بين الفلسفة وتطبيقات التربية
يتحدد دور المدرسة وتتجلى ملامحه في ظل المنطلقات الفلسفية التي يتبناها المجتمع، بل إن مفهوم التربية نفسه يختلف باختلاف تلك المنطلقات من مجتمع لآخر، وباختلاف العصور الزمنية التي أوجدته، فالفلسفة المثالية التي سارت مع البشرية مسيرة طويلة والتي بدأت على يد “أفلاطون” كانت تميز الروح عن العقل والجسد، وترى العالم الحسي متغيرا زائفا، ولذا فحواس الإنسان غير قادرة على أن تنشئ المعرفة الحقيقية الثابتة الموجودة في عالم المثل، وأن العقل وحده هو القادر على إدراكها.
ونظرا لطول المساحة الزمنية التي شغلتها هذه الفلسفة فقد بُذلت محاولات عدة لتطويرها حتى تظل مناسبة مع تقدم الزمان وتبدل حاجات الناس؛ حيث أعيد إحياؤها على يد “إيمانويل كانط ” و “هيجل” كما أعيد تجديدها أواخر القرن التاسع عشر، وكانت محاولات التجديد هذه بمثابة رد فعل لغلبة التوجه الصناعي وطغيان الميكنة، ومن أهمها تلك التي قادها “جورج موريس” استنادا إلى ظاهرتين كانتا حاضرتين بقوة في تلك الفترة: نمو الذوق الرومانسي في الأدب والفن. وتوافر أسس علمية ممثلة في المعرفة المستخلصة من الواقع ([1]) وبذلك فقد تجددت وتحوّرت صورُها من فلسفة مثالية ذاتية إلى مثالية نقدية إلى اهتمام بالتجريب حين حاول المجددون لها أن يوجدوا لعالم الخبرة الإنسانية مكانا بجانب عالم القيم الأفلاطونية، بأن يزاحموا منظومة الأخلاق المتعالية ذات الارتكاز الميتافيزيقي بالأخلاق التجريبية التي اكتسبوها في أجواء الثورة الصناعية، أي تحرير الأخلاق من عناصر الميتافيزيقا؛ وكانت الخطوات الأولى لهذا التحرير لا برفض تلك العناصر رفضا تاما، ولكن بردها إلى نظرية طبيعية شبيهة بالنظرية النفعية ([2]).
وتعد التطبيقات التربوية التي قامت على هذه الفلسفة امتدادا متناسقا لهذه الأفكار، فمفهوم التربية عند الفلاسفة المثاليين قام على محاولات إكمال العقل حتى يصل إلى كمال المعرفة الأولى التي كان يتمتع بها في عالم المثل قبل أن تنزل الروح إلى الجسد، ولما كانت الروح عندهم أهم جزء في كيان الإنسان فقد رأوا أن البحث عن الحقيقة المطلقة اللامادية من أهم الأهداف التربوية، وأن تحقيق الذات لا يتم إلا من خلال تحديد علاقتها بهذه الحقيقة، كما التزموا الثبات في المنهج، واهتموا بالمادة والمحتوى الدراسي أكثر من المتعلم، واستبعدوا مشاركة المتعلم في وضع شيء من المادة المقترحة للدراسة، وأهملوا رأيه، فما عليه إلا أن يسكن ليتعلم، ولكي يمكن معلمه من أن يحشو له عقله. وهذه التطبيقات تعوّل على تدريب العقل والروح وتهمل الجسم. وترى المعلم ناقلا للمعرفة، وليس ملهما.
الفلسفات المادية
مواكبة للثورة العلمية والصناعية في أوروبا، انتشرت أجواء الثقة المفرطة في قدرات الإنسان، فظهر الفلاسفة الماديون الذين نصبوا أنفسهم للوقوف أمام الإغراق في الميتافيزيقة وتقييد الفلسفة بقضايا الخلق والوجود، وتطور رد فعلهم تجاه الميتافيزيقا عن سابقيهم من الفلاسفة المجددين فصار ردا حاسما إذ رفضوها جملة وتفصيلا، واعتبروا أن الإيمان بها يجعل الإنسان ألعوبة في يد قوة خارجية بينما رأوا أن الإنسان ” يستطيع تشكيل الظروف التي تصوغ خبرته بعزمه وإرادته.” ([3]) فيما اعتُبر مجابهة بين اللاهوت وهذه الفلسفة.. وفي الفلسفات المادية تيارات متعددة منها ما هو تجريبي عملي، ومنها ما يحاول أن يتخذ أسلوبا متكاملا في التطبيق المادي لحركة الحياة ([4]).
ولم يخلُ المجال من الاتجاه النقدي الذي يمكن تلخيص توجُّهه في أن أصحابه يرون أنه “ليس في الإمكان أبدع مما كان” وينبغي أن نحافظ على استقرار الثقافة القائمة لأن الاستقرار هو المثل الأعلى الذي ينبغي على التربية أن تسعى إلى تحقيقه، وهي فلسفة سلفية جامدة الأفق ترى في الأمس خيرا مما تراه في اليوم. وترى الأوائل – على الإطلاق – خيرا من الأواخر دون تدقيق ودون تمييز([5]).
وهناك اتجاه “اللامدرسية” وهو اتجاه قاده النمساوي “إيفان إيلتش” وتبعه ( إيفرت ريمر) انتقد فيه الدور المدرسي، ورأى أن الطبقة الحاكمة هي التي تحدد نوع التعليم و توجه سياساته، وهي التي تحكم سيطرتها على مؤسسات المجتمع بما فيها المدرسة وفق ما ينفع مصالحها ولا يعود بالنفع على المجتمع. ومن قبلهما كانت بدايات هذا الاتجاه عند ” جان جاك روسو” الذي رأى أن معاهد التعليم “على عصره” تقدم تعليما يفسد الأطفال بما يبثه فيهم من قيم اجتماعية هي في معظمها لا تشكل صفاء الحياة الاجتماعية من الكذب والغش والنفاق..([6]) ولم يقدم هذا الاتجاه بديلا مقبولا للمدرسية.
التطبيقات التربوية في الإسلام
يؤكد التصور الإسلامي للحياة الإنسانية على المساواة بين سائر الناس في الحقوق والواجبات الأساسية فلا يعترف بالطبقية ويندد بالتمييز العنصري بين البشر؛ فلا فضل لجنس على آخر بلون بشرته أو بنسبه أو بلغته. ولا فضل للرجل على المرأة أو للغني على الفقير، فكل الناس لآدم، ومن أراد أن يتفاضل على غيره فليتفاضل بعمله الخيّر الذي يقدمه لقومه ولسائر البشر. كما يحترم هذا التصور العمل المتقن أيا كان يدويا أو ذهنيا. ويرى الإنسان روحا وجسدا معا وكلاهما يسند الآخر في أداء المهام التي خلق من أجلها. وتحض تعاليم الإسلام على الانفتاح على المعرفة، تحصيلا وتدبرا، وابتكارا في توظيف نتائجها إلى آلات ووسائل نافعة، وتعتبر ذلك واجبا وعبادة، وترى أن الحواس قادرة على أن تدرك وتستشعر وتُقيم حياة دنيوية راقية، وأن العقل والوحي يعوضان قصورها. والعالم المعاش ليس زائفا، بل واقع حقيقي نتعامل معه من أجل رقي الجنس الإنساني وتعمير الأرض بالعدل.
وتعد التطبيقات التربوية العملية التي قامت على هذه الفلسفة امتدادا متناسقا لهذه الأفكار، فمفهوم التربية قائم على تفعيل العقل والحواس والوحي وجميعها تتعاون في رسم الصورة الكلية للدنيا والآخرة، وأن على المؤمن أن يواظب على السعي الدائب ليواكب تنامي المعارف، ويلاحق المعدلات المتصاعدة للإتقان المهاري، ويتابع النضج العقلي مع تقدم الزمن. وأن الأخوة الإنسانية- في ظل منهج الله – متعاونة تسعى إلى رقي النوع الإنساني رقيا يناسب كائنا أسجد الله له ملائكته، وسخر له الكون بما فيه، وإلى تحرير إراداته من التسلط والقهر، وإلى حمايته من الاستغلال، وحماية بيئته مما يتهددها، وتؤكد على ترشيد استغلال واستهلاك المصادر الطبيعية. وبهذا يتقلص شر الإنسان وإن لم يستجب لدعوة الإيمان. والإسلام يحث المرء على التأمل والاعتبار والسير في الأرض لأخذ العبرة وللتواصل السلمي بإخوانه من البشر مما يعزز تجديد المعلومات والأفكار والأدوات البحثية، ومن الطبيعي أن تصادق التطبيقات التربوية في هذا التصور على النشاط اللاصفي، ولا تستبعد مشاركة المتعلم في وضع المادة المقترحة للدراسة. وأن للمتعلم أن يتحرك ويشارك معلمه وزملاءه الرأي والحوار والعمل. أما المعلم فناقل للمعرفة وللخبرة ومؤديها ومرشد لتدريب التلاميذ على إتقانها، وباعث على الابتكار والاكتشاف والتفكير. كما أن عالم القيم مرتبط بعالم الخبرة وموجِّه لها فالقيم لن تعلو إلا بالخبرات التجريبية المتجددة.
اجتهادات تربوية تطبيقية
1-التعلم من التاريخ
تهتم الشعوب المتحضرة بإطلاع الأبناء على تاريخ الأجداد فتتيح لهم مشاهدة ودراسة ما اكتشف من آثار، وتقيم القرى والأماكن الأثرية والمتاحف خصيصا لهذا الهدف. وتكون هذه الآثار دليلا ملموسا على ما قدم الأولون من جهود، ومنبها للأبناء أن ما يتمتعون به في حياتهم الحاضرة من مستوى معيشة وكفايات حضارية بُذلت في سبيل بناء أسسها جهود كبيرة وشاقة. ومن هذا الباب تحرص شعوب بلاد الخليج على أن يقف أبناؤها وقفة حقيقية واقعية يجربون من خلالها صورة محاكية للكيفية التي عاش بها الآباء والأجداد فيخرجون للتخييم في البراري فترة العطلة المدرسية للربيع ويسمون هذا الحدث بـ “الكشتة”.
2- التعلم من واقع الحياة
لعل الكثيرين من أبناء وبنات اليوم في عالمنا العربي يعرفون أن الآباء والأجداد كانوا في قرانا وحول واحات وعيون الماء في بوادينا، إلى عهد ليس بالبعيد، يضطرون إلى إقامة مفردات حياتهم وتصنيع حاجاتهم اليومية من غذاء ورعاية وترفيه مستخدمين ما يجود به الله عليهم من حبوب وثمار الحقل، ومما تمنحه ماشيتهم من خيرات، وما توفره جداول وقنوات المياه من أسماك؛ فكانوا يصنعون الجبن والسمن من الحليب، ويعدون الخبز مما زرعوا وحصدوا وطحنوا من حبوب. كما كانوا يتولون تربية ورعاية الحيوانات المدجنة التي توفر حاجاتهم الغذائية من اللحوم والبيض، ويصنعون بأنفسهم البُسط وأدوات الزراعة كالمكاتل والخُرُج. و كانت الأسر التي تربي الأغنام يتعاون أبناؤها رجالا ونساء في صناعة وإعداد حاجاتهم الموسمية من الملابس الشتوية بعد جز الصوف وحلجه وتمشيطه وغزله، وكانت الصناعات اليدوية البسيطة تقام في القرية لتخدم أعمال الزراعة وفِلاحة الأرض كالحدادة التي توفر الآلات الأولية للزراعة من منجل ومسحاة وجاروف وبلطة ومحراث ونورج وشادوف وساقية وغيرها. ولهذا كله فقد توفرت في مجتمع القرية آنذاك أجواء إنتاجية يومية تكثر فيها الأعمال والمهام كثرة تناسب مطالب صنع وإنتاج الحياة بهم في القرية ولغيرهم ممن يسكنون المدن في كافة المجالات المتعددة وتلبي حاجات الناس المتنوعة. ونظرا لأن هذه الأعمال كانت تؤدّى يدويا قبل شيوع الميكنة والتكنولوجيا فقد كان على الجميع رجالا ونساء كبارا وصغارا أن يتعاونوا في إنجازها؛ خاصة في أوقات الأعمال الكبيرة، كمواسم البَذر وتجهيز الأرض أو مواسم الحصاد بأعمالها الكثيرة من حصد للأعواد الناضجة، وعزل وغربلة وتخزين للحبوب، أو مواسم جمع الثمار وتسويقها. كانوا يقومون بهذه الأعمال في ميادينها الطبيعية: في الحقول والبيادر والمنازل وفي الورش الصغيرة التي يقيمونها في القرية. وكانوا يطرحون عن أنفسهم أتعاب العمل فيتجمعون في الأمسيات المقمرة للحديث والسمر أو يتحلقون حول أحدهم “حكواتي” يحكي لهم حكايات ونوادر وطرف التاريخ، وفي العطل والأفراح والأعياد حول مسرح خيال الظل ومسرح العرايس، وينصتون إلى صوت الناي وإلى الأهازيج أوالمدائح النبوية، ويشاركون في رقصات معبرة عما يشغلهم وينفعلون به من أحداث وآلام وأحلام.
أما اليوم فقد انعزلت أجواء الإنتاج في مزارع ومصانع استثمارية تقام في المناطق الزراعية والصناعية التي تبعد عن أماكن السكن وفق متطلبات بيئية وتنظيمية مستحدثة، فحرم المجتمع القروي من أجواء الإنتاج ومن روح التعاون على تحقيق الإنجاز وحرم الصبية من المشاركة في تسيير الأعمال اليومية حتى ولو بسقاية الشغالة!. وحرم الناس أيضا من إنتاج فنونهم الترفيهية وأصبحوا يتجمعون حول التلفاز يستهلكون ما ينتجه غيرهم من ساكني المدن فتفشت البطالة وهجر الكثيرون منهم القرى للبحث عن فرص عمل أو شرعوا في تغيير أنشطتهم المهنية فتغير وجه القرية، وتضخمت المدن بالأحياء العشوائية التي لجأ إلى بنائها الوافدون عليها من أهل القرى.
المدرسة والتعليم التفاعلي
لم تعرف هذه المجتمعات القروية ملل الفراغ وما شكا أبناؤها آلام الوحدة والعزلة، لأنهم عاشوا حياة متوازنة حيث تتحول الواجبات والأفكار من صورة ذهنية و قولية إلى أعمال ومهام منجزة إنجازا فرديا أو جماعيا. ومن هنا يأتي دور أحد مبررات الدعوة إلى أن توفر مدارسنا اليوم أجواء إنتاج يتدرب فيها التلميذ على صنع بعض الأشياء التي يحتاج إليها بيديه وأن تُنتخب له من بين أنشطة الحياة الطبيعية الواقعية التي يحياها خارج سور المدرسة في القرية أو في المدينة ما يستطيع أن يقوم به لتصبح ضمن ما تقدمه المدرسة من أنشطة وفعاليات تعليمية، وذلك لتتمكن المدرسة من موازنة أدائها ومن تنويعه بين النظري والعملي. إن هذا التوجه يعتمد على التعريفات الأولية لمفهوم التربية حيث هي تجهيز التلميذ ليكون قادرا على التعامل مع أحداث الحياة ومواقفها، قادرا على تخطي الصعاب وحل ما يعترضه من مشكلات ([7]) وقد كانت هذه الدعوة هي خلاصة التوجه العملي للفيلسوف والمربي الأمريكي الأشهر “جون ديوي” في النصف الأول من القرن الماضي حين أراد أن ينهض بالأداء المدرسي في بلاده ، وكتب في ذلك كتابه القيّم “المدرسة والمجتمع” فهي فكرة مر على إثارتها في بلد ميلادها ما يقرب من سبعة عقود نجدد الدعوة إلى تجريبها في بلادنا اليوم في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين لأنها تتوافق مع أهداف التربية وفق تعريفها السابق الذي هو أحد أهم تعريفاتها العملية، ولأنها تتسق مع توجهات واقع وحركة الحياة في المجتمعات النشطة التي تسارع بترجمة الأفكار إلى برامج عملية وسلوكيات مدربة احترافية، وإلى آلات تيسر إنجاز أعمال الناس اليومية، وتقضي حاجاتهم الضرورية. ولذلك فستظل فكرة هذه الدعوة مرغوبة قابلة للتنفيذ لا يصادر صلاحيتها تقدم الزمن وتغير الوسائل، لأنها مأخوذة من واقع عملي نجح في الحفاظ على عصامية القرى القديمة عبر التاريخ – في بلادنا وفي غيرها من بلاد الدنيا- ونجحت كذلك في النهوض بالمدرسة وبالعملية التعليمية في أمريكا من كبوتها في خمسينات من القرن الماضي.
لعلنا نعرف أن عزل الأطفال عن الخوض في درب الحياة ضرب من الإيداع إلى التخزين الذي تحبس فيه قدراتهم عن التعامل والتفاعل مع أحداث الواقع اليومي وتجمد مهاراتهم عن التعامل والتنامي مع مرور الأيام. وكثيرون منا يعرفون أن قصر العملية التعليمية على مواد نظرية تُقرأ وتُشرح ثم تنسخ وتصور في الملازم إن ناسب الفلسفات التربوية التي تحصر التعليم في الإمكانات الذهنية فقط وتعوّل على جمع المعلومات ونقلها إلى العقل واستظهارها وحفظها، أي تُقدّر العلم من أجل العلم بالدرجة الأولى؛ فلا يناسب المفاهيم السائدة في عالم اليوم .ولا يناسب تصورنا نحن العرب المسلمين للحياة والذي يفرض الجمع بين الفكر والتطبيق ويضع إمكانات العلم والتعلم من أجل تحسين وتطوير الإنسان والحياة والعلم جميعا. إن غياب الجانب التطبيقي في الدور الذي تؤديه المدرسة يعزل التلاميذ والمجتمع والمستقبل عن واقعية الحياة، وسندرك عظم جناية عزلهم هذه حين نستحضر- أن سرعة تراكم المعارف في زماننا هذا، وسرعة تجديد وتطوير آليات وتقنيات ووسائل عرضها وتداولها تتضاعف كلما تقدمت السنوات لا كلما تقدمت القرون كما كان العهد سابقا مع الأجداد، مما جعلنا لا نكاد نلاحق تفاصيل مضامينها لكثرتها وتعدد مجالاتها كثرة مطردة مع تقدم الزمن، وحين ندرك ذلك ونضيف إليه حقيقة أننا لانعرف ملامح المستقبل إلا تخمينا وتوقعا، ونستحضر أن علينا أن نزود أبناءنا بكل ما نتوقع أن يساعدهم في حل ما يمكن أن يجدّ لهم في مستقبلهم من مشكلات، سيمثل أمامنا حجم المسؤولية التي ألقيت على عاتقنا مسؤولية انتخاب الأنفع من بين هذا الطوفان المعرفي، ووضعه في صورة متوازنة المحتويات لتكون مناسبة لتلبية حاجاتهم الحاضرة، ومجدية في التعامل مع مشكلات المستقبل من ناحية، متوازنة في منهجية الدراسة والتناول بحيث تمكنهم من إقامة ركني أي إنجاز: المعرفة والتنفيذ.
لقد أخذ عالم اليوم في تربية الفرد على الحرص على الجمع بين المهارات الذهنية واليدوية معا فتوسع الإنسان الغربي والشرقي في أن يجمع بين الفهم الذهني والإتقان العملي، بين الوعي والاحتراف. إن معرفة التلميذ النظرية بمعدن من المعادن، مهما أتقنها دراسة ومناقشة وحفظا، لا تؤهله للتعامل المباشر مع هذا المعدن، وسرعان ما تُنسى، ولا تمكّنه من منافسة زميل له بنى معرفته بلمسه وطرقه وبرده وتسخينه وكشطه وصبغه ومحاولة تشكيله وصهره.
إن الإنسان وفقا لنظريات التلقي ترتفع قدرته على تذكّر ما قرأ كلما قرَنَ القراءة بحاسة أخرى معززة لها. و يظل الموضوع الذي يقوم بالقراءة عنه في موقعه وميدانه ويتمكن من معايشته بحواسه وملكاته، ورصد تغيراته التي لاحظها بنفسه هو الأثبت والأسهل والأسرع في الاستدعاء. كما تمكنه أجواء الحضور والمشاهدة من إعمال ملكات التفاعل والاكتشاف، وتكسبه جرأة على المبادرة بصياغة الدرس على النحو الذي رآه وتابعه وجرب تطبيقه، وقدرة على عرض ما توصل إليه، ومناقشته مع معلمه وزملاء صفه. ترى، هل يتأتى له أن ينسى موضوعا باشره وتفاعل معه على هذا النحو؟
إن تجهيز وتفعيل ورش العمل التطبيقية والمختبرات بحيث يتمكن كل تلميذ من إجراء التجربة المقررة بنفسه وبأدواته التي خصصت له، وتدريبه على الأعمال اليدوية المناسبة لدرسه وسنه، وعلى تجميع قطع الأجهزة الإلكترونية، وإعداد البرامج والتطبيقات الذكية، وتشجيعهم على التجريب والاكتشاف والابتكار – إن لم يكن ضرورة لتحسين المدرسة وتفعيل دورها لتتوافق مع ما يدور خارج أسوارها من حياة واقعية متسارعة الخطى نحو التغيير والتبديل – فإن حاجتنا إلى غرس قيم العمل وروح الإقبال على التجريب والاندماج في الاكتشاف وإحراز متعة الإنتاج، والدّربة على الملاحظة الواعية وعلى التآلف اليدوي/ الذهني/ العصبي مع الفك والتركيب والتجميع ومحاولات التوليف؛ وحاجتنا إلى إنشاء أجيال قادرة على إنتاج كفايتها الذاتية من المستهلكات الأساسية التي تؤمن غذاءه وكساءه ودواءه وسلامته؛ تفرض ضرورة تفعيل مثل هذه البرامج التطبيقية.
إن حاجتنا إلى المداومة على تطوير الإنتاج الزراعي والصناعي، لأقصى حد نستطيعه، لتكون منتجاتنا من الغذاء والإلكترونيات والأجهزة والسيارات والصناعات الثقيلة على أحدث ما يمكن إنتاجه في العالم المتقدم مطمح نبيل حاولت أجيال من أبنائنا تحقيقه، وسنظل مطالبين بمعاودة هذه المحاولات، وإن كان اجتهادهم وظروف أيامهم سارعت بهم إلى البدء في تحقيق هذا المطمح بالتوسع في بناء المصانع وإصلاح المزارع، فما المانع أن نجرب نحن هذه المرة على مستوى التعليم؟ (أي نبدأ من المدرسة) وما أدراك ما تأثير المدرسة حين يُضخ فيها نبض حياة حقيقية، إنها معاهد تدريب وتعليم منتشرة في كل ناحية وضاحية وقرية فإذا سرى فيها نبض الحياة الإنتاجية سرعان ما ييسر للانتقال خارج أسوارها.
نحن في حاجة إلى الآمال التي تبثها أجواءُ متابعة خطوات الإنتاج الناجح في النفوس، وإلى تزكية روح التعاون، وروح التلاقي الاجتماعي عليها، وإلى الاستزادة من مكتسبات التنمية الذاتية التي يتملكها الفرد والمجتمع في ظلال هذه الأجواء، وإلى نشر وتفعيل ثقافة احترام العمل بكل أنواعه اليدوي وغير اليدوي حتى يكون المعيار في تقييم المنجز والمنتج من الأعمال هو إتقان العمل ووصوله إلى مستحقيه فتعلو قيمة العمل لا بمكانة الطبقة الاجتماعية التي يُقدَم إليها، ولا بمكانة الطبقة الاجتماعية لمنتجه أو مقدمه، ولا من حيث هو عمل فكري معقد أو يدوي بسيط. إن الإنسان الذي يُقيمُ معنىً للحياة ويقدّر ما يُبذل من جهود في إنتاج مستلزمات الناس وآلاتها، وفي تنظيم وإدارة مصالحهم وتوفير ما يحتاجون إليه من خدمات هو ذلك الذي جرّب أن يساهم فيها بإنتاج نافع. فمن المتوقع منه أن يحافظ على ما تحت أيديه من أجهزة ومرافق لأنه ذاق كيف تكون مكابدة الوصول إلى منتج ناجح معتمد.
نريد أن نربي الجيل القادم على أن يأخذ أمر التعليم من رافدَيه النظري والعملي، وأن يعرف أن كل واحد منهما لا يمكن أن يحقق أهدافه إلا بارتباطه بالآخر وبتلازمه له، فإذا كانت الأفكار والنظريات والمعلومات التي تعرض عليه في أوراق الكتب هي بمثابة عقول وأرواح المشاريع؛ فالتطبيق العملي والتنفيذي لكل فكرة بمثابة إنشاء بدن لكل منها يظهرها إلى حيز الوجود فإذا بالرسوم والجداول والمعادلات تتحول في خطوات التجريب والتنفيذ المعملي والميداني إلى أدوات وأجهزة ومشاريع حقيقية أو محاكية للحقيقة حاضرة أمامه ملموسة.
إن كثيرا من المشكلات المدرسية كالفتور في علاقة التلاميذ بالمواد الدراسية، أو انحسار حيز التفاهم بين التلاميذ والمعلمين، أو الضغوط التي تمارس على الإدارة المدرسية من تعدد شكاوى أولياء الأمور، أو حيرة المسؤولين عن تأليف محتويات الكتب الدراسية من الفتور الذي يبديه التلاميذ إزاء محتويات الكتب؛ ستنتهي أو تقل ضراوتها بمجرد توفير أجواء إنتاجية تُخرج طاقات التلاميذ وتبعدهم عن الملالة والضجر- الناتجان من طول الجلوس على مقاعد خشبية جامدة – وعن المحاولات المستميتة في الالتزام بالسكون المحبط الجالب للنعاس. هذه الأجواء العملية تُحجّم أوقات – الاستماع المطول- وتـُرَشّدُها فلا يظل التلميذ يعاني الاستدعاءَ المضني لأدوار التلقي النظري البائس الجالب للركوض العقلي، تلك الأجواء التي لا تناسب طبيعة الأطفال ولم يعد اليافعون، في عالم اليوم، قادرين على السكون والاستسلام لها.
إن فهم العملية التعليمية على أنها علم وعمل، قول وفعل، تنظير وتطبيق يؤسس لاحترام التنظيم وتقدير قيمة الوقت، ويفتح الباب لترسيخ قيم تعاملية وعملية بهتت أوغابت في التعامل الفعلي بين التلاميذ لأنها لا تنشط إلا بتنشيط بيئات التجريب والتعاون على الإنجاز. كما أن القانون المدرسي سيكون في وضع إيجابي تُحترم فيه المدرسة كمكان لميادين الأعمال الممتعة التي تمكّن الطالب من ممارسة الإنتاج منفردا بمشاريعه أو متعاونا مع زملائه، وكمسرح يمارسون فيه عرض ما ينتجون على جمهور أولياء الأمور والمعلمين. ويفتح الباب لتغييرات مستقبلية اجتماعية كبيرة واسعة التأثير.
إن المدرسة التفاعلية التي نقصدها مدرسة تنظر إلى أعمال التلميذ المدرسية والمنزلية على أنها مهارات نظرية وقدرات عملية معا بلا حواجز تفصل بينهما أو تؤخر واحدة عن الأخرى؛ فهو مسؤول عن قراءة وفهم درسه نظريا، وعن إجادة أداء ما ورد فيه من خبرات عملية مما يرسخ في عقيدته أن العملية التعليمية فكرة وكتاب ودفتر ، كما أنها أيضا مختبر وورشة عمل ومزرعة، مما يلقي في روعه أنه لا حواجز ولا مسافات بين الومضات الذهنية المصاغة في صفحات الدرس وبين محاولة تنفيذها إلا أن يستجمع عزمه على التنفيذ، ولذلك يدرك ما للكلمات من قوة حين يعيش أجواء تنفيذ الأفكار والخبرات. وحين يتدرب على تقييم كل واحدة منهما بامتحانها بالأخرى؛ أي بتقديم النظري إلى مواقع الاختبار العملي التطبيقي، وبمراجعة مدى مناسبة عمليات وطرق التنفيذ لأصولها النظرية. ويتعلم أن نجاح تنفيذ أية فكرة موضع الدراسة مرهون أيضا معايير تنفيذية كالاقتصاد والتقدير في التكلفة، والتقليل قدر الإمكان من الهدر الذي سيصاحب تنفيذها؛ وهو ما لن يستوعبه إلا في المعامل والورش والمختبرات وحقول وميادين العمل الحقيقية أو المحاكية للحقيقة إن تعذر نقل تلك الميادين الحقيقية إلى المدرسة. وحين يتربى التلميذ على أن يجمع بين الفكرة ومحاولات تنفيذها، بين المشكلة ومحاولات حلها، بين اللفظة ودلالتها؛ بين النظرية واجتهادات تطبيقها، نكون قد جنبناه نمو الجدر الصماء التي تحول بين تلاقي طرفي هذه الثنائيات. تلك الجدر التي تزداد في ظل التعليم التقليدي الورقي ارتفاعا وسماكة بمرور الأيام فتجعل الطالب إذا انتهى من دراسته الثانوية ووصل إلى الدراسة الجامعية يفاجئ أنه قد فاته التجريب خلال كل هذه السنوات المدرسية، وإذا ما تخرج إلى سوق العمل فوجئ أن عليه أن يعوض ما فاته من أبجديات التطبيق العملي، وأن المسافة كبيرة بينه وبين التوافق مع متطلباته المهنية خاصة إن قُدّر له أن يعمل في مواقع عمل في شركات عالمية.
تستطيع المدرسة أن تقدم أنشطة وأوقات التعلم والمختبرات والمعامل والبساتين والحظائر والمزارع والورش التطبيقية ضمن محتويات المنهج المقرر خادمة له ومتوافقة معه، فحين يدرس التلميذ موضوعا في حصص الأحياء أو التعبير أو الرسم عن الزهور يذهب إلى حديقة المدرسة ويجلس بين الزهور. فإذا تحدث أو كتب عنها فعن معاينة كاملة وعن فحص عملي، و حين يدرس عن الطيور أو النحل يجد في حظيرة المدرسة طيورا ونحلا فيدرس عن قرب ومتابعة متواصلة وتدوين ملاحظات على مدار الفترة المطلوبة، وتكون هذه المزارع، أو النماذج المصغرة منها، عونا لمدرسي الزراعة والأحياء على التوضيح العملي لموضوعات دروسهم. وهكذا ينحو المنحى التطبيقي التجريبي مع كل مادة خاصةً المواد العملية كالتدبير المنزلي ( للبنات) والتربية: الفنية و الموسيقية والرياضية، وحصص الحاسب الآلي سواء ما يتعلق بـ “السوفتوير” وتطبيقاته المستحدثة أو “الهارد ويير” بما يجِد في مجاله من زيادات في درجات دقة وحساسية الأجزاء المكونة له، حتى في حصص اللغات، والتربية الإسلامية والرياضيات يتحرى المعلم أن يستعين بالمختبرات وبالعمليات التطبيقية التنفيذية كلما سمح موضوع الدراسة، مما يتيح فرصا كبيرة لكل تلميذ أن يندمج مع أنشطة الحصة، وخاصة، أولئك التلاميذ الذين يبرعون في الأداءات اليدوية ويميلون أكثر إلى التعلم بالطرق الحسية والحركية عن غيرها من طرق التعلم السمعية والنقاشية.
لاشك أن هذه الجاهزية تحتاج إلى الاستعانة بمتخصصين وتحتاج إلى زيادة ميزانية النفقات المدرسية، ومثل هذه المشكلات ترصد للبحث عن حلول؛ فمن الممكن أن يفتح باب التطوع المجاني لمن هم بسن المعاش من أولياء الأمور المتخصصين فيما تحتاج إليه المدارس من خبرات ليقدموها لتلاميذ منطقتهم، كما يمكن أن يناقش بند الميزانيات وكيفيات تدبيرها. أما أن يُحتج بأن هذا توجه بالتعليم إلى اتجاه مادي، أو توقع فوضوية في التنفيذ، أو تشتيت العمل المدرسي وتوريطه في أعمال إضافية وإجهاد الهيئة التدريسية وإداراتها في جهود يرونها ليست بذات أهمية للعملية التعليمية، وبأنه توجه يرهق المعلم والطالب بالكثير من الأعمال، فإن سؤالا هنا ينبغي توجيهه إلى أصحاب هذا الاحتجاج: ألا تبرر فوائد هذا التوجه وثماره التي سبق عرضها إنفاق تلك النفقات، وبذل هاتيك الجهود؟ وسؤال آخر: ألا يعاني تلاميذنا الآن من الملل؟ ونشكو نحن من عزوفهم؟ إننا بحاجة إلى تطوير الأداء المدرسي تطويرا يرضي طموح رجال التعليم وأولياء الأمور ويرضي المجتمع، وبحاجة إلى بناء كفايات خريجي مدارسنا وجامعاتنا بناء يؤهلهم لخوض غمار المستقبل بنجاح وكفاءة.
إن علينا أن ننتبه إلى أن محصلات التعليم النظري الورقي لا توجد إلا في عقول المعلمين والتلاميذ أي لا وجود لها في الواقع اليومي المدرسي بكل ما تعنيه هذه الكلمة من غياب التحقق من مدى استيعاب التلميذ للمواد العملية والفيزيقية على الوجه الصحيح، وبهذا فمن الوارد أن لا يتعرف عليها أو يلتفت إلى تطبيقاتها في الواقع المعاش خارج أسوار المدرسة. ومن هنا كانت المعاناة وكانت الشكوى التي خلاصتها أن طرق التقديم والعرض في هذا النوع من التعليم تستعين بالإجبار والإلزام والتعنيف واللوم من جانب المدرسة وولي الأمر، وتُقابل بالتضجر والعزوف والتهرب من قِبل الطالب لأننا نخاطب التلاميذ عما لا يرونه ولم يخبروه، ونلزمهم دراسة ما لا يستخدموه في حياتهم. بينما وِفق المنهج التفاعلي التطبيقي ستتقلص إلى حد كبير أحاديثنا التجريدية والتنظيرية التي تساق معزولة عن الإجراءات التجريبية.
إن تواجد التجمعات الطلابية الكبيرة في المدارس خمسة أيام في الأسبوع على مدار شهور العام الدراسي هو الفرصة الكبيرة لبناء كفاياتهم الدراسية وكفايات التعامل مع حركة الحياة اليومية التي منها يكتسب المتعلم – وسط زملائه – كيف يمكن له أن يتوصل إلى طرق موفقة للتعامل مع المتغيرات الحياتية الذاتية التي تخصه شخصيا والتي تتجدد بتقلبه في مراحل النمو النفسي والبدني والعقلي مع تقدم سنوات عمره، أو التي يلاحظها في الحياة والمجتمع من حوله مع تطور الزمن مما يجعله في المستقبل قادرا على صياغة نظم وكيفيات عامة للتعامل والتفاعل مع الأشخاص والمجتمعات والمشكلات. ونحن بإبعادنا للجوانب التطبيقية العملية عن أجواء المدرسة ظنا منا أننا نرجئ ذلك حتى يحين نضجه العضلي الذي يتناسب مع تَخرّجه لميدان العمل؛ فإننا في الحقيقة نبعده عن الاندماج فيما يشغل حواسه ويملأ عليه فائض وقته -الذي تعود أن يشغله بما لا تفيد معرفته – لولا قنّنّا هذا التدريب بحيث نجعله متدرجا يؤهله على مراحل حتى لا نعطل جاهزيته للتفاعل مع غده بإرغامه على تلك المنهجية الكلامية التي تتجاهل الواقع والحواس وتخاطب العقل خطابا تنظيريا في محتواه، تنظيريا في طرق عرضه، منقوصا إذ لم يتوسل بالمُشاهَد المحسوس والمعاش لذا كان العنت، وكان أن تتحول المواد الدراسية إلى مجرد أوراق لاجتياز الاختبار وليست للتفعيل في الحياة؛ أوراق ينكب التلميذ قبيل الاختبار على تصويرها وتصوير إجاباتها المعدة للحفظ، لتصبح ميراثا تتوارثه دفعات الطلاب سنة بعد سنة حتى تأخذ صفات المنقولات التراثية، فيتداولونها كما هي دون رغبة أو إمكانية في التجريب والتمحيص في عالم الحقيقة.
إن تناقضا كبيرا يترتب على هذا الخطاب المنقوص يجعل الطالب يقع في حيرة وحرج بين اثنتين: أن يناقش ويحدد المشكلات ويضع لها الحلول، ويجرب مدى نجاح تطبيق ما يدرس من افتراضات على الواقع الفعلي. أو أن يكتفي بهذا الخطاب المنقوص الذي يراه أفضل وأسهل الطرق إلى النجاح الدراسي الشكلي وأقلها تكلفة.
وإذا كنا نهدف إلى تمكين أجيال الغد من القدرة على تغيير الواقع الذي يتسلمونه منا ليصبح مناسبا لعالمهم المستقبلي فكيف ننتظر منهم قدرة على هذا التغيير إن لم يكونوا على اطلاع واع بتفاصيل هذا الواقع وخريطة تكويناته الفلسفية الفكرية، وعلى نتائج جهودها في التطبيق العملي على الأرض ؟ كيف نتوقع منهم أن يضعوا خططا وخرائط لتغيير هذا الواقع إن لم ندربهم على ذلك بطرق مدروسة؟ إن طريق التغيير إلى الأفضل يحتم أن يتعرفوا إيجابيات واقعهم ليضعوها موضع الرعاية والعناية والمتابعة، وأن يتعلموا رصد سلبياته ليحاولوا التخلص منها ويرسموا الخطط لهذا التخلص التدريجي بأفضل الطرق. ويحتم أيضا معرفة بالعيوب والأمراض الاجتماعية والأخلاقية ليستنهضوا الهمم لعلاج آثارها والتخلص من مسبباتها. وهل يستطيعون كل ذلك إن لم يدرجوا منذ الصغر في معترك الحياة بشقيها النظري والعملي؟
إن إتاحة الفرصة لهم لخوض غمار الحياة بطرق مدروسة متدرجة تراعي فئاتهم العمرية كما تراعي في نفس الوقت الكفايات العامة التي نستهدف بناءها فيهم قبل تخرجهم ؛ والحرص على أن نفتح أعينهم على ما يناسب سنهم ومدركاتهم وطاقاتهم من هذا الغمار، يضمن لهم تدريبا عمليا ميدانيا منظما. إن المخلوقات في عالم الأحياء لا تعزل صغارها عن خضم الحياة الطبيعية كي تجنبهم مخاطرها بل تضعهم فيه وتتعهدهم بالرعاية والتدريب؛ فالحوت لا ينفي وليده إلى جزيرة هادئة حصينة ليجنبه مخاطر الأمواج وأهوال النوّات لكنه يلازمه ويرعاه في غمار البحر وليس خارجه. إن علينا ألا نتركهم ساذجين غافلين عن التنفيذ والتطبيق والتجريب والابتكار في المجالات العملية الإنتاجية، فيكونوا ضحايا سهلة لعواصف البر قبل عواصف الإبحار.
إن في حركة الناس في المجتمع من فعاليات اليوم والليلة؛ كحركة البيع والشراء في الأسواق، وفي مواقع التسوق، وفي تسيير حركة الحياة في المطارات والموانئ، وتأمينها بالمراقبة الإلكترونية، وفي طرق ضبط تنقلات الناس في محطات القطارات والحافلات، وفي تعاملهم مع أموالهم في المصارف أو في التطبيقات المصرفية عبر الشبكة العنكبوتية، وفي قنوات وتطبيقات التواصل والمتابعة المعلوماتية في مهنة كل منهم. وفي طرق تعاملهم مع مصادر المعلومات؛ وفي استخراج المستندات الرسمية إلكترونيا، و في تبادل الرسائل على مواقع التواصل، وفي كتابة تقارير نوبات العمل اليومي، واعتماد مطابقة تقارير تسليم المشاريع. في كل هذا وفيما ذكر قبله من أنشطة عملية بعض نماذج وأمثلة ما يمكن أن يتعلمه كل تلميذ بحيث يُقدم له جانبٌ من كل موضوع في حينه الذي يناسب طبيعة فترة نموه دون تعجل وتبكير أو إرجاء وتأخير مع الأخذ في الاعتبار دائما تنمية قدرات الأبناء على البحث والتعلم الذاتي والنقد والاستنتاج والتأمل ليحوزوا القدرة على امتلاك أدوات التعامل مع المتغيرات والطوارئ، وليتمكنوا من استشراف بعض ملامح الطريق إلى المستقبل لنجنبهم الجمود الفكري والاستلاب العقلي وما يحبب لهم النجاح الرخيص ويهوي بهم في السفوح.
إننا نعيش في عصر لم يعد العلم فيه حكرا على الكتاب والمعلم والمدرسة وأماكن الدرس وحدها، وقد كثرت مصادر المعرفة وأتيحت على نطاق واسع، وأصبحنا نجد في الشخص الواحد إمكانات تجمع بين صفات العالِم المفكر والحرفي المنفذ، وابتكرت التطبيقات الإلكترونية التي تنقل مشاهد فيديو مصورة تعلم الناس صيانة الأجهزة المنزلية والسيارة الخاصة، وطرق مبدعة في زراعة الزهور والعناية بها وصيد الأسماك، وتنظيف المفروشات والبسط المنزلية، وتدخل بك المصانع لتريك كيفية صهر وسبك المعادن في الأفران العالية الحرارة، وتذهب بك إلى جزر القبائل البدائية فتتابع دراسة أحوالهم الصحية والثقافية والاجتماعية، وتنزل إلى أعماق المحيطات !!.. وتسافر معك من مكان إلى مكان، كما توجد الكتب والموسوعات والمواقع الإلكترونية مما وسّع من شريحة المهتمين بالثقافة والعلوم والفنون المهنية وزاد من أعداد المقبلين عليها، يقول “جون ديوي” – قبل ما يقرب من سبعين عاما عن مظاهر التغيير في مجال تحصيل المعارف والمهارات (.. فالمعرفة لم تعد مكابدة جامدة غير قابلة للنقل، لأنها قد أذيبت وأخذت تنتقل بحيوية في كل تيارات المجتمع، ومن السهل أن ترى أن هذه الثورة – بالنظر إلى مواد المعرفة – قد أخذت تحمل معها تغيرا ملحوظا في اتجاه الفرد. فالمنبهات الفكرية أخذت تصب فينا من كل اتجاه… ) ([8]) لذا فالسير في طريق التعليم الذي يكتفي بالتنظير والأوراق سير في عكس الاتجاه .. إن ثقافتنا ترى أن العلم للحياة، ولذك وجب علينا أن تساير مدارسنا هذه التطورات الحياتية الواقعية الآخذة في التطور بلا توقف حتى لا نعزل تلاميذنا عن الطريق الصحيح.
ومما يثبت حرج موقف مدارسنا اليوم من غياب التطبيق العملي الفعال نظرة الإدارة والهيئة التدريسية لحصص التربية الفنية والزراعية والموسيقية إذ من الشائع أنها تعامل على أنها حصص لمواد إضافية ، غير أساسية، فتراهم يتجرؤون على زحزحتها من وقتها، والاستئذان من معلمها لشغلها بمعلم مادة أخرى يريد أن يعوض تأخيره في عرض دروس المنهج ليتمكن من تغطية منهجه. كما وكثيرا ما يشغلون مدرسي هذه المواد عن حصصهم بأعمال إدارية و إشرافية. كما يشيع توزيع حصصها لمن يريد أن يأخذها بلا اتفاق على تعويضها مما يزهّد فيها التلميذ والمدرس وولي الأمر، مع أن الواقع يشهد أن عدد طلاب المرحلة الثانوية الذين يتجهون إلى التعليم التطبيقي: الزراعي والصناعي والتجاري ومعاهد التمريض أضعاف الذين يتوجهون للدراسة النظرية في الثانوية العامة.. أي أن الناس يتجهون اتجاهات مهنية تطبيقية متوافقين مع أسواق العمل.
وأخيرا؛ إن بعد مدارسنا عن الإجراءات العملية جعل خريج المرحلة الثانوية لا يتمكن من إجراء إسعاف أولي إن أصيب زميله، أو إنقاذ غريق، أو إجراء صيانة لدراجته الهوائية، أو صيانة أهم أعطال الدراجة النارية والسيارة، أو التعامل مع حسابه في البنك مع الموظف أو عبر شبكة الإنترنت وقد بلغ أعتاب الجامعة، والأهم من ذلك كله أن إجراء عمليا في غاية الأهمية يخص السلامة الجماعية للتلاميذ كالإخلاء المدرسي الاضطراري وقت الحرائق والزلازل يصعب بل ربما يستحيل القيام به دون عنت وفوضى ومخاطر في ظل هذه الأجواء التي تتجاهل التطبيق والتدريب لأنها تستكثر أعمال ووقت تدريب التلاميذ مرة أو مرتين سنويا على هذا الإجراء الروتيني. وتكون النتائج وقت المخاطر الحقيقية كما تعلمون.
المراجع:
[1] – للاطلاع على بعض تفاصيل هذا الموضوع ( الإنسان المعرفة الإنسانية في الفلسفة المثالية ) يرجى الاطلاع على: ” اليماني، عبد الكريم علي” ، فلسفة التربية ، عمان ، الأردن ، دار الشروق. 2004 ص 63 وما بعدها . و ” العمايرة، محمد حسن” أصول التربية التاريخية والاجتماعية والنفسية والفلسفية عمان ، الأردن ، دار المسيرة، 1999م ص 216.والشهري، مريم محمد الفلسفة المثالية وتطبيقاتها التربوية، موقع : تعليم جديد : new-educ.com/author/mariamedtech
[2] – انظر بتفصيل أكثر: القحطاني، نورة بنت سعد،” الأصول الفلسفية وتطبيقاتها التربوية”، العبيكان للنشر، 1438هـ، ص 172)
[3] – علي ، سعيد إسماعيل ، ” فلسفات تربوية معاصرة ” ، سلسلة عالم المعرفة: العدد 198 ، 1995، الكويت، ص 53.
[4] -انظر إلى ما يدل على ذلك حتى داخل الاتجاه الفلسفي الواحد ، المرجع السابق ص 59 – 60.
[5] – انظر تفصيل هذا الموضوع في المرجع السابق ، ص 141 وما بعدها.
[6] – المرجع السابق ص 226 .
[7] – انظر ” مقدمات في مفهوم التربية ” ، محمد بنعمر ونوال أفقير https://www.new-educ.com
[8] – ” جون ديوي ” المدرسة والمجتمع ” ترجمة : أحمد حسن الرحيم ، مكتبة الحياة ، بيروت ط2 1978، ص47
بوركت جهودك استاذنا الغالي
اللهم آمين.. بارك الله فيكم.
الأستاذ / محمد طه بصل المحترم
بعد التحية، مقال رائع ينم عن خبرة عميقة ونظره ثاقبة لمربي وظف ايجابيات الفكر التربوي الغربي ليكون مدخل لتتطوير النظام التعليمي العربي. جهد مقدر
بارك الله فيكم أخي الكريم الأستاذ أبو عبد الله.. شكرا جزيلا على القراءة، وعلى التعقيب.
جزاكم الله خيراً أ محمد ونفع الله بكم
مقال يا حبذا لو وصل لمسؤولي التربية الحريصين على النهوض بالتعليم ، فلو طبق ما ورد فيه لانصلح حال التعليم في بلادنا
بالتوفيق دائما ان شاء الله
وفقكم الله ، وبارك فيكم.شكرا على القراءة، وعلى التعقيب.
اللهم آمين.. بارك الله فيكم. شكرا جزيلا على التكرم بالقراءة ، وعلى التعقيب.
** المدرسة ونبض الحياة **
نعم.. المدرسة ونبض الحياة التطبيقية الواقعية
ما شاء الله