برغم الإمكانات المهولة التي يتمتع بها السودان والفرص المتاحة للتطور والنمو والعقول النيرة التي رفد بها العالم في كافة المجالات منذ بدايات التعليم المنتظم وإلى وقت قريب، إلا أننا نجد أن نظامه التعليمي الحالي هش وموجه بشكل جعل منه مسخا” مشوها” يصعب الخروج منه بما يفيد الطالب والبلاد. والناظر إلى المنهج الذي تم إعداده لأهم مراحل التعليم في السودان (التعليم الأساسي) يجد أنه يحتوي على حشو وسفاسف كثيرة لافائدة منها علميا” حيث لم تراعى فيه الإمكانات العقلية للطالب وقدرته على التحمل الذهني وحاجته للتفكير فيما يدرس وإمكانات نقده لذلك وكلنا يعلم حب الاستطلاع الذي يتمتع به الأطفال وحاجتهم إلى إشباع ذلك.
ظل تلاميذ السودان وأهلهم لأكثر من ثلاثين عاما يشكون من كثرة المواد الدراسية في المرحلتين الأساسية والثانوية وعدم جدوى معظمها، وبرغم وصول شكاوى أولياء الأمور وزمرة من المعلمين المعتدلين للجهات التي كانو يعتقدون بأنها تملك الحل والربط في ذلك غير أنّهم لم يتمكّنوا من إحداث أيّ تغيير في واقع ظل يلازم الأطفال المغلوبين على أمرهم منذ أمد بعيد. ومرد كل ذلك يعود لضيق أفق واضعي المناهج والتدخلات السياسية في عملهم وعدم اهتمام من جاؤوا بعدهم أو قل عدم مقدرتهم على تحدي المناهج الموروثة وإحداث أي تغيير جذري فيها.
وقد يلاحظ المتابع لمسيرة التعليم في السودان اهتمام مسؤوليه بتغييرات غير مؤثرة طالت دائما عدد سنين المرحلة، فهم تارة يقللون مرحلة وتتم إضافة ذلك لمرحلة أخرى وتارة يزيدون هنا وينقصون هناك، وهكذا ظلت الساقية تدور وتدور دون ماء يسقي أهدافها التي أنشئت لها. وللأمانة والتأريخ، فإن جعل مدة مرحلة الأساس تصل لثمان سنوات هو التغيير الوحيد الذي يمكن أن نقول بأنه أفاد التلاميذ الذين لم يستطيعو مواكبة الأمر والذين يقضون الثماني سنوات وهم يحاولون فك رموز التعليم دون جدوى، ولكنهم ولله الحمد يكونون وفي غضون ثمان سنوات كاملة قد تعلمو بعض المفيد لمواصلة حياتهم المنقوصة في مجالات أخرى بعد فصلهم من التعليم النظامي بسبب الغباء الذي فرض عليهم من قبل المنهج التعليمي المعاق، وهو أمر يؤسف له.
وهنالك أمثلة كثيرة تجعل من ضيق أفق منهج التعليم الأساسي مقبرة لمواهب كثيرة تمتع بها بعض الطلاب. وهنا يستوجب الأمر أن أسوق لكم مثالا حيا لطالب عرفته كانت نتيجته النهائية للثمانية أعوام التى قضاها بمدرسة حجر العسل الأساسية (أ)، تعكس مدى الذكاء الذي كان يتمتع به في مادة الرياضيات حيث ظل يحرز الدرجة الكاملة فيها طوال سنين دراسته لكنه للأسف كان يرسب في معظم باقي المواد وبالطبع لم يقوى على الاستمرار ورسب في امتحانات الترقي للمرحلة الثانوية وهو الآن يعمل مزارعا وماتت موهبة الرياضيات بأمر من المنهج الحالي.
الآن وقد تغيرت الأوضاع السياسية نسبيا في البلاد، عادت أصوات التغيير العام تطرق أبواب التعليم وتنتظر حلولا متكاملة تمكن التعليم في السودان من رسم خارطة التطور وتجعل منه الأداة الفعالة والفاعلة في بناء السودان الذي ينبغي أن يكون.
العطا نصر عثمان معلم أساس بمدارس حجر العسل ينادي بأهمية الإصلاح والانفتاح وتطوير منهجية التعليم وغرس روح الإبداع في التلاميذ ومنحهم الفرصة الكاملة ليكونو مشاركين للمعلم وليسو متلقين فقط.
ميساء – أم لثلاث تلميذات بمدارس الأساس (الخرطوم)، اعتادت على مساعدتهن يومياً في كتابة واجباتهن المدرسية ومراجعة الدروس حتى يحققن نتيجة معقولة في نهاية العام الدراسي. وتشتكي ميساء من صعوبة مهمّتها تلك، مشيرة إلى كثرة المقرّرات الدراسية المفروضة عليهن من جهة ومن جهة أخرى عدم فائدة عدد كبير منها، مثل مواد ملبسنا وسلامتنا ومسكننا التي يدركها التلاميذ ضمنا وتضيف: أنّ “المواد تتخطى 12 مادة في بعض الفصول، الأمر الذي ينهك التلاميذ ذهنياً وجسدياً، لافتة إلى أنّ ثمّة أطفال في مرحلة التعليم الأساسي لا يقوون على حمل الحقيبة المدرسية نظراً لثقلها.
وتتابع ميساء أنّ ثمّة 10 مواد مفروضة على بنتها الكبرى في مرحلة الأساس وهي ضعيفة البنية ولا تقوى على حمل نصف الحقيبة، كما أنها لا تستطيع في يوم واحد إتمام كل واجبها المنزلي، مشددة على أهمية إعطاء التلميذ حقه كطفل وتقول: “لا شك في أن ذلك يؤثّر على مستوى التلاميذ نفسيا ويجعلهم يكرهون التعليم والمعلم والمدرسة نفسها”. وتكمل ميساء أنّه “في حين يُرهَق التلميذ بمقررات دراسية لا جدوى منها، لا يركّز المعنيون على مواد أساسية مثل اللغة الإنجليزية والرياضيات واللغة العربية، الأمر الذي يضطرنا إلى الاستعانة بمدرّسين خصوصيين ويشكّل بالتالي عبئاً مالياً جديداً عليها”. وتضيف ميساء أن الأمر يتخطى التلميذ ويصل إلى أولياء الأمور الذين وفي معظم الأحيان يهملون عملهم ويتجهون نحو مساعدة الأبناء والبنات لإكمال واجباتهم مما يجعل منهم موظفين بدوام كامل لمعاجة أوضاع أبنائهم وبناتهم.
أمّا الأستاذة هالة حسن خيري (الخرطوم)، وهي أمّ لتلميذ في المرحلة الثانوية، فتقول :”المقررات الدراسية عبارة عن حشو وهي أكبر من طاقة الأطفال والشباب وتتعدى قدرتهم على الاستيعاب والفهم. وثمّة مواد لا أرى أيّ داعٍ لها”. وتطالب بـعودة المنهج القديم الذي يشمل اللغة العربية والرياضيات والتربية الإسلامية والتاريخ والجغرافيا والعلوم. وتضيف هالة حسن “لا يعقل أن يحمل التلميذ حقيبة كتب يتعدى وزنها 10 كيلوغرامات يوميا ذهايا وإيابا، فالنتيجة الحتمية لذلك و بلا شك إصابته بأذى جثيم. وتستطرد الأستاذة: ” محمد ابني يعاني من تشنجات في كتفيه جراء الأثقال التي يحملها يوميا” دون جدوى”.
ويعود العطا نصر عثمان ليقول:”كلّ المناهج التي وُضعت في السنوات الماضية تقوم على التلقين الأعمى والحفظ القسري ولا تعطي التلميذ أيّ فرصة للتفكير وتنمية مهارته الذاتية”، مضيفا أنّها لم تواكب التطوّر العلمي والفكري وتطوّر وسائل البحث التي أنتجها التطوّر التكنولوجي. ويضيف العطا:”المناهج الحالية لا تعطي المعلم أيّ فرصة لاختيار الطريقة التي يقدّم بها حصصه اليومية، بما يضمن وصول المعلومة إلى التلميذ عبر وسائل حديثة، مع الأخذ في الاعتبار التجارب والاختبارات العملية”، مشيرا إلى أنّ همّ المدرّس صار ينحصر فقط في إكمال مقرّره قبل نهاية العام الدراسي. وتابع نصر قائلا: “الخطوط المستخدمة في الكتب لا تتضمّن أيّ قدر من الجاذبية، فيما التصميم مخصص لأشخاص ليسوا في سنّ الطفولة”. ويشدّد على ضرورة إعداد مراجعة شاملة لكلّ المناهج بواسطة اختصاصيين في مجال التعليم والتربية، على أن يكون الهدف النهائي تخريج تلاميذ يدركون العلوم التي درسوها من دون أن يحفظوا فقط ما درسوه، لافتا إلى أنّ الواقع في السودان هو نفسه في البلدان العربية بمعظمها.
من جهته، يستعيد الخبير التربوي عابدين عثمان عابدين ذكرياته الجميلة إبان عهد الاعتماد على معهد التربية في جامعة بخت الرضا، علماً أنّه أنشئ في عام 1934 ويُعنى بإعداد المدرّسين وتدريبهم وتأهيلهم. ويوضح عابدين أنّ المعهد كان يشكّل لجان متخصصة لإعداد أيّ منهج للمدارس، على أن يرتكز كل واحد من المناهج على شرط رئيسي وهو أن يتلاءم مع كل البيئات السودانية بتعدّدها الجغرافي والعرقي والثقافي، مع تجريب كلّ مقرر دراسي لمدّة لا تقلّ عن عامَين اثنَين قبل إلزام المدراس بالعمل به. ويضيف عثمان أنّ الأنظمة في الفترات القريبة السابقة عمدت إلى إعداد مناهج تخدم توجّهها الأيديولوجي مع استبعاد كلّ مادة من شأنها أن تهدّد نهجها الفكري، حتى ولو كانت من باب التثقيف والتوعية حول الحقوق، بما في ذلك المناهج الخاصة بالتربية الوطنية. كذلك، أدخلت مواد كالتربية العسكرية والتي أثبتت عدم جدواها. ويشير إلى أنّ الأنظمة السياسية السابقة ألغت إعداد المناهج في جامعة بخت الرضا وكلّفت أشخاصاً غير أكفاء بإعداد مواد من خارج نطاق تخصصاتهم، فيما خلت المناهج من أيّ مواد ذات طبيعة تثقيفية. ويتابع عابدين أنّ مادة التاريخ صارت تتناول شخصيات غريبة عن السودان، متجاهلة أخرى وطنية، مشدداً على أنّ أيّ تغيير في المناهج مستقبلا يجب أن يستصحب معه إجراء تغيير على السلم التعليمي الذي استحدثته الأنظمة السابقة.
وقد امتدت يد التغيير السالب في الفترة السابقة إلى رياض الأطفال، ففيها يُلقَّن الصغار أنّ الذين حملوا السلاح في وجه الحكومة هم كفرة فجرة ويتوجب الابتعاد عنهم والتبليغ عنهم أيضا، بالإضافة إلى امتلاء المنهج بمعطيات عنصرية تدفع إلى تهميش فئات مجتمعية إلى جانب التمييز في حقّ المرأة وهدر حقوقها، حيث تصورها المناهج كمجرد خادمة في المنزل عليها تجهيز الأكل والشرب مع الحرص على نظافة المنزل وللأسف الشديد صارت أمور التعليم وإعداد النشء مسرحا للصراعات الأيدولوجية. وكمثال على ذلك وفي وقت غير بعيد، كادت عملية إعادة طباعة كتاب خاص بمادة التاريخ أن تتسبب في معركة دموية بين قبيلتَين في شرق البلاد، إذ أنّه يتضمّن درساً حول وجود مملكة لقبيلة بعينها في مناطق تكثر فيها القبائل. وهذه الحادثة أكّدت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ الذين تسلّموا أمر التعليم غير مؤهّلين لذلك وغير مبدعين ويفتقرون إلى الفكر والوعي والثقافة وللأسف الشديد فإن ذلك لم يحدث في المجال الأكاديمي فقط بل في التعليم الحرفي الذي واجه مشكلات جعلت وزارة التعليم العالي تحرم التلاميذ من الالتحاق بالجامعات نظراً إلى ضعف المنهج.
إن التعليم في السودان يحتاج لثورة حقيقية كما يحتاج لخبراء يملكون القيم التربوية ويملكون المقدرة العلمية لإعادة صياغته بالصورة التي تخدم مصالح البلاد وتمكن فلذات أكبادنا من وضع لبنات مستقبلهم دون عوائق أيدولوجية تلقنهم ما بباطنها دون فكر ووعي. والسؤال المحوري الآن هو: هل الفرصة مواتية لإحداث تغييرات موجبة في مسيرة التعليم في السودان؟
وبتوجيه السؤال للخبير التربوي الأستاذ عابدين عثمان عابدين أجاب: أعتقد أن المسألة تتعدى محدودية الإجابة على هذا السؤال لتصل إلى شمولية الأمر ويدور بخاطري سؤال يمكن من خلال الإجابة عليه نصل لمبتغاتا أخي الكريم أنا أتساءل ما إذا كنا جاهزون بعد لتغيير جذري في العملية التعليمية برمتها؟ مسألة التغيير في التعليم مسألة شائكة ومتعددة المطلوبات، التعليم في السودان تم إختراقه بشكل كبير مما أحدث شروخا” تحتاج للكثير من العمليات الجراحية نكون بعدها في حاجة لوقت غير قليل للتعافي والنهوض من جديد وإكمال العلاج، يا أخي المعلم نفسه صار مشكلة في حد ذاته، المعلم الآن معبأ حتى السقف بسفاسف يصعب التخلص منها وإعادة تعبئته بما ينبغي، إنه الآن مثل السيارة التي تعمل بالبنزين ونريد تغييروقودها إلى جازولين لأن صب الجازولين على البنزين دون التغييرات المطلوبة يعطب السيارة ونحن لا نريد التعامل مع معلم معطوب يخلط لنا بين المنج القديم والمنهج الجديد لأنه وقتها سيعطينا (سمك لبن بيض) لذلك أخي الكريم نعم يمكن تعديل حال التعليم ولكن رويدا” رويدا وأنا معك في أننا نحتاج لذلك بسرعة ولكن دون تسرع ودون تهور.
اعتقد ان الفرصة مواتية ليس بسبب تغير الراهن السياسي ان افترضنا انه تغير……. ولكن بسبب ان نتاج تعليمنا يعسكه الكثير من السلبيات السلوك العام وفقدان القدرة على حل المشكلات والدوران في فلك التلقي فقط دون المساهمة في النتاج الفكري والابداعي وغيره…….. ولكن نحتاج لدراسة عميقة وجادة لتحديد كيف نبدا وماذا نحتاج من المعينات ولمن تسند المهمة وغيره من حشد وتوعيه للمجتمع واعداد للكوادر الداعمة والمشاركة