كتبت هذا المقال لموقع المؤتمر العالمي للابتكار في التعليم في إطار الحوار العالمي حول التباين بين مهارات الخريجين ومتطلّبات سوق العمل في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، و يعاد نشره في إطار اتفاق التعاون و تبادل النشر بين ( وايز WISE )، و موقع تعليم جديد، اضغط هنا للولوج إلى صفحة الحوار.
شهد عصر الثورة الصناعية ما يمكن أن يطلق عليه: إعادة تعريف دور المدرسة، فبعد أن كانت هذه الأخيرة تضطلع بمسؤولية التنشئة الاجتماعية و الدينية للطفل، أصبح دورها –في ظل الفلسفة المادية النفعية التي أسست للثورة الصناعية- إنتاج موارد بشرية مؤهلة تتميز بالمهارة الكافية لإدارة المنظومة الصناعية القائمة، و تطوير البحث العلمي لتحسين الإنتاج الصناعي.
هذا التعريف الجديد لدور المدرسة سيزكيه الانتقال من عصر الاقتصاد الكلاسيكي الذي كان يعتمد أساسا على ثلاثية الأرض و العمالة و رأس المال، إلى عصر اقتصاد المعرفة حيث المعرفة بكل تجلياتها محرك رئيسي للنمو الاقتصادي، و حيث الموارد البشرية المؤهلة و ذات المهارات العالية رأس مال مهم و لا غنى عنه.
هذه الحقيقة جعلت الكثير من الأنظمة التعليمية تعيد النظر في مناهجها التعليمية في أفق إعادة تعريف دور المدرسة و تكييف مخرجاتها مع المتطلبات الجديدة لسوق العمل، كما أن الأسر بدورها أصبحت أكثر اهتماما و استثمارا في تعليم أبنائها، وعيا منها بدور المدرسة في ضمان المستقبل المهني لهؤلاء، كما عليه الحال في دول شمال إفريقيا و الشرق الأوسط. فهل وفقت الأنظمة التعليمية العربية في تكييف مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل؟ و كيف السبيل إلى جعل المدرسة قاطرة للتنمية الاقتصادية دون أن تفقد دورها التاريخي والمتمثل أساسا في التنشئة الاجتماعية للطفل و تكوين نموذج المواطن الصالح؟
1- الأنظمة التعليمية العربية بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل
تتميز الأنظمة التعليمية العربية عموما بتركيزها على المعارف واعتماد أسلوب التلقين مع إهمال الجانب التطبيقي الذي يجعل الطالب يحس بجدوى ما تعلمه في الفصل الدراسي و أهميته من الناحية العملية. كما أن أساليب التقويم المعتمدة حاليا تدفع الطلاب إلى اعتماد استراتيجية أشبه ما تكون بعملية شحن المعلومات و تفريغها يوم الامتحان، لتنتهي علاقتهم بها على الأقل من الناحية النفسية. إضافة إلى ما سبق ذكره فإن ضعف التخطيط و غياب الرؤية الاستشرافية يؤديان إلى اعتماد تخصصات لا علاقة لها بالاحتياجات الحقيقية لسوق العمل، مما يحكم على دارسيها بالبطالة إن لم يقوموا بتغيير التخصص. من جهة أخرى، فإن وعي الطلاب بالجدوى الاقتصادية و الاجتماعية لبعض التخصصات يدفعهم لاختيارها رغم أنهم لا يظهرون أي ميول أو رغبة حقيقية في دراستها و التعمق فيها.
إن العوامل التي سبق ذكرها تؤدي في آخر المطاف إلى إغراق المجتمع بخريجين ذوي مستوى عال من التكوين النظري، لكنهم من الناحية العملية غير مؤهلين لولوج سوق العمل الذي يتطلب حب المهنة أولا و التدريب العملي و التمكن من التكنولوجيا و اللغات الحية، إلى جانب مهارات التفكير الناقد و التشبع بروح الإبداع و الابتكار. و لعل ما يزكي هذا الرأي نتائج الدراسة الاستقصائية التي قامت بها شركة بانثيرون-ارنيست أند يونغ على صعيد ست دول خليجية تحت عنوان: “ كيف ستقوم دول الاتحاد الخليجي بسد فجوة المهارات؟” . و قد خلصت هذه الدراسة إلى أن أهم الأسباب التي تؤدي إلى هذه الفجوة تتمثل أساسا في الافتقار إلى المهارات و السلوكيات التي تمكن الشباب من بناء حياة مهنية طويلة و ناجحة في القطاع الخاص، إلى جانب غياب الخبرة العملية التطبيقية، مما يجعلنا نتساءل عن الدور الذي أصبح على المدرسة أن تلعبه لتجاوز هذه الوضعية المعقدة، خصوصا إذا استحضرنا المسؤولية الأخلاقية الملقاة على عاتقها و سؤال الهوية الذي بات يُطرح بإلحاح في ظل العولمة التي طالت جميع تفاصيل حياتنا.
2- المدرسة: رهان المجتمع لتحقيق التوازن بين ضرورة التنمية الاقتصادية و متطلبات التنشئة الاجتماعية
لا ينبغي أن يدفعنا الهاجس الاقتصادي و التنموي إلى التغاضي عن الغاية المثلى التي من المفترض أن تسعى المدرسة إلى تحقيقها، و المتمثلة أساسا في التنزيل السليم للفلسفة التربوية التي توجه النظام التعليمي ككل، و التي تفرض على المدرسة القيام بدورها –إلى جانب مؤسسات المجتمع الأخرى- في تكوين شخصية مستقلة و متوازنة و متشبعة بالقيم الإيجابية للمجتمع. أي أن المدرسة إلى جانب دورها في إكساب الطلاب المهارات و المعارف التي تؤهلهم لولوج سوق العمل، يجب أن لا تتنازل عن دورها القيمي و الإنساني. و لتحقيق التوازن بين الأمرين، يجب على النظام التعليمي أن يرتكز على الأسس التالية:
- بناء المناهج التعليمية على أساس البيداغوجيات النشيطة التي تتجاوز التلقي السلبي و تشجع على التعلم الذاتي و إعمال الفكر.
- التركيز إلى جانب المعارف، على المهارات و إدماج المكتسبات في وضعيات تحاكي الواقع الاجتماعي المحتضن للمدرسة.
- اعتماد التربية على القيم و المواطنة الإيجابية كمدخلين أساسيين للنظام التعليمي.
- اضطلاع المدرسة بمسؤوليتها في التربية على حقوق الإنسان بمبادئها الكونية.
- التشجيع على المبادرة و الإبداع و الابتكار.
- انفتاح المدرسة على محيطها الاقتصادي و عقد شراكات مع القطاع الخاص لردم الهوة بين المناهج النظرية و الطبيعة العملية التي تطغى على المقاولة.
- اعتماد تخصصات تستجيب للحاجيات الفعلية لسوق الشغل، مع ضرورة إدماج التربية على القيم و المواطنة في هذه التخصصات.
- فتح آفاق لطلاب العلوم الإنسانية و الاجتماعية لكي لا يصير ميول الطالب عائقا أمام ولوج سوق العمل.
إن تحقيق التوازن بين الأدوار المتكاملة و المختلفة للمدرسة أمر لا بد منه لتكوين شخصية متشبعة بالقيم الإيجابية و قادرة في الآن ذاته على الإسهام بفعالية في تحقيق التنمية الاقتصادية و الثقافية و بناء الحضارة. فالتركيز فقط على تلبية حاجيات سوق الشغل سيؤدي حتما إلى تشويه دور المدرسة و جعلها أداة لتخريج أفواج من المواطنين ممن ينتسبون إلى الإنسانية لكنهم حتما لا ينتمون إليها.
مقال واقعي ودقيق
شكرا لكم وعلى المقال الرائع . نلاحظ في الاونة الاخيرة انتشار البطالة في اوساط حاملي الشهادات العليا وخريجي الجامعات
والسبب واضح .
ولكن كيف نجعل المدرسة مدرسة وظيفية تنتج انسان وظيفي ’؟