تقديم:
لا یخفى على أحد أنّ الاستثمار الأھم والأساس الذي يمكن أن تستثمر فيه المجتمعات المعاصرة ھو العنصر البشريّ، لذلك فإن كل جهد یبذل لصالح عملیّة التعلم والتعلیم یصبّ في ھدف واحد هو الوصول لمتعلّم على درجة من الوعي بمهارات الحیاة، قادر على معالجة المشكلات والتعامل معها، یتماشى ویواكب التطور التقني والانفجار المعرفي. كلّ ھذا یحتّم على المعنیّين بقطاع التربیة، إعادة التفكير في عملیّة التعلیم والفلسفة التربویّة والأهداف المتوخّاة كمنظومة متكاملة.
فمع التقدم المذهل المتلاحق في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وما صاحبها من تطور فى مجال التعليم، وظهور أساليب حديثة فى عملية التعلم تعتمد بشكل أساسى على تطبيقات تلك التكنولوجيا، حدثت مجموعة من المتغيرات العالمية التي يمكن أن تشكل صورة جديدة لمستقبل التعليم في الفصول الدراسية نظرا لما تملك من إمكانات التأثير على التعليم في المدارس بمختلف مراحلها لسنوات كثيرة قادمة.
ويعد التعليم عن بعد من الموضوعات التي فرضت نفسها على الفكر التربوي، وأصبحت محور اهتمام جميع المؤتمرات والندوات والمحاضرات التربوية، وذلك لأهمية هذا الموضوع وحداثته والحاجة إلى فهم طبيعته ونظامه وفلسفته؛ خاصة وأن “الانغماس في التكنولوجيا هو ما ينبغي أن تكون عليه الفصول في القرن الحادي والعشرين، حيث تكون الأدوات الرقمية هي الخيار المتاح دوما وليس مجرد حدث نخطط لإقامته بين الحين والآخر”[1]، لذلك وجب التفكير في الظروف الاستثنائية التي خلفتها الجائحة، وما أحدثته من اختلالات في سير العملية التعليمية التعلمية مما طرح إشكالات بيداغوجية وديداكتيكية، أدت إلى ظهور أنماط تعليمية جديدة في منظومتنا التربوية من بينها نمط التعلم الذاتي ونمط التعليم عن بعد وكذا نمط التعليم التناوبي.
1- التعليم عن بعد ضرورة ملحة:
لقد سلطت المتغيرات التي يعيشها العالم ومعه بلادنا والمتمثلة في جائحة كورونا الضوء بقوة على الأنظمة التعلیمیّة، وبات لزاماً علیها أن توجدَ الحلول الناجعة أمام التحدّیات التي شكّلت معوّقات أساسیّة أمام القائمین على العملیة التعلیمیّة. إذ لا غنى لنا اليوم عن تعلیم یمزج بین مختلف الأشكال المباشرة والإلكترونية ویضمن وصول المعرفة للجمیع، من كل الأجناس، من كل الطبقات، في كل وقت، وفي كل مكان.
أبانت هذه الجائحة كورونا عن تفاوتات في الأنظمة التعلیمیّة في كثیر من الدول، ولم یعد التعلیم متوفّراً للجمیع بشكل عادل ومتساوٍ بسبب الإمكانات الضعیفة للبنى التحتیّة وتوافر الأجھزة اللازمة لمتابعة عملیة التعلّم عن بعد، بالإضافة لتحدیات المجالات التعلیمیة التطبیقیّة، مما دفع إلى مساءلة عملية التعلیم عن بعد من حيث المفھوم، والأدوات، والأثر، ووضع تصوّر لشكل التعلیم واستراتیجیّاته في المرحلة المقبلة، وصولاً لكيفية تقويمه، عبر الاستخدام الأمثل لتكنولوجیا المعلومات والاتصالات، وزیادة الاستثمار في برامج التطویر التربویّة.
في هذا السياق ظهر نمط جديد من التعليم سمي بمسميات كثيرة ( التعليم عن بعد / التعليم الإلكتروني / التعليم الشبكي / التعلم الذاتي / التعليم المفتوح / التعليم المنزلي …) باعتباره “منظومة تعليمية لتقديم البرامج التعليمية أو التدريبية للمتعلمين أو المتدربين في أي وقت وفي أي مكان باستخدام تقنيات المعلومات والاتصال التفاعلية مثل (الانترنيت، الإذاعة القنوات المحلية أو الفضائية للتلفاز، الأقراص الممغنطة، التلفون، البريد الإلكتروني، أجهزة الحاسوب، المؤتمرات عن بعد…) لتوفير بيئة تعليمية تفاعلية متعددة المصادر بطريقة متزامنة في الفصل أو غير متزامنة عن بعد، دون الالتزام بمكان محدد اعتمادا على التعلم الذاتي والتفاعل بين المعلم والمتعلم “[2].
يقوم هذا النوع من التعليم على نقل المعرفة إلى المتعلّم في موقع إقامته أو عمله، بدلًا من انتقال المتعلّم إلى المؤسّسة التعلیمیّة، وھو” مبنيّ على أساس إیصال المعرفة والمھارات والمواد التعلیمیة إلى المتعلّم عبر وسائط وأسالیب تقنیّة مختلفة، حیث یكون المتعلّم بعیدًا أو منفصلًا عن المعلّم أو القائم على العملیّة التعلیمیّة، وتستخدم التكنولوجیا من أجل ملء الفجوة بین كلّ من الطرفین بما یحاكي الاتّصال الذي یحدث وجها لوجه. فالتعلیم عن بعد ما ھو إذن إلّا تفاعلات تعلیمیّة یكون فيها المعلّم والمتعلّم منفصِلَیْنِ عن بعضهما زمانیًّا أو مكانیًّا أو كلاھما معًا”[3].
إنه أسلوب للتعلم الذاتي “يكون فيه المتعلم بعيدا عن معلميه ويتحمل مسؤولية تعلمه باستخدام مواد تعليمية مطبوعة وغير مطبوعة / وملفات فيديو يتم إعدادها، بحيث تناسب طبيعة التعلم الذاتي والقدرات المتباينة للمتعلمين وسرعتهم المختلفة في التعليم، ويتم نقلها لهم عن طريق أدوات ووسائل تكنولوجية مختلفة ويلحق به كل من يرغب فيه بغض النظر عن العمر والمؤهل، وبعبارة أخرى إنه نمط من أنماط التعليم النظامي تتباعد فيه مجموعات التعلم، وتستخدم نظم الاتصالات التفاعلية لربط المتعلمين والمعلمين ومصادر التعلم سويا”[4]
يعتمد التعليم عن بعد على وسائل الاتصال الإلكترونية التي تجعل العملية التعليمية التعلمية متحققة دون الحاجة للذهاب إلى المؤسسات التعليمية المختلفة كالمدارس والجامعات والمعاهد، بحيث يعطي فرصة التعلم للمتعلمين لاستكمال تعليمهم بشكل عادي، تخلق جسور التواصل بين المعلم والمتعلم. لذلك فإن من أهم مميزاته هو تجاوزه التعليم التقليدي الصفي، وفي المقابل مواكبته للثورة التكنولوجية الرقمية، وذلك من شأنه المساهمة في تحسين مخرجات البرامج والمناهج التعليمية وتحقيق رضا المتدخلين في العملية التعليمية التعلمية.
وبهذا يتضح أن هذا النمط من التعلیم یعتمد أساسا على استخدام آليّات الاتّصال الحدیثة والمعاصرة من كومبیوتر وشبكاته ووسائطه المتعددة (صوت وصورة)، ورسومات، ومكتبات إلكترونیّة، وكذلك بوّابات الإنترنت وتطبيقاته، واستقبال المعلومات، واكتساب المهارات، والتفاعل بین المتعلّم والمعلّم، وبین المتعلّم والمدرسة، “ولا یتطلّب ھذا النوع من التعلیم وجود منشآت مدرسية أو صفوف دراسية، بل إ نّه یلغي جمیع المكونات المادية للتعلیم”[5].
2- أهداف ومزايا التعليم عن بعد:
يكتسي التعلیم عن بعد أھمیّة كبيرة خاصة إذا توجه لشرائح واسعة من المتعلّمین على اختلاف بلدانهم وثقافتهم واهتماماتهم، حيث يتيح أمامهم الفرصة للتعلم في ظلّ التقدّم السریع والانفجار المعرفيّ والتقنيّ الذي يعرفه العالم المعاصر، والذي يستلزم تعزیز المهارات الحیاتیة والتركیز على مهارات القرن الواحد والعشرین والتكيف مع الظروف التعلیمیّة الملائمة والمناسبة لحاجات وظروف المتعلّمین تحقیقا لاستمراریّة عملیّة التعلّم.
يحقق التعليم عن بعد العديد من الفوائد منها [6]:
- ـ الملاءمة: حيث توفر الملاءمة بين المحاضر والطالب.
- ـ المرونة: يتيح للدارس خيار المشاركة حسب الرغبة.
- ـ التأثير والفاعلية: أثبتت البحوث التي أجريت على نظام التعليم عن بعد أنه يوازي أو يفوق في التأثير والفاعلية نظام التعليم التقليدي وذلك عندما تستخدم هذه التقنيات بكفاءة.
- ـ المقدرة: الكثير من أشكال التعليم عن بعد لا تكلف الكثير من المال.
- ـ الإحساس المتعدد: هناك العديد من الخيارات في طرق توصيل المادة الدراسية، منها المادة الدراسية المتلفزة والتفاعل مع برامج الكمبيوتر والمادة الدراسية المسجلة في الأشرطة.
فالكثير من البحوث التي أجريت على نظام التعليم عن بعد، أثبتت أنه يوازي أو يفوق في التأثير والفاعلية نظام التعلم التقليدي، وذلك عندما تستخدم التقنيات الملائمة التي تساعد على “رفع شعور وإحساس الطلاب بالمساواة في توزيع الفرص في العملية التعليمية، وكسر حاجز الخوف والقلق لديهم، وتمكينهم من التعبير عن أفكارهم والبحث عن الحقائق والمعلومات بوسائل أكثر وأجدى مما هو متبع في قاعات الدرس التقليدية”[7]
3- التعليم عن بعد من وجهة قانونية:
إن الاستثمار في الموارد البشرية وجعلها مواكبة لحركية العالم الرقمي ومنفتحة على حاجات العصر ومتطلبات التنمية المستدامة، وقادرة على التكيف مع الظروف البيئية والصحية يتطلب إقرارا صريحا بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين المتعلمين الذين تعوزهم ظروف الحياة الاجتماعية والجغرافية ولا تتيح لهم الانخراط في التكنولوجيات الحديثة للتعليم عن بعد، وباقي التلاميذ الذين تسمح إمكاناتهم بمتابعة التعليم عن بعد في المدن المغربية، ولعل هذا التفاوت الاجتماعي بين التلاميذ يظهر على مستوى الجاهزية التقنية.
ولما كان من بين الأهداف الرئيسية التي تروم تحقيقَها الرؤية الاستراتيجية 2015 ـ 2030 التي قدمها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، كخارطة طريق لإصلاح المنظومة التربوية المغربية، هو جعل المدرسة المغربية مدرسة للإنصاف وتكافؤ الفرص، حيث تنص في فصلها الأول على “أن تعميم التعليم بفرص متكافئة يعد رهانا سياسيا ومجتمعيا حاسما لتحقيق الإنصاف على المستوى المجالي والاجتماعي، على أساس النوع والقضاء على التفاوتات بمختلف أنواعها وإقامة مجتمع إدماجي وتضامني” [8] ، فإن من بين التطلعات التي يطمح التعليم عن بعد أن يعمل على إرساء هذه المبادئ، يما يضمن لجميع المتعلمين – بما فيهم ذوي الاحتياجات الخاصة – حقهم في التعليم دون مغادرة منازلهم لدواع وقائية احترازية، وتعزيز الشعور بالمسؤولية لديهم وتحسين مهارتهم الفكرية المستقلة.
إذا كان التعليم عن بعد قد تم اعتماده في دول كثيرة من أجل تحقيق مفهوم جديد للتربية يتلاءم مع التطور العلمي والتكنولوجي، بما يكفل تأهيل الأطراف المعنية بالعملية التعليمية التعلمية وزيادة معرفتهم بالتكنولوجيا. فإن اعتماده في المنظومة التربوية ببلادنا وإن كان قد ارتبط بالظروف الاستثنائية المرتبطة بانتشار الوباء، حيث يجد ماهيته ومصوغات وجوده اعتمادا على وثائق وقوانين رسمية تعتمدها وزارة التربية والتعليم بالمغرب، ومن أبرزها الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي صادق عليها المغرب سنة 1996 بحيث نصت في المادتين 28 و29 على ضرورة ضمان الدولة لحق الأطفال في التعليم والتعبير عن أرائهم، ومنه أيضا ضمان الاستمرارية البيداغوجية لقطاع التعليم كيفما كانت الظروف والأحوال، حتى لو تعلق الأمر بالأوبئة والأمراض أو الحروب الفتاكة محلية كانت أو كونية، لأن التعليم حق انساني وضروري لتخليق المجتمع وتطويره للأفضل ليرقى المجتمع لسلم الحضارات والأمم المتقدمة عالميا.
كما يجد مصوغاته في مضمون الدعوة التي وجهها القانون الإطار 17 ـ 51 في مادته 33 إذ ورد فيه ما يلي: “أنه يتعين على الحكومة أن تتخذ جميع التدابير اللازمة والمناسبة لتمكين مؤسسات التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي في القطاعين العام والخاص من تطوير موارده ووسائط التدريس والتعلم والبحث في منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي لاسيما من خلال الآليات التالية:
- ـ تعزيز إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في النهوض بجودة التعلمات وتحسين مردوديتها؛
- ـ إحداث مختبرات للابتكار وإنتاج موارد رقمية، وتكوين مختصين في هذا المجال؛
- ـ تنمية وتطوير التعليم عن بعد، باعتباره مكملا للتعليم الحضوري؛
- ـ تنويع أساليب التكوين والدعم الموازية للتربية المدرسي والمساعدة لها؛
- ـ إدماج التعليم الإلكتروني تدريجيا في أفق التعميم” [9].
ولا يمكن أن نتحدث عن الناحية القانونية دون أن نقف على التقرير الذي قدمه المجلس الأعلى للتعليم تحت عنوان “مدرسة العدالة الاجتماعية: مساهمة في التفكير حول النموذج التنموي” الذي يرى أن الإجراءات الرامية إلى تحقيق تكافؤ الفرص التعليمية ضعيفة في ظل الفوارق القوية الموجودة بين التلاميذ من حيث جنسهم، وإعاقتهم، أو من حيث أي ظروف شخصية، ولهذا من الضروري اتخاذ إجراءات تصحيحية من أجل إعادة قرار الإنصاف، وضمان عدالة مدرسية حقيقية ، وذلك من خلال[10]:
- ـ العمل على الحد من الفوارق الأولية بين التلاميذ، وذلك بالحد من أثر الفوارق الاجتماعية الأصلية بين التلاميذ بمختلف أبعادها:
- ـ البعد الأسري للفوارق: حيث يؤثر الرأسمال التربوي والثقافي للأسرة على إنجازات التلاميذ في المدرسة فضلا عن فوارق النوع والإعاقة…
- ـ البعد المؤسساتي: اختلاف العرض التربوي يخلق ميزا منتظما بين العالم القروي والحضري من حيث الموارد المادية والبشرية.
وقد نبه التقرير إلى أن هذا المعطى من شأنه أن يطور هدف تكافؤ الفرص في اتجاه تحقيق الإنصاف الذي اعتبرته الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 غاية وشرطا لإنجاح إصلاح منظومة التربية والتكوين، ولذلك ينبغي نهج سياسة تربوية منصفة تجاه التلاميذ من الجنسين الذين يوجدون في وضعيات اجتماعية أو عائلية أو شخصية صعبة، والاهتمام أكثر بالمؤسسات التعليمية في المناطق القروية. كما أكد التقرير على أنه يجب أن يضمن التعليم الإلزامي لكل تلميذ الوسائل الضرورية لاكتساب قاعدة مشتركة من المعارف والكفايات الثقافية التي تتيح متابعة الدراسة، وبناء المتعلم لمستقبله الشخصي والمهني والمواطني، إذن فالتعليم الإلزامي “مهمته ان يضمن للجميع الكفايات الأساسية والضرورية للاندماج في المجتمع بكرامة أما التعليم ما بعد الإلزامي فمهمته تفريق، وتنويع المسارات والتعلمات”[11] ولذلك لابد من تعليم ما بعد الإلزامي يضمن تكافؤ الفرص.
ورغم هذه الترسانة القانونية التي تؤكد على الحق في التعليم وضرورة إحقاق مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة فيه، إلا أن الأمر يتطلب الأرضية المناسبة له، والتي يأتي في مقدمتها جعل ولوج الانترنيت ممكنا خاصة بالنسبة للفئات المعوزة من أبناء الشعب لكي لا تكون هناك فوارق في بناء التعلمات حتى بين تلاميذ المدرسة العمومية، وتأهيل الموارد البشرية، وإخضاعها لتكوينات تمنحها الخبرة الكافية في إنتاج محتويات رقمية تعليمية تؤدي أدوارها التعليمية والبيداغوجية في ظروف مادية مريحة ، فضلا عن إشراك الأسر وجعلها مشرفة على إتمام العملية التعليمية التعلمية إلى جانب المؤسسة، لنتمكن من جعل هذا النوع من التعليم هدفا منشودا للمدرسة المغربية بشكل عام، وليس هدفا تعويضيا لأن من شأن بالاهتمام به وتطويره وعقلنته أن تتقوى المنظومة التعليمية التي تعد دعامة أساسية في تنمية الأمة.
4- الإشكالات البيداغوجية والديداكتيكية للتعليم عن بعد:
إن التحول المفاجئ الذي طال نمط التعليم والذي لجأت إليه وزارة التربية الوطنية في ظل هذه الظروف، هو اعتماد التعليم عن بعد باعتباره الوسيلة الوحيدة لمتابعة الدراسة في ظل إقفال المؤسسات التعليمية المدرسية أبوابها. والذي أصبح معه الوسيط الرقمي بمنصاته المختلفة والمتنوعة مستودعا يضم المعارف والعلوم والأنشطة الموجهة للتلاميذ والطلبة عن بعد.
لكن واقع الحال يكشف عن اختلالات كبيرة تمثلت بالأساس في كون مجال توظيف التكنولوجيا الحديثة في العملية التعليمية لم يستفد منه أغلب تلاميذ وتلميذات ساكنة العالم القروي والمناطق النائية التي تعاني الفقر والهشاشة، بسبب إما عدم توفرهم على إمكانية التواصل في ظل ضعف الربط بالانترنيت وانعدامه أحيانا، وعدم إعطاء بعض الأسر أهمية كبيرة لهذا النمط من التعليم مقارنة مع التعليم العادي، لأنهم وجدوا أنفسهم يتحملون جزءا كبيرا من المسؤولية في متابعة أبنائهم ودعمهم وتهيئة السبل لهم للوصول إلى الموارد التعليمية سواء على الانترنيت أو البث الفضائي على التلفاز أو متابعة واجباتهم. دون أن ننسى فئة أخرى من الأسر التي لا يمتلك الوسائل الضرورية من حواسيب وهواتف الذكية ولوحات إلكترونية، بل أكثر من ذلك منهم من لا يتوفر على جهاز تلفاز.
فلابد من الوعي بهذه التفاوتات الاجتماعية والمجالية وتأثيرها على عملية التعليم عن بعد، لذلك نجد الوزارة الوصية على القطاع تفكر في كيفية تدارك هذا الخلل لتحقيق المساواة التربوية ومبدأ تكافؤ الفرص، حيث قدمت للرأي العام الحصيلة المرحلية لعملية التعليم عن بعد، وهي حصيلة تكشف الجهود المتواصلة للأطر التربوية والإدارية سواء مركزيا أو جهويا أو إقليميا من أجل إنجاح عملية التعليم عن بعد، واستكمال التعلمات بما يغطي جميع مفردات المقررات الدراسية.
إن واقع ممارسة التعليم عن بعد يطرح على منظومة التربية والتكوين ببلادنا مجموعة من التحديات خاصة على المستويين البيداغوجي والديداكتيكي، الأمر الذي يستدعي إصلاحا عميقا للمنظومة وفق توجهات القانون الإطار الذي يدعو من بين ما يدعو إليه إلى اتخاذ جميع التدابير اللازمة والمناسبة “لتحسين جودة التعلمات والتكوين وتطوير الوسائل اللازمة لتحقيق ذلك، ولا سيما من خلال تكثيف التعلم عبر التكنولوجيات التربوية الحديثة”[12]. ولا سبيل إلى ذلك إلا بتمكين مؤسسات التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي من موارد ووسائط التدريس والتعلم التي تهدف إلى تعزيز إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في النهوض بجودة التعلمات وتحسين مردوديتها؛
لقد أصبحت الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى إلى تشجيع البحث العلمي والتربوي عبر إحداث مختبرات للابتكار وإنتاج الموارد الرقمية، وتكوین الفاعلين التربويين من أساتذة وأطر إدارية؛ والدعوة إلى تنويع أساليب ووسائل التدبير الديداكتيكي للمحتويات الدراسية؛ وإدماج التعليم الإلكتروني تدريجيا في أفق تعميمه وتنمیة وتطویر التعلم عن بعد أو التعلم الذاتي، باعتباره مكملا للتعلم الحضوري. وهذا يتماشى مع الأوليات التي يقوم عليها الإصلاح التربوي والتعليمي ببلادنا بخصوص العمل على تأهيل الأطر التربوية والإدارية في مجال التعليم الرقمي، وتعميم شبكة الانترنيت وتمكين المتعلمات والمتعلمين في المدن والبوادي من الحواسب على غرار عملية مليون محفظة ومبادرة الدعم الاجتماعي “تيسير”، ولاشك أن تحقيق ذلك يقتضي تعبئة كل الشركاء والفاعلين التربويين للنهوض بهذا الورش الوطني الذي يعتبر مدخلا للنهضة المنشودة وسبيلا لتجويد الفعل التربوي.
خاتمة:
هكذا يتبين أن هذا النمط الجديد من التعليم، وإن كان قد فرضته الظرفية التاريخية والبيئية التي تعيشها بلادنا والعالم أجمع، فإنه يبقى أنجع وسيلة للتغلب على المعيقات التي من شأنها أن تعيق بناء التعلمات، في ظل الانتقال الذي تشهده الحضارة الانسانية من الاقتصاد الصناعي إلى الاقتصاد المعرفي، والتأسيس لنموذج الإنسان الرقمي، لكن الرهان الذي تواجهه المنظومة التربوية هو التفكير المنهجي لصيغ التعلم الجديدة، وبلورة آليات تطبيقه، وتدريب الممارسين في مجال التكنولوجيا واستعمال الموارد الرقمية وإدارة الفصول الافتراضية، وتمكينهم من الكفايات المهنية الخاصة باستعمال المنصات التي تتيح ذلك.
إن اعتماد نمط التعليم الجديد الذي يقوم على التعليم عن بعد أو التعلم الذاتي يستدعي إعادة النظر في منطومة التقويم أيضا فلا تعليم ولا تعلم بدون تقويم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإعادة النظر في الأطر المرجعية المؤطرة لفروض المراقبة المستمرة، وبالانفتاح على استراتيجيات تقويم حديثة لذلك نقترح الآليات التالية:
ـ التقويم الذاتي: باعتباره نشاطا ذاتيا مخططا له وموجها بهدف، يتأمل فيه المتعلم أداءه بنفسه ويحلله ويصدر حكما عليه بالاعتماد على معايير واضحة، ومن ثم يضع الخطط لتحسين وتطوير الأداء بالتعاون المتبادل بينه وبين معلم. ويحقق تقويم الذات التكامل بين المعرفة، والقدرة على صياغة المعايير للحكم على الأداء. يقوم المتعلم بالتقويم الذاتي لمجهوده الفردي، ومجهوده في العمل المشترك مع صديق أو مجموعة في تنفيذ المهمة، ويتطلب هذا التقويم من المتعلم استجابات متنوعة تتراوح بين انتقاء إجابات محددة إلى كتابة استجابة حرة على شكل فقرات.
ـ التقويم الالكتروني: باعتباره عملية توظيف شبكات المعلومات وتجهيزات الكمبيوتر والبرمجيات التعليمية والمادة التعليمية المتعددة المصادر باستخدام وسائل التقييم لتجميع وتحليل استجابات الطلاب، بما يساعد عضو هيئة التدريس على مناقشة وتحديد تأثيرات البرامج والأنشطة بالعملية التعليمية للوصول إلى حكم مقنن قائم على بيانات كمية أو كيفية متعلقة بالتحصيل الدراسي. فلا شك أن استخدام التكنولوجيا لقياس أداء المتعلمين يحسن من تعلمهم، بالإضافة إلى أنه يمكن أن يساعد في دمج التعليم والتقويم داخل هوية المجتمع، كما أنه يسمح للمربين بتحقيق التكامل بين التقويم والتدريس لإنتاج أدوات وأنشطة تعليمية فعالة.
ـ التقويم عن بعد: وذلك من خلال منصة تيمز عبر إنشاء أقسام افتراضية باستيراد البيانات من مسار، ومنصة تيمز إضافة إلى إنجاز الدروس عن بعد ضمانا للاستمرارية البيداغوجية تتيح إمكانية تكليف المتعلمات/ين بمهام وفروض، وذلك عبر إنجاز المهمة أو الواجب أو الفرض المنزلي، وتقاسمه مع جماعة الفصل في فضاء التواصل المخصص لذلك ثم تتبع الإنجازات الفردية والتفاعل معها وتقويمها، ثم برمجة الدعم والتذكير بتسجيلات الدروس المنجزة بسهولة. وغير ذلك مما يتيحه التوسل بالتطبيقات الحديثة في مجال التقنيات الرقمية من إمكانات تفاعلية حتمية ومباشرة هائلة.
الهوامش
[1] ـ مايكل فيشر، استراتيجيات التعلم الرقمي، ترجمة: محمد بلال الجيوسي، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض ، 2016 ، ص: 12 .
[2] ـ عبد الرؤوف محمد إسماعيل، نجلاء محمد فارس، التعليم الالكتروني: مستحدثات في النظرية والاستراتيجية، عالم الكتب القاهرة، ط 1 ، 2017 م ، ص: 29 ـ 30.
[3] ـ التعليم عن بعد، مفهومه أدواته، وإستراتيجياته، دليل لصانعي السياسات في التعليم الأكاديمي والمهني والتقني، مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الانسانية، اليونيسكو 2020 ص: 14 .
[4] ـ محمد السيد علي، اتجاهات وتطبيقات حديثة في المناهج وطرق التدريس، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى 2011، ص: 92
[5] ـ التعليم عن بعد، مفهومه أدواته، وإستراتيجياته، دليل لصانعي السياسات في التعليم الأكاديمي والمهني والتقني، مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الانسانية، اليونيسكو 2020 ، ص: 18
[6] ـ ادريس الخفاجي، محمد السامرائي، الاتجاهات الحديثة في طرق التدريس ، منشورات دار دجلة، الطبعة الأولى 2014، ص: 99 ـ 100
[7] ـ ادريس الخفاجي، محمد السامرائي، الاتجاهات الحديثة في طرق التدريس، ص: 103
[8] ـ الرؤية الاستراتيجية، 2015 ـ 2030 الفصل الأول: من أجل مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص، ص: 13 .
[9] ـ المملكة المغربية، 2019 ، القانون الإطار حول التعليم 17 ـ 51 ، الصادر بالجريدة الرسمية عدد 6805 ، بتاريخ 19 غشت 2019 .
[10] ـ تقرير المجلس الأعلى للتعليم: مدرسة العدالة الاجتماعية مساهمة في التفكير حول النموذج التنموي الجديد ص 21
[11] – نفس المرجع السابق ، ص: 26
[12] ـ المادة 3 ، الباب الثاني ، القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي 17 ـ 51 .