يندرج هذا الموضوع في إطار التعاون بين مدونة تعليم جديد والكاتبة ليلى جبارة، وهو الخامس من سلسلة “حكايات كما يجب أن تروى“. تُنشر حصريا على صفحات الموقع. يمكنكم قراءة المقال التقديمي للسلسلة من هنا، و الحكاية الأولى من هنا، و الحكاية الثانية من هنا. والحكاية الثالثة: الجزء الأول من هنا، الجزء الثاني من هنا، والجزء الثالث من هنا. و الحكاية الرابعة من هنا. و الحكاية الخامسة-الرحلة الأولى من هنا. و الرحلة الثانية من هنا. و الرحلة الثالثة من هنا. و الرحلة الرابعة من هنا.
بقي السندباد مدة من الزمن في بلده يعمل ويكسب حتى حدثته نفسه مجددا بالسفر، فاجتهد في شراء بضاعة مناسبة وحزم أمتعته وسار على الساحل حيث وجد مركباً كبيراً مجهزا بعدة جديدة فاشتراه وأجر له ربانا وبحارة، ثم نقل إليه حمولته ونزل معه مجموعة من التجار إلى البحر فساروا على بركة الله ينتقلون من مكان لآخر يبيعون ويشترون ويتفرجون على البلدان ويتعرفون على أحوال الناس وعاداتهم إلى أن تراءت لهم جزيرة مهجورة لا يظهر منها إلا قبة بيضاء عظيمة، فساروا باتجاهها ولما وصلوا طلع التجار على الجزيرة وأخذوا حجارة وبدؤوا يضربون تلك القبة فسارع إليهم السندباد ونهاهم عن ذلك قائلا:” لا تفعلوا ذلك ..توقفوا.. إنها بيضة لطائر الرخ ولو أتى الآن سيهلكنا جميعا”.
وما كاد السندباد ينهي كلامه حتى أظلمت السماء فوقهم فرفعوا رؤوسهم وإذا بقرص الشمس قد حجب وظهرت أجنحة الرخ الكبيرة ففروا بسرعة نحو المركب.
اقترب الطير من عشه ورأى بيضته مكسورة فصاح بصوت عال كهزيم الرعد وحلق نحو المركب ولكنه حول اتجاهه عنه وغاب بعيدا فسر الركاب وساروا يطلبون الابتعاد عن هذه الجزيرة وما هي إلا ساعة زمن حتى عاد الرخ ومعه طائر آخر من فصيلته وفي رجل كل واحد منهما صخرة عظيمة فألقياهما على المركب، جذب الربان المركب فتجنب الصخرة الأولى لكن الثانية أصابت مؤخر المركب وحطمته فغاص الركاب في عمق البحر أما السندباد فكان يحاول النجاة فوجد لوحا من ألواح المركب وتعلق به ثم ركبه وصار يجدف برجليه والريح والموج يساعدانه على السير حتى تراءت له جزيرة ساقه القدر إليها وهو في حالة صعبة يشارف على الهلاك لما قاساه من التعب والمشقة والجوع والعطش.
تمدد السندباد على شاطئ الجزيرة قليلا ليرتاح ثم قام يتمشى فرأى أشجارا وارفة بفواكه يانعة، وأنهار دافقة، وطيور مغردة، فأكل من الفواكه حتى شبع وشرب من تلك الأنهار حتى ارتوى.
وحينما أقبل الليل نام على خوف وحذر حتى الصباح، ثم قام وسار بين الأشجار حتى وصل إلى ساقية ماء جارية وعندها شيخ مؤتزر بإزار من ورق الأشجار فظن السندباد أنه من ركاب المركب الناجين فدنا منه وسلم عليه فرد الشيخ التحية بالإشارة ولم يتكلم.
فسأله السندباد:” يا شيخ ما سبب جلوسك وحيدا في هذا المكان؟”
فلم يرد الشيخ ولكنه أشار للسندباد أن يحمله وينقله إلى الجانب الثاني من الساقية.
فتقدم منه وحمله على أكتافه إلى المكان الذي أشار إليه وطلب منه النزول، لكنه رفض ولف رجليه على رقبة السندباد وأشار له أن يدخل بين الأشجار فدخل وكان كلما تباطأ السندباد أو أراد إنزاله يضربه الشيخ برجليه ضرباً مبرحا ولا يفلته أبدا، ولم يزل يشير إلي بيده إلى كل مكان أراده والسندباد يحمله كأنه أسير عنده لا يمكنه الخلاص.
بدأ السندباد يفكر في حيلة للإفلات من هذا الشيخ الغريب وبينما كان يتجول رأى عشبة تستعمل للتنويم فأخذها وتظاهر بأكلها ثم بدأ يسير بسرعة ويضحك فسأله الشيخ: “ما الذي دهاك لماذا تسرع وتضحك هكذا؟
رد السندباد:” إنها العشبة التي في يدي”
قال الشيخ :”هيا أعطني منها فورا”
قال السندباد:” لا يوجد منها الكثير وهي لي، لن أعطيك منها ”
غضب الشيخ وضربه برجليه فصاح السندباد: “توقف.. خذ هذا كل ما معي”
أخذ الشيخ العشبة وبدأ في مضغها ثم ابتلعها فشعر بالنعاس الشديد وما هي إلا لحظات حتى غط في نوم عميق وارتخت جميع أعضائه وصار يتمايل فمد السندباد يديه وفك رجليه ووضعه على الأرض وهرب بعيدا إلى الجانب الآخر من الجزيرة وبقي يترقب لأيام حتى رأى مركبا وسط البحر فأخذ يلوح ويصرخ بأعلى صوته:” ساعدوني… النجدة.. النجدة” فسار المركب إليه وصعد عليه وأخبر البحارة بقصته فتعجبوا كيف نجا من ذلك الشيخ الشرير الذي يسكن الجزيرة منذ سنوات ويهلك كل من يلتقيه ولم يسبق أن أفلت أحد منه.
سار المركب أياماً وليالي حتى وصل لمدينة عالية البناء جميع بيوتها مطلة على البحر تسمى “مدينة القرود”، فإذا دخل الليل يخرج سكانها من هذه الأبواب التي على البحر وينزلون في زوارق ويبيتون في البحر خوفاً من القرود القادمة من الجبال.
نزل السندباد يتفرج على المدينة وبيوتها ويسمع أخبارها العجيبة وسافر المركب ولم يطلع عليه فحزن واغتم وتذكر ما جرى له مع القرود في رحلاته السابقة.
تقدم رجل من أهل المدينة نحو السندباد ونظر إليه مليا ثم قال:” كأنك غريب عن هذه الديار يا أخي”
قال السندباد:” نعم.. أنا غريب وضائع، كنت في مركب قد رسا هنا فخرجت منه لأتفرج على المدينة وعدت إليه فوجدته قد رحل”.
فقال الرجل:” قم وسر معنا انزل للزورق، فإنك إن بقيت هنا ليلاً أهلكتك القرود”.
ونزل السندباد مع الرجل وأهله في الزورق ودفعوه من البر حتى أبعدوه عن الساحل مقدار ميل وباتوا تلك الليلة في البحر.
فلما أصبح الصباح، رجعوا بالزورق إلى المدينة وطلعوا وراح كل واحد منهم إلى شغله ولم تزل هذه عادتهم كل ليلة وكل من تخلف منهم في المدينة في الظلام جاءت إليه القرود وأهلكته، أما في النهار ترحل القرود خارج المدينة لتأكل من ثمار البساتين وتنام في الجبال إلى وقت المساء ثم تعود إلى المدينة ثانية.
وذات ليلة بينما كان السندباد مستلقيا على أحد الزوارق تقدم منه شاب يافع وسأله:” عفوا سيدي لكن ماذا جئت تفعل هنا؟”
فأخبره السندباد بقصته كاملة فعجب الشاب منها ثم سأله:” وماذا ستفعل الآن؟ إن أردت تعالى معي غدا صباحا إن شاء الله وسنعمل سويا في جمع جوز الهند وهكذا ستؤمن بعض المال تستعين به في السفر والرجوع لبلادك” .
فكر السندباد قليلا ثم قال:” معك حق، جزاك الله خيرا، هذا جميل لن أنساه لك ما حييت”
وفي الصباح الباكر توجه السندباد مع الشاب إلى خارج المدينة وأخذا معهما كيسين كبيرين وملآهما حجارة صغيرة ثم التحقا بجماعة من الرجال كل واحد يحمل كيس حجارة، وساروا معا حتى وصلوا إلى واد واسع فيه أشجار كثيرة عالية ويسكنه عدد كبير من القرود .
لما رأت القرود الرجال قادمين أسرعت بتسلق الأشجار وأخذت تصدر أصواتا مخيفة ولا تكف عن الحركة في هذه الأثناء أنزل الرجال الأكياس من على أكتافهم وبدؤوا في رشق القرود وهي تقطع من ثمار الأشجار وترد بها عليهم وهم يجمعونها.
لما رأى السندباد ذلك، اختار شجرة عظيمة عليها قرود كثيرة وصار يلقي حصاه بحذر كي لا يؤذي القردة التي كانت بالمقابل ترميه بجور الهند ثم بدأ بجمعه حتى امتلأ كيسه، ولما فرغ القوم من عملهم جمعوا أغراضهم وعادوا إلى المدينة.
قصد السندباد صاحبه الشاب وأعطاه كيس جوز الهند فرفض الشاب أخذه وقال:” خذه وبعه، وهذا مفتاح دكاني يمكنك استخدامه لوضع بضاعتك”
فشكره السندباد ودعا له الله أن يزيده من فضله ويغنيه.
صار السندباد يذهب مع جماعة جمع جوز الهند كلما قصدوا الوادي فيعمل معهم بجد ويجيء بالثمار للمحل ويميز منه الرديء ثم يبيعه.
وفي أحد الأيام رأى الشاب السندباد يحرك عصا على الأرض أمام باب دكانه فسأله:” ماذا تفعل؟”
أجابه السندباد:” أحاول معرفة الثمن الإجمالي لسلعة اليوم”
فاندهش الشاب وقال:” ولكن كيف ذلك؟ وما هذا الذي ترسمه على التراب”
رد السندباد::” هذا ليس برسم إنه كتابة لحسابات ألم ترها من قبل؟”
بدت علامات الحيرة على وجه الشاب وقد هز رأسه بالنفي قائلا:” نحن لا نعرف الكتابة ولا الحساب ولا يوجد واحد في قريتنا يكتب مثل هذا”
فقال له السندباد:” لا بأس يمكنني تعليمك ذلك وسيسهل عليك العمل كثيرا بإذن الله”
فرح الشاب بالفكرة وأقبل على السندباد يحتضنه ويشكره فقال له السندباد:” إن صنيعك الطيب معي لا يعادله أي معروف يا صاحبي”
طلب السندباد من الشاب إحضار بعض القصب لصناعة أقلام وطلب منه بعض المواد الكيميائية والزيوت وقام بحرق بعضها لتحضير حبر مناسب وطلب منه رقعا من جلد الحيوانات.
صار السندباد يعلم الشاب كل مساء القراءة والكتابة والحساب وما هي إلا شهور حتى تعلم الشاب الكثير بل وصار يعلم أفراد قومه.
أما السندباد فقد ازدهرت تجارته وجمع المال الوفير وذات يوم بينما كان جالسا على شاطئ البحر فإذا بمركب قد ورد إلى المدينة ورسا على الساحل وفيه تجار معهم بضائع مختلفة، فصاروا يبيعون ويشترون ويقايضون على جوز الهند، فقرر السندباد السفر معهم وذهب إلى صاحبه وودعه بعدما شكره على إحسانه.
ثم قصد ربان المركب واستأجر مكانا لجوز الهند خاصته وسار من مدينة لأخرى ومن بحر لبحر إلى أن وصل للبصرة فنزل بها ثم توجه إلى مدينة بغداد ودخل حارته وجاء بيته وأهله فسعدوا برؤيته وحمدوا الله على سلامته، وأقام بينهم يعمل بجد ويحسن لكل من يقصده، يكسو الأيتام ويعيل الأرامل، يهَبُ ويُهادي أهله وأصحابه وأحبابه، وقد عوض الله عليه بأكثر مما فقده في رحلاته السابقة فزال عنه تعب السفر وما قاساه.
سلام
أصبحت رحلات السندباد حكايات من نوع آخر يمكن أن نقرأها كبارا وصغارا بكل اطمئنان
بارك الله فيكم