لا شك في أن النظام التعليمي من خلال منظومته القيمية، يرتبط ارتباطا قويا بالنظام السياسي و الطبقة الحاكمة و ينعكس ذلك أساسا على المناهج والمقررات و بالتالي على مخرجات العملية التعليمية ككل. و هنا يبرز مفهوم المنهج الخفي Hidden Curriculum الذي يعلم كل المتدخلين في العملية التربوية وجوده وأهميته بالنسبة لاستقرار الأوضاع السياسية و الاجتماعية رغم الجدل حول شرعية هذه الأوضاع أصلا.
و في هذا الصدد، يرى بيير بورديو Pierre Bourdieu أن النظام التعليمي أو التربوي يهدف إلى إنتاج أو إعادة إنتاج مظاهر الهيمنة الطبقية الموجودة، بشكل يبرز معه نوع حقيقي وخفي من المناهج، والذي تؤدي المدرسة من خلاله وظيفة المحافظة على الأوضاع الراهنة. و نتيجة لذلك، فالمدرسة لاتؤدي إلا نوعا من التطبيع الثقافي arbitraire culturel، مامن شأنه تكريس و ترسيخ ثقافة الطبقة الحاكمة دون أن تأخذ بعين الاعتبار أنها ليست سوى واحدا من خيارات ثقافية ممكنة في المجتمع.
ويُعَرَّفُ المنهج الخفي على أنه نسق متكامل من العناصر و المكونات و الوظائف المترابطة التي تؤدي إلى تحقيق أهداف تربوية مُضمَرة، حيث يميز التربويون في هذا الصدد بين نوعين من الأهداف التربوية العامة في السياسات التعليمية:
- أهداف رسمية معلنة: وتتمثل في إعداد الإنسان المتعلم و المواطن الصالح المدافع عن الوطن وغير ذلك…
- أهداف خفية مضْمَرة: وتتجلى في الهيمنة الإديولوجية وغرس الانضباط والطاعة في نفوس المتعلمين وغير ذلك…
ومن هذا المنطلق يمكن تلخيص الوسائل المساهمة في ترسيخ معالم المنهج الخفي في النقاط التالية:
- تمجيد رموز السلطة في بعض المواد الدراسية و اعتبارها من المقدسات.
- التأكيد على ضرورة طاعة ولي الأمر أو الحاكم والتبرير لذلك عقائديا.
- توظيف الرموز في تمجيد سلطة الحاكم من خلال الصور أو الاستشهادات أو الخطب المدرسية…
- فرض و ترسيخ نمط علاقة الخضوع الهرمي بين الإدارة و المعلم و المتعلم.
- توظيف ترسانة من القوانين والإجراءات الإدارية بهدف وأد كل قيم النقد و الاعتراض و الثورة.
- اعتماد طرق تدريس و بيداغوجيات تساهم في طمس التفكير النقدي و الإبداع الفكري.
- تجاهل الثقافة المحلية و اعتماد أخرى أجنبية خصوصا في مناهج المدارس الخاصة.
- اعتماد لغات تدريس على أساس إديولوجي أو بناء على التبعية الاقتصادية المهَيمِنة.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول أن ما يتعلمه التلاميذ في المدرسة، ربما لا يرتبط حتما بمحتويات المقررات الدراسية (المنهج المعلن)، بل يرتبط بعملية ترويضهم على قيم و معايير محددة سلفا مع استهلاك متكرر لكل الإديولوجيات و القيم السائدة في المجتمع ( المنهج الخفي ). وهنا يتجلى دور المدرسة الخفي والذي يكرس مبدأ اللاتكافؤ بين الطلاب بما يغرسه فيهم من قيم الخضوع و إضعاف روح الإبداع و المبادرة وكل ذلك في إطار دوامة لا تنتهي من إعادة إنتاج نفس الواقع… بما يخدم الطبقة الحاكمة.
ويلعب التجانس بين ثقافة الوسط الذي ينتمي إليه المتعلمون وثقافة المؤسسة التعليمية دورا مصيريا في تحديد مستوى نجاحهم وتفوقهم في الدراسة، فاتساع الهوة بين الثقافة المرجعية الأسرية و الثقافة التي تكرسها المدرسة من شأنه أن يشكل عامل إخفاق مهم بالنسبة لأطفال الطبقات الفقيرة، أو في بعض الأحيان تلك التي تتميز بخصوصيات لغوية أو عرقية أو دينية…
أما المعلم و بحكم انتمائه للمنظومة التعليمية في شقها التنفيذي، فهو منذ قبوله مهمة التدريس وهو يعرف أنه مقيد بمجموعة من التوجيهات الرسمية تشكلها القوانين والمناهج و المذكرات الوزارية وغيرها.. لكن في نفس الوقت، قد تمثل خلفيات المعلم الأيديولوجية تلك النقطة الفارقة بين ما يراد تمريره لعقل الطالب و ما سيُمَرَّر بالفعل، رغم كل التداخلات التي تصاحب تشكل شخصية المتعلم بأبعادها المختلفة والعوامل المختلفة المؤثرة على ذلك، علما أن تدخل المعلم هذا قد يكون محايدا أو إيجابيا أو حتى سلبيا، دائما أو محدودا..
فكيف يمكن للمعلم إذن أن يزوغ عن المبادئ الأساسية للمنهاج؟ أو بعبارة أدق، كيف يمكنه الالتفاف على أهداف المنهج الخفي ؟ وماهي المقررات المعنية أكثر بتدخل الخلفية الأيديولوجية للمعلم في العملية التعليمية؟
على مستوى أجرأة الأهداف العامة للمنهاج التربوي، فإن المدرس وبغض النظر عن التزامه من عدمه بالتوجيهات الرسمية وماقد يسببه ذلك من مشاكل مع الإدارة التربوية أو المفتش أو حتى أولياء الأمور… قد يكون له دور جوهري في الحد من تجليات المنهج الخفي على المتعلمين وذلك على مستويات متعددة:
1- المستوى المعرفي: قد تتناقض بعض المفاهيم و المعلومات المقدمة للمتعلم عبر المقررات الدراسية مع ما يؤمن به المدرس، خصوصا ما يتعلق بمادة التاريخ (الاجتماعيات) والتربية الدينية وبعض الدروس الخاصة بالطبيعيات وغير ذلك… و بغض النظر عن صحة الرواية بين المنهج الخفي و المعلم فإن هذا الأخير قد يلجأ إلى تكذيبها أو تصحيحها أو فقط تنبيه المتعلمين إلى وجوب استخدام التفكير النقدي حيال ما يُقَدَّم لهم من معلومات و معارف.
2- المستوى البيداغوجي: التوجيهات الرسمية في بعض الأنظمة التعليمية تتبنى طرق تدريس تقليدية من شأنها إقصاء التفكير الإبداعي و النقدي وروح المبادرة لدى المتعلمين، و يتجلى ذلك مثلا في أنظمة التقويم المعتمدة وغيرها… وهنا يلعب المعلم دورا قد يكون إيجابيا إذا ما انفتح على الطرق الحديثة في التدريس، والتي تُعنى بالفروق الفردية والذكاءات المتعددة… و أَخَذ بعين الاعتبار أن الامتحانات في شكلها الحالي، لاتساهم إلا في تكريس اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية بالتركيز على الكفاءة العقلية والمواهب الفطرية، وإهمال ظروف الطفل بأبعادها المختلفة.
3- المستوى اللغوي: جرت العادة وبناء على التوجيهات الرسمية، أن يتم استخدام لغة معينة في تدريس مواد علمية مثلا، وهذا وحده كاف بخلق نوع من عدم تكافؤ الفرص بين أبناء البلد الواحد والناطقين بلغات مختلفة… إضافة إلى أن الطبقات الميسورة غالبا ما تملك أفضلية ظاهرة عندما تكون لغة التدريس لغة أجنبية. هذا الإشكال قد يتجاوزه المدرس عند استخدامه لغة يفهمها جميع أفراد الفصل أو على الأقل أغلبهم.
في الأخير نشير إلى أنه رغم اختلاف التوجهات الأيديولوجية للنظام السياسي في الدول العربية على مستوى الأهداف العامة والتخطيط الاستراتيجي، إلا أنها تواجه التحديات ذاتها على مستوى التنفيذ و الأجرأة. والإشكال هنا يتجسد في الهوة التي مافتئت تتسع بين ايديولوجية النظام معلنة كانت أو خفية و بين أيديولوجية المعنيين بتنفيذ سياسة هذا النظام على مستوى الفصل الدراسي، خصوصا مع بروز بعض الصراعات السياسية و الطائفية و العرقية… هنا و هناك.
مراجع:
– “الأداء الأيديولوجي للمدرسة في منظور بيير بورديو: العنف الرمزي بوصفه ممارسة طبقية في المدرسة” الدكتور علي أسعد وطفة 2013.
– محاضرة علمية بعنوان “المنهج المستتر ودوره في تعزيز العملية التعليمية” أ. د. إبراهيم بن محمود حسين فلاته 1428/ 1429هـ .
هذا عمل رائع بارك الله في القائمين عليه
ولسعادتكم جزيل الشكر على ما تسهمون به ي سبيل خدمة العملية التعليمية نظريا وعمليا
مجهود مميزورايع
الأستاذ الفاضل نجيب زوحي – أتابع ما تنشر في هذا الموقع
الرائد المُجدي – والذي أوصيتُ جميع معارفي بمتابعته – وأقدّم
لكم جزيل الشكر والامتنان لما تنشرون من مواد تهمّ جمهور المعلّمين
والمربّين، وتسهم في تغيير الأوضاع السائدة للأفضل.
بخصوص مقالتك حول المنهج الخفيّ أو المستتر بودّي أن أضيف:
لا يقتصر المنهج الخفي على الجانب السياسيّ العقائديّ كما ذكرتَ،
بل قد يشمل جوانب أخرى، فهناك أكثر من تعريف للمنهج الخفي/المستتر:
مثل: ” هو تلك الخبرات غير المخطّطة وغير المقصودة التي يتعرّض الأبناء
ويمرّون بها دون استعداد، فيتعلّمون أشياء ويصلون إلى نواتج تعليميّة لا
تتضمنّها الأهداف العامّة للمنهج..” ( كتاب: مناهج التعليم بين الواقع
والمستقبل – أ. د أحمد حسين اللقاني، و – أ. د. فارعة حسن محمّد،
القاهرة، ط. 1 ، 2001 – ص: 151)
وهناك تعريف آخر للمنهج الخفيّ: “هو كلّ ما يكتسبُه المتعلّمُ خارج المنهج
ونتيجة معايشته الحياة … أو هو كلّ ما يكتسبه المتعلّم من المعارف والمعلومات
والخبرات والاتجاهات والقيم والمهارات بطريقة غير مقصودة من خلال التعلّم
بالقدوة والملاحظة من زملائه ومعلّميه والمجتمع الذي يعيش فيه …” (كتاب:
المنهج بين النظرية والتطبيق – د. راتب قاسم عاشور وعبد الرحيم عوض أبو الهيجاء.
عمّان/ ط. 1 . 2004 ص: 231)
يستدلّ من الاقتباسات أنّ المنهج الخفيّ يعتبر واقعًا ملموسًا في جميع النظم التعليميّة
ويشمل جوانب عديدة لا تقتصر على الجانب السياسيّ المتعلّق بالسلطة والنظام الحاكم فقط!
فعلا دكتور أبو فنة، ملاحظتكم في محلها… وموضوع المنهج الخفي أو المستتر يشمل جوانب كثيرة. لقد ركزت أساسا على الجانب الإديولوجي من هذا المفهوم وعلاقته بالمعلم. وهذا كان هدفي الأساس. لكنكم نبهتموني إلى قضية مهمة وهي وجوب التطرق إلى الجوانب الأخرى في مقال قادم إن شاء الله. تحياتي الحارة إليكم دكتور.