يمر العالم حالياً بفترة من التغيرات غير العادية، إذ أدى التطور الكبير للبلدان متوسطة الدخل إلى تصاعد رغبة عديد من هذه الدول في تعزيز قدرتها التنافسية من خلال بناء المزيد من القوى العاملة عالية المهارة. كما أدى التقدم التكنولوجي المطرد في الوقت الراهن إلى تغيير طبيعة الوظائف والمهارات التي تتطلبها أسواق العمل، وإتاحة إمكانيات هائلة لتسريع خطى عملية التعلم، وقد أبرزت مستويات البطالة الآخذة في الارتفاع وخاصة بين الشباب فشل الأنشطة التعليمية في إعداد الشباب وتزويدهم بالمهارات الملائمة لمتطلبات سوق العمل واحتياجاته.
يحتاج العالم إلى حقبة جديدة من العدالة الشاملة، والتي يسترشد فيها صناع السياسات باحتياجات الأفراد في المجتمع، هذه الحقبة تتوزع فيها مكاسب العولمة بشكل عادل، وتروج فيها كرامة العمل، ويزدهر فيها حق التعبير، والمشاركة والديمقراطية، ويتم فيها تشجيع الإبداع وتعزيز مصداقية السياسات والمؤسسات العامة والخاصة، ومن الواضح في هذا السياق أن العناية بالتعليم تتيح إمكانية تحقيق النمو الشامل والأفضل، وزيادة السلم والإنصاف والحقوق، ومحاربة الفقر، وزيادة استقرار التنمية في الاقتصادات والمنشآت، وأماكن العمل، وأخيراً في المجتمع، وإيجاد عالم تقل فيه التوترات وتزداد فيه العدالة، ويعزز فيه الأمن.
لقد شغلت قضية تحقيق المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة بين البشر تفكير الناس منذ القدم، والمساواة والعدالة لها مجالات عدة، وأحد هذه المجالات بل وأهمها على الإطلاق المجال التعليمي، ومبدأ تكافؤ الفرص التعليمية، وهو مبدأ يمس قيمة المساواة والعدالة الاجتماعية، وتحقيق ديمقراطية التعليم في المجتمع، فهو حق إنساني مشروع لكل فرد طبقاً لقدراته واستعداداته دون النظر إلى خلفياتهم، وهو مبدأ أقرته جميع الأديان السماوية، ونصت عليه جميع الدساتير التي صدرت في العالم، وكذلك جميع المعاهدات الدولية باعتباره أحد أهم المبادئ التي تقوم عليها التربية منذ بداياتها خاصة بمرحلة التعليم الأساسي.
وبدخول العالم حقبة جديدة من التطورات التي حدثت في مجال التعليم، وخاصة بعد ظهور جائحة كورونا، ومحاولة التعايش معها؛ زاد الإقبال والاهتمام بالتعليم الإلكتروني، والتعليم عن بعد، وتوظيف كافة الأدوات والتقنيات الرقمية التي يمكن استخدامها في العملية التعليمية في كل دولة على حسب قدراتها وإمكاناتها، وبالتالي؛ وفي ظل هذا العصر تغير مفهوم العدالة واتسعت أبعاده لتشمل ما أطلق عليه كاتب المقالة مصطلح (العدالة الرقمية).
وعلى الرغم من إتاحة الفرص أمام جميع الأفراد للحصول على التعليم بشكل عام دون اعتبارات عرقية أو دينية أو طائفية أو جغرافية أو غيرها، وفتح المدارس في مختلف المناطق، وضمان الدول لحق التعليم المجاني والإلزامي، إلا أن هذه الفرص لم تكن متكافئة اجتماعياً بين أبناء الطبقات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة في العقود الماضية، وزاد عدم التكافؤ مع عدم توفر الأدوات الرقمية لدى فئات كثيرة من المجتمع لأسباب اقتصادية أو اجتماعية. لذا وجب على المُخطط التربوي عدم الاقتصار في اهتمامه على تحديد معدلات المشاركة في التعليم، والتنبؤ بأعداد الملتحقين بالتعليم وتقدير معدلات القيد الطلابي لتوفير الأماكن التعليمية، وتلبية مطالب جميع أبناء المجتمع فحسب، فقد تطورت أبعاد مهنته لتشمل معطيات التعليم في الوقت الراهن، والمتعلقة بالتكنولوجيا الرقمية وتطبيقاتها المختلفة وأجهزتها وبنيتها التحتية.
وعليه فإن تحقيق العدالة الرقمية كأحد فروع العدالة التعليمية التي تقع تحت قبة العدالة الاجتماعية أمر ضروري في عصر كورونا الرقمي خاصة من الجانب التعليمي، وما يتعلق بالتكنولوجيا التعليمية.
مفهوم العدالة الرقمية :
يعرفها تامر الملاح (2022) بأنها: “تحقيق المساواة العادلة رقمياً في الفرص المتاحة للتلاميذ في الجانب التعليمي، وكافة أفراد المجتمع على الجانب الاجتماعي في الوصول إلى الأدوات والأجهزة والتطبيقات والتقنيات الرقمية بشكل متكافئ يتجاوز المساواة الرسمية، ومساعدة الدولة لفئات المجتمع لضمان الوصول الرقمي الكامل للجميع، بغض النظر عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لأفراد المجتمع بما يضمن تكافؤ النتائج، حتى يتسنى للجميع التعرض لنفس الظروف لضمان الإنجاز على نحو متساوٍ فيما يتعلق بالإنجازات التعليمية أو الاجتماعية”.
فهي عملية أخلاقية بأدوات رقمية تضمن المساواة في الفرص والأدوات، فلكي تستطيع أن تحكم على مستوى الطلاب أو الأفراد في العصر الحالي فإن من أهم مبادئ العدالة أن توفر لهم نفس الإمكانات والأدوات والوصول الرقمي، وذلك حتى يكون الحكم عادلاً، وعليه فإن تحقيق العدالة الرقمية يحتاج إلى تغيير في كثير من السياسات التعليمية إذا ما قصدنا تطبيقها في القطاع التعليمي، فكثير من الأسر ليس لديها المقدرة على مواكبة هذه التطورات، وتحتاج إلى دعم مباشر من الأنظمة الحاكمة لإتاحة الأدوات التي تساعدهم على الوصول الرقمي.
أبعاد العدالة الرقمية :
تتعدد أبعاد العدالة الرقمية وفقاً لظروف كل مجتمع وكل نظام تعليمي، ولكن يمكن إجمال أهمها كالآتي:
- الوصول الرقمي: وهو بُعد يضمن تحقيق التكافؤ في فرص استخدام الأدوات الرقمية بين جميع الأفراد بشكل عام والطلاب بشكل خاص، فيجب على جميع الطلاب أن تتوفر لديهم نفس الأدوات التي تمكنهم من استخدام التكنولوجيا في التعليم.
- الأجهزة التكنولوجية: والتي تتمثل في توفير الأجهزة والأدوات الرقمية لدى جميع الأفراد والفئات، وذلك من خلال خطط واضحة ومحددة، مما يسهم في تحقيق أهم أبعاد عمليات التحول الرقمي التي تتم في الوقت الحالي في كافة المجتمعات.
- البنية التحتية: لكي تتحقق العدالة الرقمية في المجتمع بشكل كامل لابد من توفير بنيات تحتية في كافة المقاطعات والمناطق على شكل متساوٍ وعادل، وذلك بما يضمن سهولة الوصول الرقمي، وتوفر الاتصال بالعالم الرقمي، واستخدام التكنولوجيا في التعليم أو في المهام الاجتماعية التي تحولت إلى الصيغ الرقمية في العصر الراهن.
- الدعم السياسي: وهو مقتصر على توفير النظام الحاكم في الدول للأجهزة والأدوات والبنيات التحتية بشكل مدعوم، وبأسعار تتناسب مع مستوى معيشة الأفراد في كل منطقة وفئة على حده، بما يضمن تحقيق العدالة الرقمية التي تراعي الظروف الاقتصادية والاجتماعية لكل منطقة جغرافية على حسب ظروف معيشة سكانها.
- الدعم المجتمعي: توفير منظمات المجتمع المدني لدعم مادي وتكنولوجي لضمان وصول الأجهزة والأدوات والإنترنت لجميع فئات المجتمع، وتحقيق التكافؤ في ذلك.
- السياسات التعليمية والمجتمعية: يجب، عند صياغة السياسات التعليمية، أن ندعم ونعزز مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية والرقمية والمساواة في جميع ما يخص التعليم حتى لا تتعالى صيحات متهمة سياسات التعليم بأنها تعزز التمييز أو تدعم التركيبة الطبقية في المجتمع من خلال التعليم الأساسي خاصة.
فتحقيق هذه الأبعاد يضمن العدالة الرقمية في القطاع التعليمي والمجتمعي بشكل يتيح إمكانية تطبيق التعليم الرقمي في أي وقت وأية ظروف دون وجود عوائق أو مشكلات تعيق ذلك، وفقاً لما تعرضت له الكثير من الدول بعد اللجوء المفاجئ إلى التكنولوجيا التعليمية في جائحة كورونا، ولم تكن البنى التحتية مؤهلة أو الوصول الرقمي متاحاً، أو أفراد المجتمع لديهم ما يضمن استخدام ذلك بكل سهولة.
مميزات تحقيقها:
إن دراسة مستوى العدالة الرقمية في العصر الراهن في المجتمع يخفي وراءه نسبة من المحرومين من التعليم لأسباب عدم توفر الإمكانيات الرقمية لديهم إما لأسباب اقتصادية أو لعدم توفر البنية التحتية الملائمة، ومن ثم لا يقدم المخطط التربوي تفسيرات كافية حول العوامل المرتبطة بذلك، والتي تؤثر في تحقيق العدالة الرقمية في التعليم.
وإذا ما تحققت فسوف تضمن للمجتمع والتعليم الآتي:
- مشاركة جميع فئات الطلاب تعليمياً والأفراد مجتمعياً في التطور التكنولوجي للعصر الحالي.
- التغلب على الكثير من العوائق الخاصة بالإتاحة الرقمية لدى الطلاب.
- نشر الثقافة الرقمية على أوسع نطاق والتمتع بمهاراتها المختلفة من قبل الجميع.
- المساهمة في تطبيق استراتيجيات التحول الرقمي على نطاق الدولة وكافة مؤسساتها.
- تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص الرقمية للجميع، وعدم التمييز، وإتاحة الفرصة للجميع للمشاركة والتواصل والتعلم عن بعد.
- مواجهة كافة الدعوات الإلكترونية الهدامة للدين والمجتمع والحملات المشوهة للقيم بنفس أدواتها.
وفي النهاية للعدالة وجوه وأبعاد كثيرة، ولعل من أهم أبعادها الحالية البعد الرقمي، وذلك نظراً لطبيعة العصر الحالي.