تواجه الحكومات حول العالم ضغوطاً متزايدة لتخفيف إجراءات العزل التي تنتهجها “لحماية صحة مواطنيها”، بعد أن اتضح الأثر الكارثي لتفشي فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي، حيث أعلن صندوق النقد الدولي بأن الوباء يدفع بالاقتصاد العالمي في اتجاه ركود عميق، مع تراجع الناتج العالمي بنسبة 3%، بينما يمكنه أن يحقق انتعاشاً بنسبة 5.8% في العام 2021 في حال تم احتواء الفيروس، الأمر الذي دفع الدول إلى الاختيار ما بين أن تشهد على انهيار اقتصادها أو التوجه إلى العمل لإنعاش اقتصادها…
والسؤال المطروح هنا هو: هل تُقدم الدول على المجازفة أمام الزحف الكوروني؟ أم لعل تلك الدول لها مخططاتها الخاصة وأجنداتها غير المعلنة؟ أو لعله الخوف مما ينتظرها بعد انتهاء الأزمة؟ ومن يدفع الثمن؟ خاصة مع تزامن إعلان منظمة الصحة العالمية بأنه لن يكون هناك لقاح للمرض قبل شهور من اليوم، وربما حتى الربيع القادم… وهل ستستمر الدول الكبرى وتحديداً اوروبا وأمريكا بإجراءات العزل؟ أم ستذهب باتجاه إنقاذ اقتصادها من الانكماش والتراجع؟
مع وصول أعداد المصابين حول العالم لأكثر من مليوني شخص، 90% منهم في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وأكثر من 122 ألف وفاة، 70% منهم في أوروبا وحدها. فمثلاً إيطاليا أكثر الدول المتضررة في أوروبا بما يزيد عن 22 ألف وفاة نتيجة الإصابة بالفيروس العالمي، ستسمح للمتاجر والمكتبات بأن تفتح أبوابها مع التقيد بإجراءات السلامة والوقاية، ومعها النمسا وبولندا بنفس التوجه، بينما إسبانيا التي انتهجت أقصى درجات العزل الصحي لاحتواء الفيروس، وبعد وفاة أكثر من 20 ألف مواطن سمحت لقطاع الإنشاءات والصناعات التحويلية بالعودة للعمل، في حين لم تسمح للمتاجر والأماكن العامة بأن تفتح أبوابها.
أما الولايات المتحدة الأمريكية والتي تتصدر اللائحة بأكبر عدد وفيات (37ألف إلى حد كتابة هذه السطور)، فقد قررت العودة لنشاطها الاقتصادي في عدد من الولايات منها العاصمة واشنطن، مقابل أن دولاً مثل الباكستان والهند مددت العزل للشهر القادم.
وبالنظر إلى الرغبة في تسيير عجلة الاقتصاد، فإذا أراد الآباء الدهاب للعمل، فأين يذهب الأولاد؟ الجواب البديهي هو المدرسة، إذا فنحن أمام ضرورة افتتاح المؤسسات التعليمية بالتزامن مع دوران عجلة الاقتصاد. فبعد أن أعلنت الحكومات عن بداية انتشار الوباء، تم إغلاق المؤسسات التعليمية في خطوة ذكية ومدروسة للحدّ من انتشار الفيروس العالمي، لأن المدارس بطلابها هي البيئات الأكثر اختلاطاً والتي ينتقل منها الوباء إلى المنازل، حيث وجدنا أكثر من 1.6 مليار طفل بعيداً عن مقاعد الدراسة، في 161 بلدا في العالم، أي ما نسبته 80% من الطلاب حول العالم. واليوم نحن أمام قرارات العودة إلى مقاعد الدراسة، وهو ما قامت به الدنمارك فعلياً بإعلانها افتتاح المدارس، والصين بعد أن بدأت بعض المدارس نشاطها الفعلي، وكذلك فرنسا التي أعلنت العودة لمقاعد الدراسة ودور الحضانة رغم أنها ثالث أكبر دولة أوروبية من حيث عدد الوفيات تعدى 18 ألف وفاة، وما يقارب 100 ألف مصاب.
وأما فنلندا “الأولى على الصف” والمصنفة عالمياً كواحدة من أفضل دول العالم في مجال التعليم، إن لم يكن الأفضل، قامت بالإعلان عن استمرار التعليم ما فوق الابتدائي وللصفوف من الأول حتى الثالث فقط، كذلك للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، ومرحلة الطفولة المبكرة، ولمن يعمل أولياء أمورهم في قطاعات ضرورية لدوران عجلة الاقتصاد، علماً بأن عدد المصابين في فنلندا قد وصل إلى حوالي 1891 مصاب منهم الرئيس السابق والحائز على جائزة نوبل للسلام مارتي اهتيساري.
والسؤال، هل نحن أمام وضع مشابه؟ بقرب العودة لسيرورة الحياة اليومية، بافتتاح المدارس وعودة تدريجية للوظائف المختلفة؟ وإن كانت فنلندا في الوضع العادي توفر لكل 12 طالب في مرحلة رياض الأطفال معلماً وممرضتين (أربع تلاميذ لكل مرافق)، فهل يمكننا أن نوفر للأطفال ذلك العدد من المرافقين في ظل كورونا؟ وإذا كان سيُسمح للطلبة الذهاب لمدارسهم، بأي منطق يمكن منعهم من زيارة الجدة والعمة، واللعب مع الأقران، وكيف لمعلمة الروضة أن تمنع احتكاك 10 طلاب مع بعضهم البعض؟ وإن كان سيسمح للمعلمين تحت جيل (50) بالذهاب لأماكن عملهم فلماذا لا يسمح لهم بالتسوق أو بزيارة الأهل والأصدقاء للتخفيف من ضغط العمل؟ ولعل السيناريو الأسوأ هو: ماذا لو تبين إصابة أحد طلاب المدرسة؟ هل سيتم الحجر على جميع معلمي المدرسة وعائلاتهم، وجميع الطلاب وعائلاتهم وجميع من كان على اتصال مع أي منهم؟ وكيف يمكن الجزم وقتها إلى أين يمكن أن تصل سلسلة التواصل من طالب واحد في مدرسة؟ ويعود السؤال: ماذا سيحل باقتصاد البلد؟ سيعود للتراجع ولكن هذه المرة ربما مع عدد أكبر من الإصابات والمرضى ونقص الأجهزة والمعدات الطبية والأطباء والطواقم العاملة… وربما مع مخاوف أكبر من المواطنين قد تصل لدرجة الهلع….
ويبقى الحوار مفتوحاً بين الاقتصاد والصحة، والرؤية ضبابية في العالم كله، ولكننا نقول أن البشرية مرت بأزمات وكوارث أكثر سوءاً، وأكبر ضرراً، من حروب ومجاعات وأوبئة، وتجاوزتها بالقوة والإرادة والعمل. سنرجع يوماً، ولكن هل يكون الاقتصاد مقابل حياة من نحبهم…؟
مقال ممتع وشيق
أنصت باهتمام بالغ لهذا الحوار الرائع بشوق
وتسألت ماذا بعد رحيل كورونا؟؟؟؟