منذ أن جاءت شبكة الإنترنت واتصل العالم ببعضه من خلال نقرات قليلة، لم نلبث قليلا حتى انقلبت كثير من المفاهيم والتصورات حول طرق التعليم وأساسياتها وليس أولها التعليم الذاتي/الفردي Autonomous learning، ولا أوسطها التعليم الجماعي ذو الأوقات المختلفة، ولا آخرها التعليم الخصوصي الذي أتى بالمعلمين الخصوصيين على اختلاف تخصصاتهم من أصقاع الأرض إلى طاولتك أينما كنت تجلس. إن من المثير حقاً أن نشهد اليوم هذا التسارع العجيب الذي لا نستطيع معه التقاط أنفاسنا ـنحن المهتمون بالتعليم والمناهج- ولا حتى التوقف أحياناً لفهم ما يدور في عالم التقنية ومُخرجاته. وكلما تقدمنا في مواكبة هذا العالم الافتراضي، فُوجئنا بأننا نزحف زحفاً خلف التقنيات الجديدة!
ليس هذا على مستوى العالم العربي وحده برغم تخلفه في هذا الصدد، بل حتى على مستوى دول العالم المتقدم المنتجة لتلك الإبداعات التقنية ومحاولة استثمارها في المجالات المختلفة، ومنها التعليم وتعليم اللغة بشكل أخص. لكن البون يظل شاسعاً غير مطمئن بين من هم خلف تلك التقنيات يكادون يمسكون بذيولها وبين من لا يرون من كل ذلك إلا الغبار في انتظار أن ينقشع لتتضح الرؤية.
ولَدت التقنيات الحديثة وخاصة تلك المتعلقة بوسائل التواصل الاجتماعي جيلاً جديداً من المتعلمين الذين ربما لم يمروا بالقلم والورقة إلا لِماما! وسُمي هذا الجيل في الأدبيات الغربية التقنيون الأصليون Digital Natives في إشارة إلى أن لغتهم الأساسية هي التقنية قبل أي شيء آخر. لقد باتت الكتب الورقية والمكتبات التقليدية (تلك التي تحوي رفوفاً وكتباً مختلفة) شيئاً غير مألوف بالنسبة لهذا الجيل، تماما كما هو الحال بالنسبة لبعض التقنيات غير المألوفة بالنسبة لنا! إن عليهم أن يبحثوا بجهد مضاعف في تضاعيف تلك الكتب، كما نفعل نحن عندما نواجه تقنية جديدة نحاول تطويعها بين أيدينا.
بدأت شبكات التواصل الاجتماعي أول ما بدأت ضعيفة وعلى مستوى تواصل تجريدي. مثلت تلك المرحلة مواقع مثل Second Life حيث كان الناس يتقمصون شخصيات مرسومة ويستطيعون تعديلها والمشاركة في النقاشات والحياة الاجتماعية الافتراضية. إلا أن تلك المرحلة لم تدم طويلا لأسباب ليس هذا محل ذكرها. وتعددت بعدها التطبيقات والنماذج للحياة الافتراضية والشبكات الاجتماعية وصولا إلى عصر يوتيوب وفيسبوك وتويتر وبينترست وإنستجرام، ومؤخراً سنابشات وواتساب. وفيما كان بعض تلك الشبكات عاماً مثل فيسبوك وتويتر وجوجل بلس، فقد كان بعضها متخصصاً في شأن محدد مثل فورسكوير في المطاعم، و ووردبرس وبلوق للنشر الثقافي، وفليكر لهواة التصوير، وترب أدفايزر لهواة السفر … وهكذا.
تلك كانت مقدمة سريعة لما حصل ويحصل في عالم الشبكات الاجتماعية، وإذا كان لنا أن نقترب أكثر من تعليم اللغات باستخدام تلك الشبكات ونبحث مدى إسهامها ونقيس نجاحها، فعلينا أن نُلقي نظرة سريعة أخرى على مساق تعليم اللغة بواسطة التقنية. لقد بدأ ذلك بما يسمى عند دارسي اللغويات بـ CALL وهو تعليم اللغة بواسطة الحاسوب، من خلال توفير حوارات صوتية ومصورة وتدريبات مختلفة لمتعلم اللغة وتحويل التعليم الذاتي من الصورة النمطية ذات الاتجاه الواحد إلى صورة ذات اتجاه ثنائي تفاعلي. ولكن وصول النسخة الثانية من الويب التي حملت سرعات عالية وسمحت لتلك التطبيقات الاجتماعية المتقدمة بالنشوء والتطور، قد غيرت الكثير منذ ذلك الحين على مستوى المحتوى تحديداً.
إن المثير في الأمر هو تراجع السلطة التعليمية في إعداد المحتوى اللغوي وبروز مجتمع مختلف يضم المتخصصين وأنصافهم وغير المتخصصين أيضاً. حيث سمحت تلك الشبكات للأفراد العاديين بإنشاء قنواتهم الخاصة وصفحاتهم ودروسهم التعليمية التي أتاحوها للجميع مجاناً، فتحوّل التعليم اللغوي من النظام المؤسسي المعتاد في المعاهد والمراكز إلى نظام مختلف تتعدد أطرافه، وإن بقي الرسمي منه على وجهه الاعتيادي الذي ما يزال يمنح الشهادات مقابل اجتياز الاختبارات اللغوية.
ومع أن بداية ظهور هذا النوع الجديد من التعليم اللغوي المعتمد على الشبكات الاجتماعية كان بواسطة المدونات الشخصية blogs ومواقع التحرير المتعدد wikis إلا أن أثرها بقي محدوداً حسب الدراسات مقارنة بالتطبيقات والأدوات اللاحقة.
لقد أصبح متعلمو اللغات اليوم أكثر اهتماما بالتعليم السريع من التعلم لدى المراكز الرسمية، بسبب أن مدة الانتباه لدى المتصلين بهذه الشبكات الاجتماعية قد تقلّصت كثيراً. فوق هذا فإن أولئك المتعلمين المتصلين دائماً، لمْ يعد يُغريهم المحتوى الذي يُقدَّم في فصول تعلم اللغة والذي لا يتعاطى مع الوضع التقني الجديد، لأنهم اعتادوا التعامل مع المحتوى المُفعم بالتوضيحات والرسوميات والفيديو أكثر من أي شيء آخر.
وساعدت الأجهزة الذكية من الجوالات والحواسيب اللوحية في دعم هذا الاتجاه بشكل كبير، حيث أن نسبة المتصلين من خلال الأجهزة الجوالة بالإنترنت يتجاوز 80% من نسبة المتصلين بالإنترنت ككل. خصوصا إذا ما عرفنا أنه يسكن مستعمرة فيسبوك ما يقارب مليار ونصف إنسان، فإن علينا أن ندرك أنه لم يعد لدى المتعلم ما يضيعه من وقت في الانتظار من أجل الفروق الفردية أو نقص التجهيزات، فالطالب سريع التعلم لن ينتظر الطالب المتوسط، وهذا بدوره لن ينتظر ليلحق به بطيء التعلم.
هذا الواقع ساهم أيضاً في استحداث ما يمكن أن يُصطلح عليه بالتعلم المتنقل، حيث يمكن لمتعلم اللغة الحصول على التعليم المجاني أو شبه المجاني بينما هو ذاهب أو راجع من عمله أو دراسته. وساهمت تلك التطبيقات بدورها في صناعة المعلم الجاهز في كل وقت، ومجموعات التعلم والأصدقاء الذين يشاركون المتعلم حماسته واهتمامه واستمتاعه باللغة التي يتعلمها.
ورغم محاولة بيئات التعليم الافتراضية -سواء منها تلك التابعة لمؤسسات رسمية مثل Black Board أو تلك التي تستفيد منها في الغالب مؤسسات وأفراد غير رسميين مثل Moodle- رغم محاولتها المشاركة في هذه الاحتفالية بتعليم اللغات، إلا أن أثرها ظل محدوداً في مقابل التأثير الكبير للشبكات الاجتماعية. لقد أصبحت الوسائط الاجتماعية وأدواتها بحسب دراسة علمية قام بها Wang & Vasquez (2012) البيئة المفضلة لدى متعلمي اللغات.
ويعود هذا التفضيل إلى أسباب منطقية تشمل ما يلي:
- الأُلفة: حيث يعرف الطلاب هذه الأدوات في التوصيل الشبكي بالمجتمع العالمي عن قرب ويستطيعون الاندماج فيها بسهولة لغرض تعلم اللغة.
- التِجوال: حيث يمكن لهم التعلم في أي وقت وفي أي مكان، ولا يمنعهم السفر ولا الِانشغال في أوقات الفصول الدراسية مثلاً عن البقاء في دورة تعلم اللغة، لأن ذلك رهن أيديهم.
- المرح: لا يعد متعلمو اللغة أوقاتهم التي يقضونها في تعلم اللغة بواسطة تلك الأدوات والتطبيقات وقتاً مُملاً كما يصفون عادة الأوقات التي يقضونها داخل الفصول الدراسية.
- المصادر اللامنتهية: في المكتبات المدرسية والمناهج التعليمية الخاصة بمراكز تعليم اللغة يجد المتعلم رفوفاً وكتباً ووسائط تعليمية كثيرة أو قليلة لكنها لا تشبه بأي حال سواء من حيث الكم أو من حيث الكيف تلك المصادر الصوتية والمرئية والمكتوبة التي يستطيعون الحصول عليها من خلال نقرات قليلة على جوالاتهم.
- التكلفة شبه المعدومة: فالمتعلمون يحصلون على تعليم متواصل دون قيود الزمان والمكان وبدعم مصادر لا محدودة، وكل هذا بتكلفة لا تكاد تذكر.
نشرت صحيفة الجارديان البريطانية في 10 إبريل 2012 خمس طرق لاستثمار الشبكات الاجتماعية في تعليم اللغة وذكرت إنشاء صفحات متخصصة على فيسبوك وتويتر ويوتيوب وبينترست بالإضافة إلى مدونة خاصة.
واليوم لدينا العديد من النماذج المشرقة في تعليم اللغات في يوتيوب وقنوات تيليجرام وعلى صفحات تويتر وفيسبوك. ففي تعليم العربية على الخصوص، فإن العديد من المؤسسات والأفراد قاموا بمجهودات مشكورة كقناة الجزيرة ومؤسسة العربية للجميع ومركز المدينة التعليمي وArabicPod101 والأكاديمية العربية الافتراضية ومركز البيان وغيرها. وأما الأفراد فلا يمكن رصد عددهم الكبير ولا طبيعتهم الاعتبارية لكون كثير من تلك الحسابات الناشطة في عدد من التطبيقات تحت أسماء وألقاب من نوع تعلم العربية، انطلق للعربية.. وغيرها إلا أنهم فاعلون بشكل كبير. غير أن المتعلم سيجد بلا شك تعلم اللغة العربية مثلاً مع “كارول” أو مع “مها” أو مع “مصطفى” أكثر جاذبية وقرباً من دور المؤسسات في هذا العالم الافتراضي، لأن الأفراد أكثر قدرة وإبداعاً واستمتاعاً في استثمار إمكانات الشبكات الاجتماعية في تعليم اللغة الثانية.
ومع كل تلك النجاحات التي حققتها هذه الشبكات واحتفلت بها نظريات اكتساب اللغة الثانية سواء منها المنطلقة من وظيفية اللغة ودورها الاجتماعي والتفاعلي، أو تلك التي تركز على المقاربة التواصلية لتعليم اللغة، إلا أن القليل من المتعلمين من يواصل تعليمه اللغة الثانية أو غيرها حتى الإتقان لأسباب تعود في الغالب إلى عدم التخصص في تعليم اللغة، حيث تنقص تلك الأدوات، كما يشير ميلر وميلر 2000 إلى ضعف المحتوى المصمم بطريقة علمية مقارنة بالمحتوى المقدم في المناهج وفصول تعليم اللغة. فقد يفتقد المحتوى في هذه التطبيقات إلى أهداف تعليمية محددة وإطار تنظيري يستفيد من تلك الإمكانات الكبيرة التي تتمتع بها تطبيقات الشبكات الاجتماعية. و إزاء ذلك، فإن حجم التشتيت الذهني من خلال الدعايات والتنبيهات والمشاركات والوسوم …إلخ يمثل عقبة في مواصلة التعلم اللغوي حتى بالنسبة لتلك الفترة القصيرة من الانتباه التي تتسم بها تلك الأدوات الافتراضية. ويقودنا هذا إلى ملحوظة أخرى تتعلق بالشكل التقني لتطبيقات الشبكات الاجتماعية، الذي يمحو الكثير من الخصوصية الشخصية والمعلوماتية للمتعلم.
ومن هنا تأتي الحاجة إلى دعم تلك النجاحات -كما تشير الدراسة إلى أجراها تشين لين وزملاؤه 2016ـ من خلال تدخل المتخصصين في وضع أطر نظرية لغوية وتعليمية تواكب هذه الطفرة التقنية، وإعادة تشكيل المحتوى المناسب لمثل هذا الشكل التقني المتقدم، بحيث يحوي نشاطات مختلفة مبنية على هذا الواقع الافتراضي الجديد الذي يجعل الأولوية للمشاركة والاتصال لا من الواقع التقليدي الذي يركز على إكساب المهارات فقط.
أتمنى أن يوظف المتخصصون في تعليم اللغة العربية أى وسائل او تقنيات تساعد ولو بشكل بسيط في تعليم وتعلة العربية التي باتت مظلومة بين أهلها ولا تجد ن يحنو عليها في عصر احيا فيه البعض (قراصنة في منطقتنا العربية) لغات كانت مرشحة للإنقراض فأعادوا لها الحياة مرة أخرى حتى أصبحت من اللغات المستخدمة في مجال النشر العلمي- في حين توجد مؤسسات بحثية رائدة في عالمنا العربي ولا تقبل النشر إلا باللغات الأجنبية.
مع خالص تقديري لصاحب المقال
د. محمد سالم
أستاذ المناهج وطرق تدريس اللغة العربية المشارك
مدير وحدة الجودة والاعتماد – كلية التربية جامعة الأزهر