلاب”. فيجب إذن أن نقول وداعا لعمليات فرض المعارف الغير متوافقة مع تجارب الطلاب أو ما يهتمون به و ينجذبون إليه. و تقول النظرية البنائية أيضا أن “التعلم يبدأ بعد أن تنتهي عملية نقل المعرفة إلى عقل المتعلم”. و يتوجب علينا بسبب هذه الحقيقة أن نتيح الفرصة الكاملة للطالب ليقوم بترتيب و تقويم المعرفة داخل عقله الصغير… صغير بعمره الزمني و لكنه كبير بقدراته و إمكاناته التي أودعتها فيه الطبيعة منذ النشأة الأولى. و إتاحة الفرصة تعني تحويل النظام التعليمي برمته من نظام قائم على التلقين و الحفظ إلى نظام يقوم على كافة عناصر التعليم العميق التي أنشأنا من أجلها هذا المقال.