يقول الله تعالى: ﴿ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا﴾، وجاء في الأثر﴿الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها/ أو أخذ بها﴾. من خلال الاستشهادين يبدو أن صفة الحكمة متعلقة بعنصرين: العطاء أو المنح، ثم البحث والتحري، وضمن هذين العنصرين تتحرك ثنائية قوية داخل نسق العلاقة الإنسانية ونقصد بها ثنائية الأستاذ/المتعلم. الأول أوتي الحكمة أو من المفروض أن يكون حكيماً، والثاني لا تُشترط فيه الحكمة لكنه مطالب باقتفاء أثرها. فنبي الله موسى عليه السلام، تحرى العلم، ﴿هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً﴾ وسيدنا الخضر كان جوابه ﴿لا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا﴾، في القصة نموذج لطلب العلم والمثابرة والصبر والمصاحبة وجبر الخواطر. يمكن اعتبار القصة مثالا جيدا للثنائية السابقة، في شقها الحافزي، أما رفض السؤال فإنه حتما لا يندرج ضمن علاقة الأستاذ بالمتعلم، فالثنائية تنتعش بالسؤال، وتكتمل بأساليب القياس والحجاج والبرهنة والمقارنة.
الآن يبدو لي ولكم أني أتحدث عن مظهر هام من مظاهر التعلمات، وبناء المفاهيم داخل الفصول الدراسية أو خارجها على حد سواء، وعبر هذا البناء المعرفي تتداخل الكثير من الأنساق، وتتعدد مجالاتها، وتتحكم فيه مقاربات نفسية وبيداغوجية واجتماعية، وفي الكثير من الأحيان تُوجِّه هذا الصرح المعرفي ظروفٌ مهنية، ووضعيات اقتصادية وسياسية تؤثر على سير العملية التعليمية التعلمية. والسؤال الكبير في هذه المرحلة الذي يفرض نفسه بقوة هو ما عبر عنه الشاعر الفلسطيني “محمود درويش” في مختلف أشعاره؛ كيف نحول الإحباط واليأس إلى أمل وقوة؟
هل نراكم الشعور بالإحباط ونلعن الظلام، هل نتحسر على سلسلة الإخفاقات التربوية ؟ أكيد لا. إن الإسهام في الإصلاح والتغيير يأتي من الفرد نفسه، لأنه في جميع الأحوال يكسب الرهان، رهان الطموح، التفكير الإيجابي، عدم الاستسلام، تنمية مهاراته وتطويرها. ونحن نتحدث عن هذه العلاقة التي يظهر فيها طرف ثالث؛ ونقصد به الإدارة التربوية، سنكون بصدد تكريس نظرية برزت في علم النفس الحديث هي ”نظرية التعلق” وتعني كيف تتوطد وتترسخ علاقة معينة بين الأفراد؟ إذن هي أسلوب ونمط في العيش ينتقل من خلاله الشعور الكامن في أعماق الطفل بالارتباط بوالديه، إلى الارتباط بأساتذته، من هنا نتساءل كيف نجعل المتعلم مرتبطاً بفصله الدراسي، وكيف نجعل الأستاذ متشبتاً بتلامذته؟ كيف نرتقي بالسلوك الإداري إلى أدوار قيادية محفزة؟
تحدثنا الإدارة الحديثة بأن المدير لم يعد مشرفاً بيروقراطيا، وإنما مدبراً قياديا، تجتمع فيه صفات التأثير والإقناع والمشاورة والمشاركة، مع استحضار المرونة في اتخاذ القرارات الإدارية التي تستوجب ذلك، و سرعة الأجرأة في قرارت أخرى، بحيث إن تأجيلها سيجلب مضرة للمجتمع المدرسي، لذلك فالمدبر ينبغي أن يتمتع برؤية استشرافية مستقبلية توقعية. هكذا نكون أمام سلوك يوحد الأطراف الثلاثة، المتعلم، الأستاذ، المدير، إنه التعلق، في منحى تصاعدي ترابطي بمعنى كيف يتوحد الجميع من أجل مدرسة مفعمة بالحيوية والتجديد؟، إنه سؤال يظل قائما ومتغيراً؛ لكن الثابت هو قناعتنا بأن المهمة التعليمية إنسانية تربوية، وأن الاجتهاد فيها هو ضروري، حتى لا نعلن موت المربي والمدبر والتلميذ كما أعلنت بعض التيارات الأدبية والفكرية في سياقات مخصوصة، موت المؤلف، وموت الإله، وموت الناقد. قد نعلن عن استعادة الأستاذ لحيويته وطاقته، وقوته كما عاد طائر العنقاء من رماده، ليكون أكثر خصبا وعطاء. من خلال اعتماد طرائق متنوعة واستراتيجيات مختلفة في تمرير التعلمات، تجعل من المتعلم مركزاً وهدفاً، ومحور العملية التعليمية. من هذه الطرائق:
- الاستعانة بالرسوم والأشكال والصور؛
- عروض مرئية وسمعية؛
- إثارة وضعيات مشكلة من الواقع؛
- القيام بأدوار تمثيلية من شأنها تعزيز مهارة اللغة؛
- إدماج التعلمات في الحياة اليومية؛
كما يمكن أن نتحدث عن مقاربات معرفية مثل: الاستكشاف، المقارنة، التعلم الذاتي، التعلم بالنظير، العصف الذهني، السرد العلمي والتاريخي الذي يحفز ذهن المتعلم للانتباه.
من خلال ما تقدم يتضح أن مهنة التدريس أو صناعتها كم يسميها ” محمد بازي” ( صناعة التدريس، ورهانات التكوين، الطبعة الأولى 2010، دار الأمان، المغرب) تقتضي استحضاراً جيداً للقيم الإنسانية، فبدونها لا يمكن أن تتغير معالم التربية والتكوين، كما يجب كذلك الرهان على الأستاذ، وكافة العاملين من أطر إدارية، ومساعدين تربويين، وتقنيين، ولتحقيق هذا الرهان، فعلى الوزارة الوصية الاهتمام الجيد بالمورد البشري وتأهيليه وتكوينه ومراعاة ظروفه الاجتماعية والمهنية والنفسية، ومن ثمة اعتماد مبدأ التحفيزات المعنوية والمادية التي تشجع على العمل، وتتبنى خطابا ينبني على الثقة خاليا من الـتأويلات والتفسيرات المنفرة، والمثبطة للمضي قدما نحو حمل رسالة التعليم؛ الرسالة التربوية الإنسانية في جوهرها.