للاختبارات مكانة مرموقة عتيدة في أي نظام تعليمي وينبع ذلك من أهميتها العظمى كوسيلة أساسية في تقييم (تحديد مستوى) أو تقويم (تحديد مستوى ووضع خطط علاجية) المتعلمين، وفي كل الأحوال تبقى الاختبارات محطة هامة “لتصنيف” المتعلمين إلى فئات حسب ما حصدوه من درجات.
تعاظم دور الاختبارات جعل كثيرا من أنظمتنا التعليمية –ومنذ اليوم الأول للدراسة – تتمحور حول الاختبار نفسه، فهدفها الواضح هو إعداد المتعلم لحياة الاختبارات أي للإجابة على الاختبار وما يرتبط بتدريبه على الحصول على أعلى درجة ممكنة في الاختبار، ثم تنقطع صلة المتعلم بالمادة التعليمية.
على الجانب الآخر تتجاهل تلك الأنظمة أن تعد المتعلم لاختبارات أهم وأشمل وأدوم وأكثر صعوبة وهي ما يقابله المتعلم لاحقاً في حياته من مواقف تستدعي أن يستعين فيها بما درسه في المدرسة، وهي اختبارات الحياة[1] نفسها !
وفي هذا المقال المختصر سنتعرض لمخاطر الاعتماد على حياة الاختبارات، ومحاولة طرح حلول لزيادة أسهم الاهتمام باختبارات الحياة.
سأقسم الحديث إلى جزأين متكاملين:
1-المعرفة: ( ممارسة اللغة – العلوم الممتعة – التطبيق العملي )
2- القيم: ( الدين السليم – المواطنة الواعية)
أولا: المعرفة
1-(ممارسة اللغات ) لو رأيت He ، ضع S
من أكثر أسباب ضعف مستوى أبنائنا الطلاب في تعلم اللغات، أن الإعداد للاختبار يركز على تلقين الطالب لقواعد اللغة بعد تحويلها إلى جداول تشبه القوانين الرياضية كالجدول التالي :
مثل لو رأيت في الجملة He ضع للفعل الذي يليها S ) ولو رأيت yesterday ألصق للفعل ed
- في حياة الاختبارات ستنجح بالتأكيد وبدرجات مرتفعة.
- في اختبارات الحياة ستتلعثم في الكلام، لأنك ستستغرق وقتاً طويلا حتى تجمع في ذهنك كل قواعد اللغة (التي حفظتها) لتخرج بجملة صحيحة.
لا ننكر أهمية القواعد كأساس لتعلم اللغة، ولكن الهدف من اللغة هو التحدث وليس حفظ القاعدة، بل على العكس نحن في أحاديثنا اليومية – وحتى في هذا المقال مثلاً – ستجد الكثير من الأخطاء النحوية والإملائية التي لم تمنعك عن فهم المضمون.
الحلول:
- زيادة اهتمام مناهج اللغات بعناصر: الاستماع والتحدث.
- وضع معايير لاختبار قدرة المتعلم على التحدث والكتابة الحرة.
- تضمين مناهج اللغات لأقسام للتحدث اليومي بين الطلاب لممارسة اللغة بين المتعلمين.
- تنويع الأنشطة غير الصفية لمواد اللغات.
2-(العلوم الممتعة) لماذا اعتدنا على استخدام القلم الأزرق في الكتابة ؟
كان المعلم في ختام حصة في درس العلوم، قد أسهب في عرض حقائق عن درس أطوال الأمواج الضوئية وألوان الطيف، وأكد على الطلاب أهمية حفظ كل القوانين الموجودة في الكتاب استعداداً للاختبار النهائي.
كان المعلم فخوراً بنفسه وبقدرة طلابه على الحفظ والاسترجاع حين فاجأته بسؤالي:
عندي فزورة لكم: لماذا يا أبطال يشيع استخدام القلم الأزرق في الكتابة ؟؟ لماذا اللون الأزرق بالتحديد ؟ //فزورة ثانية: لماذا أغلب شعارات المحلات العالمية(كوكاكولا بيبسي الماك نوكيا… ) باللونين الأحمر والأزرق؟ //فزورة ثالثة: لماذا إشارات المرور التنبيهية باللون الأحمر ؟؟// الفزورة الأخيرة: لماذا يصحح الأستاذ لكم الواجبات بلون أحمر؟؟
الطلاب لم يعرفوا الإجابة، والأغرب أن المعلم نفسه حاول الإجابة: “لأنها ألوان مريحة للعين” !
الإجابة على السبورة ولكنها كانت غارقة وسط بحر من القوانين المبهمة!
هذا نموذج لعدد ضخم من دروس الفيزياء والعلوم التي درسنا فيها قوانين نيوتن والظواهر الطبيعية وألوان الطيف وغيرها من الدروس الممتعة، ولكنها قدمت لنا بطريقة الحفظ الجاف لطالب متقوقع في مقعده المدرسي ليتصفح الكتاب ويحفظ كما ضخما من المعرفة العلمية بدون ربطها بالحياة وما فيها من تطبيقات مدهشة ممتعة للعلوم والرياضيات والهندسة والجغرافيا ..
الحلول:
- ربط المعرفة العلمية بمواقف الحياة اليومية.
- تعزيز تدريس مبادئ STEM بتفريعاتها المتعددة لربط المعارف المكتسبة من الرياضيات والعلوم والهندسة والتقنية ببعضها
- تنويع الأنشطة غير الصفية لمواد العلوم.
3-(التطبيق العملي): عن الحمار الذي خرب المسجل
عندما تعطل جهاز المسجل، أول من فكرت فيه لمساعدتي لحل المشكلة هما اثنين من زملاء الطفولة يعملان في الهندسة الإلكترونية، وفعلا دعوتهما للبيت وقاما بفك المسجل، وبعد نصف ساعة قالوا أنهم عجزوا عن معرفة سبب العطل، وفي نفس المساء حملت المسجل إلى زميل لنا رابع تعثر في الدراسة في الصف الأول الثانوي فتسرب من المدرسة ليعمل في محل لتصليح الأجهزة الكهربائية، عندما فتح المسجل، قال بأسف: “مين الحمار اللي فك المسجل ده؟؟”
لقد تفوق زميلا الدراسة في اختبارات كلية الهندسة، ولكن اقتصرت خبراتهم على الجانب النظري (حياة الاختبارات) ولم يتلقيا أي خبرة عملية تصقل خبرتهم النظرية في كلية الهندسة الراقية، وبرغم فشل زميلنا الأخير في (حياة الاختبارات) إلا أنه تفوق في (اختبارات الحياة) بسلسلة من التدريبات العملية في نفس المجال بمحل التصليح المتواضع.
الحلول:
- الممارسة العملية التطبيقية للمفاهيم العلمية.
- إعداد برامج تدريب عملي مؤسسي Internship للمتعلمين في مختلف مراحلهم التعليمية.
5-التطرف: هل الحفظ باب للتطرف؟
“حفظت القرآن وعمري عشر سنين.. وبداهة ما كنت أعي منه شيئا.. بل من اللطائف التي أذكرها، أني وأنا أحفظ سورة الإسراء، وأقرأ قوله تعالى: (و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) كنت أفهم مثلا أن هناك شيئا كحمامة أو غراب، يجعل فى عنق الإنسان.. والغريب أن هذه الطريقة فى الحفظ لألفاظ القرآن، صرفتنى عن معان كثيرة كنت أمر بها ولا أعرفها.. وأنا كبير، أقرأ، ولكن لأني حفظت الكلام دون فهم للمعنى أجد نفسي فى كثير من الأحيان أمضي دون فهم للمعنى؟ لأن الحفظ كان يغلب على التدبر أو على إحسان الوعي.. وما بدأت أفكر حتى أكرهت نفسي على أن أعود فأدقق النظر فى كل ما أقرأ، وأحمل نفسي على ترك هذه العادة التى ورثتها مع الحفظ، بل قد يخيل إلي أن بعض الكتاتيب أساءت إلى القرآن من حيث تريد الإحسان، ومن ناحية أنها أخرجت أشرطة مسجلة، ولم تخرج كيانات حية للناس”[2].
ما سبق لم يكن من كلامي، بل ما أورده الشيخ المجدد محمد الغزالي في كتابه الرائع (كيف نتعامل مع القرآن؟).
إن توسعنا كثيرا في النظرة لـ (اختبارات الحياة) سننتقل لواحد من أخطر اختبارات الحياة: اختبار التطرف، اختبار صعب وزاد من صعوبته ما نعاصره من كم متلاطم من المعلومات الإلكترونية تصلنا في ثوان عبر ثورة تقنية سهلت عبر قنواتها المتعددة الترويج للعديد من الأفكار المتطرفة بشكل موسع.
التطرف Extremity (هو الانحراف الديني بكل صوره، سواء كان على صورة التطرف والإرهاب الديني، أو على النقيض: الانحلال الأخلاقي) يوضح أن ثمة خللا في التعليم المدرسي، الذي ركز وبشكل كبير على الحفظ (حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية) بدون التركيز على التدبر أو التطبيق العملي للدين في الحياة.
والسؤال: ماذا أعدت مدارسنا في (مناهج التربية الإسلامية) لطلابنا لتحصينهم في اختبار التطرف؟
إن كان الرسول صلى الله عليه وسلم (خُلقه القرآن)، فهل أعدت مدارسنا أبنائنا المتعلمين ليكونوا كرسولهم الكريم ؟ أم اقتصر دور المدرسة على تجهيز الطلاب لحياة الاختبارات بما فيها من حفظ غير متدبر للقرآن الكريم والأحاديث النبوية والفقه والسيرة والتاريخ الإسلامي بشكل جاف يعتمد على الحفظ ثم الاجترار وقت الاختبار ؟؟.
الحلول:
- إعلاء قيم (التدبر والفهم) الصحيح للدين على حساب الحفظ الجاف.
- ربط المواد الإسلامية بما يواجه المتعلم في الحياة من تحديات.
- نشر أنشطة تطبيقية مجتمعية متربطة بما يتم تدريسه في (التربية الإسلامية) كأن يقوم المتعلم مثلا في إجازته الأسبوعية بالانخراط ضمن أنشطة خدمة المجتمع.
6-المواطنة: ماذا تعني كلمة وطن؟
المواطنة أيضا من أهم اختبارات الحياة، ففي ظل تحديات عالمية فرضت وحتمت على المجتمع الحرص على تعريف كل مواطن بحقوقه وواجباته تجاه وطنه وترسيخ مبادئ حب الوطن والاعتزاز به والمعرفة الواعية بمقدرات الوطن … الخ
فمن حقوق المواطن: حق التعلم – حق التعبير عن الرأي وحق تلقي العلاج .. الخ
ومن واجبات المواطن: ممارسة سلوكيات الانتماء للوطن، تصرفات تظهر الولاء للوطن، الدفاع عن الوطن، والحفاظ على ممتلكات الوطن .. الخ
وقد خلصت العديد من الدراسات والندوات والبرامج في مجتمعنا إلى أهمية ترسيخ مبادئ الوطنية الأساسية مثل: المعرفة، والقيم والميول والاتجاهات الوجدانية، والمهارات، والمشاركة الاجتماعية. [3]
نظرياً يوجد في كل مناهجنا التعليمية -ومنذ عقود- ما يسمى بمادة (التربية الوطنية)، والواقع أنها مادة هامشية غير ذات ثقل حتى في حياة الاختبارات، فما بالك باختبارات الحياة؟
كما أنه من المعروف وجود فارق كبير بين (الوطنية) و (المواطنة)، فمن المسلمات المتفق عليها أن الوطنية شعور والمواطنة ممارسة وسلوك وتصرفات[4]، فما تهدف إليه المواطنة هو إعداد المتعلم لاختبارات الحياة، حيث سيواجه المجتمع الداخلي والخارجي بأسئلة عميقة عن حقوقه وواجباته في وطنه.
والسؤال : هل تحتل (التربية الوطنية) قيمة تعادل أهميتها في منظوماتنا التعليمية، وهل ساهمت في زرع قيم (فعلية) لحب الوطن؟ وتعريف المتعلمين بقيم المواطنة، أم كانت مجرد مادة هامشية هدفها اختبار بسيط، وليس هدفها إعداد المتعلم لاختبار الحياة الصعب؟
الحلول:
- أن يلمس المتعلم آثار المواطنة الحقيقية من داخل مجتمعه مثل أن تحرص المؤسسة التعليمية على تطبيق قيم المواطنة داخلها، فلا يعقل أن نطلب من المتعلم الحرص على قيم المواطنة وهو يشعر بافتقاده لحقوقه في وطنه!
- الخروج بـ(المواطنة) من دائرة الأحاديث والندوات لفضاء التطبيق العملي الرحب، عبر برامج واقعية تنفيذية، تكرس من أجل إكساب المتعلم قيم حب الوطن المختلفة.
- الاهتمام بـترسيخ مبادئ ( المواطنة الرقمية Digital Citizenship ) كأحد أهم الروافد التي تحصن أفراد المجتمع في التعامل مع العالم التقني لتوظيف التقنية في الطرق الصحيحة و وفقا لقواعد وقيم أخلاقية صحيحة، للارتقاء نحو مجتمع واع ومثقف.
[1] العنوان مقتبس من التغريدة : https://www.facebook.com/abdulkaders1/posts/1770196446355634
[2] محمد الغزالي : كيف نتعامل مع القرآن؟ ، ص 33
[3] (الانتماء الوطني في التعليم العام رؤى وتطلعات) ندوة منعقدة في جامعة الإمام محمد بن سعود2009م ، الرابط : http://www.alriyadh.com/418707
[4] http://www.irtikaa.com/learning/1744
مقال اكثر من رائع وفي صميم مشكلة التعليم في الوطن العربي . أ تمنى لك التوفيق استاذ ابراهيم ٠
حياك الله أخي نافذ عليان ، شكراً مرورك الرائع ، اتمنى أن نخرج من حيز التنظير إلى التنفيذ العملي لمبادرات الحلول المقترحة لهذه المشكلة أو حلول أخرى مبتكرة تصب في نفس الهدف
مقال رائع استاذ ابراهيم … أعجبني أنك تقدم الحلول لكل مشكلة تعتقد بوجودها … اتمنى ان تلقى هذه المقالة اذان صاغية لدى صانعي القرار في التعليم
حياك الله صديقي دكتور لؤي ابو احمد
شاكر تعليقك الكريم ويسعدنى التشارك في الشجون التربوية
رائع … هكذا يجب أن يفكر وزراء التعليم ومعدي المناهج والمعلمين ليبدأ التغيير للأفضل….كم هو محزن حال طلابنا أنفس أرهقت وعقول غيبت وطاقات أهدرت وأموال صرفت على لاشيء.
مقال رائع يشف عن عقلية مفكر…وهكذا يجب أن يفكر وزراء التعليم ومعدي المناهج والمعلمين حتى يبدأ التغيير الإيجابي.
كم هو مخزن حال طلابنا أنفس أرهقت..وعقول غيبت ..وطاقات أهدرت ….وأموال صرفت على لاشيء.
كل واحد فينا ( مفكر) فكلنا نتشارك الحياة التعليمية بأدوار مختلفة ( طالب/ معلم / ولي أمر / إداري) ولكن أحد أخطر مشاكلنا هي التنظير المبالغ فيه والذي لا يلمس أرض الواقع ..
شاكر ومقدر
شكرا لك اضافة رائعة في مجال من أهم مجالات الحياة التربوية لابنائنا وبناتنا اليوم …