الفائدة 1
إنه من الواجب على المحاور أن يدرك طبيعة المحاور ونفسيته، فإننا نلاحظ أن موسى- عليه السلام- بدأ أول ما بدأ مع فرعون بإبراز ما يدعيه، وهو ادعائه الربوبية، لذلك خاطبه بقوله: «إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ »[1]. وانظر كيف عبر بصيغة المفرد: “رسول”، عوض: “رسولا” دلالة على وحدة الرسالة وإن تعدد المرسل. فمعرفة شخصية المحاور إذن تساعد على ترتيب أولويات الحوار معه، وتحديد ما ينبغي تقديمه ضمن هذه الأولويات وما ينبغي تأخيره، كما تدل[2] على أليق أسلوب في مخاطبته والتواصل معه.
الفائدة 2
ولنتأمل رد فرعون على موسى- عليه السلام- عندما خاطبه بقوله: «إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ»[3]. «قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ»[4]. فهذا الرد يدل أولا: على أن فرعون تذكر شخصية موسى -عليه السلام- وعرفه، وخصه بالخطاب، وعلى أنه تجاهل الدعوة إلى الله –تعالى- وإلى تحرير بني إسرائيل من الاستعباد، وبإنكار الرسالة الإلهية على يد موسى –عليه السلام-أساسا، من منطلق كونه معروفا عند فرعون ناشئا في قصره وتحت نظره، ولم يكن حينئذ متميزا عمن سواه ممن دونه من الناس، بل أضاف فرعون لإنكاره عليه أن يكون رسولا لرب العالمين، تذكيره إياه بالذنب الذي ارتكبه، وهو قتله لأحد الأقباط، وهو ما وصفه فرعون بالفعلة كناية عن شناعة الفعل. ورتب على هذين السببين أن موسى-عليه السلام-ليس سوى كافر بالنعمة التي أسبغها عليه من مولده إلى شبابه.
وهذا ما يعرف في أدبيات “المناظرة” بـ: الغصب[5]، وهو من الأمور التي لا يجوز للمناظر أن يرتكبها[6].
فإذا أقام السائل الدليل على إبطال الدعوى التي قدمها المعلل، قبل أن يسمح له بإقامة الدليل على صحة دعواه، فهو غاصب لحق خصمه.
وكذلك إذا أقام السائل الدليل على إبطال مقدمة من مقدمات دليل المعلل، قبل أن يسمح له بإقامة الدليل على صحة هذه المقدمة فهو غاصب لحق خصمه، ومقدمات الدليل لا تخرج عن كونها دعاوى قابلة للمنع. وكان رد موسى-عليه السلام-على فرعون لما ذكره بقتل النفس، أن «قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ»[7] وهذا يحيلنا على أدب رفيع من آداب الحوار، وهو الإقرار بالخطـأ من غير مكابرة ولا معاندة، وذلك أن الاعتراف والإقرار بالخطأ لا يجعل لخصمك عليك سبيلا، ثم يوقف الجدل في باب قد يفتح ويستمر، ثم إنك قد تلتمس عفو الناس بعد عفو الله-تعالى-بإقرارك بالخطـأ واعترافك به.
ويتضمن هذا الرد معاني وقيما جليلة في إدارة الحوار، فموسى –عليه السلام-يقر بأنه ارتكب الفعلة التي ذكرها فرعون تلميحا لما يجب أن يتحلى به فرعون نفسه من التنازل، والإقرار بالحق الذي حمله إليه، فالإقرار بالحقيقة فضيلة في حد ذاته.
وهكذا يكون موسى-عليه السلام- قد رد على فرعون في المسائل الثلاث التي اعترض بها. لكن بترتيب مغاير لترتيب فرعون، فأجاب عن الاعتراض الثاني وهو: تذكيره بفعلته. لأهمية هذا الفعل وما يترتب عليه. ثم أجاب عن الاعتراض الأول، وهو مسألة الرسالة والنبوة. حينها قال: «فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ»[8].
فالرسالة هي فضل من الله واختصاص يخص به من عباده من يشاء فليست مكتسبة بحال من الأحوال. ثم أجاب عن الاعتراض الثالث، وهو المن بالنعمة عليه وبأنه ظل مشمولا برعايته منذ كان طفلا إلى أن أصبح شابا، فإن موسى-عليه السلام-يرد عليه بما يشبه نقض كلام فرعون، وأفرغه من معناه. فقد أنكر موسى-عليه السلام-على فرعون أن يمتن عليه، وهو الذي استعبد قومه -بني إسرائيل- وبطش بهم. كأنما أراد أن يقول له: إن إحسانك المزعوم، إن سلمت به، لا يمكن أن يؤخذ على كونه دليلا على أنك محسن علي ومنعم في الواقع، فقد ظلمت قومي وأسرفت في ذبح أبنائهم، وإنه لهذا السبب قذفت بي أمي في اليم، ولولا ذلك ما نجوت من بطشك. فأي دعوى كاذبة بهذا القدر من التناقض، وهل يمكن أن تمتن علي بنجاتي من القتل التي كانت بفضل ربي.
الفائدة 3
كما يستفاد من رد موسى-عليه السلام-على فرعون لما سأله: «قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ »[9]. «قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ »[10]. أن ما يجب أن يحكم في الحوار هو البعد المقاصدي، فنقف عند حدود ما فيه مصلحة أو من ورائه فائدة، ونصرف الإجابة إلى هذا الاتجاه تجنبا للجدال العقيم. ومعنى جواب موسى -عليه السلام أن الله سبحانه وتعالى- لا يعرف إلا بصفاته وأفعاله، وبربوبيته لسائر خلقه. لقد اقتضى أسلوب الحوار في إقناع فرعون بالحقيقة، عندما سأل موسى-عليه السلام-عن ماهية الرب الذي أرسله، أن يجيبه بالمحسوس المشهود من فعل الله -تعالى- في خلقه، وإيجادهم في شتى الصور والطبائع، وفي رزقهم وإمدادهم بأسباب الحياة، وفي تسخير الطبيعة لهم، مما كان فرعون يقر به ويعلمه بحكم الفطرة البشرية. وإن لم يكن يعلم الصفات الواجبة لهذا الرب والمستحيلة والممكنة. «قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ»..
الفائدة 4
أن جواب فرعون- متعاليا وساخرا- على قول موسى-عليه السلام-، «قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ»[11]، دعوى تحمل في طياتها تناقضا وتعارضا صريحين، إذ كيف يكون موسى-عليه السلام رسولا ومجنونا في الوقت ذاته…
الفائدة 5
أن جواب موسى-عليه السلام-: «قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ»[12]، يعني رب الكون المتمثل في العالم المشهود بين المشرق والمغرب، وما يشتمل عليه من خلائق لا تحصى ومن ظواهر فوق طاقة البشر التحكم فيها، من قبيل الشروق والغروب، وقد كان التعبير بالمشرق والمغرب من التعابير الدالة على مجموع ما في الكون من كائنات ونظم ثابتة.
ويستفاد من هذا الجواب أمران:
أولهما: أن موسى –عليه السلام-لم يصرفه استهزاء فرعون وسخريته وتهديده عن هدفه المنشود، وهو بيان الحق والانتصار للدعوة. لذلك لم ينفعل ولم يتوتر من بداية الحوار إلى نهايته، وعندما اتهمه فرعون بالجنون رد عليه قائلا: «قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ»[13]، وهذه تقنية رائعة في الحوار وذلك أن يتحلى المحاور بالأناة، حتى لا يتم العدول عن الموضوع الرئيسي للحوار إلى معارك هامشية، كما يظهر ذلك جليا في ردود موسى-عليه السلام-على استفزازات موسى له.
ثانيهما: الإشارة اللطيفة في قول موسى-عليه السلام: «إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ {28}»[14] فهي تحمل ردا على اتهام فرعون له بالجنون، وفي الوقت ذاته تحمل أدبا جما في الرد على المستفز، كما أنها تقنية مهمة في إدارة الحوار، وهي: مراعاة موقف المحاور وأخذه بعين الاعتبار أثناء محاورته ومراجعته، دون إغفال الموضوع الأصلي للحوار.
وذلك أنه إذا تم إغفال الموضوع الأصلي للحوار والانسياق مع الهوامش والجزئيات التي قد يثيرها المحاور بقصد أو بغير قصد، يؤدي ذلك إلى ضياع المقصد الأصلي من الحوار والضلال في متاهات لا قيمة لها ولا نهاية.
فالمسألة إذا تحتاج إلى أن توضع في ميزان دقيق يحفظ لها توازنها بين التركيز على الموضوع الأصلي في الحوار، مع الأخذ بعين الاعتبار ما يصدر عن الطرف المحاور وحسن توظيفه –وإن كان هامشيا- في اتجاه خدمة الموضوع الأصلي متى أمكن ذلك على أن لا يصبح طاغيا ومهيمنا على أجواء الحوار.
الفائدة 6
أن فرعون مضى في غيه وهدد موسى-عليه السلام- بأنه سيجعله في عداد سجنائه، « قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ»[15]، وقد قابل الآيات الباهرة التي ظهرت على يد موسى -عليه السلام- في الأخير، حيث «قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ»[16]، إنه مسلك آخر من المسالك الفاسدة في الحوار، وهو ما يعرف بـ: المكابرة، أي المنازعة لا لإظهار الصواب، ولا لإلزام الخصم، ولكن لإظهار الفضـــــل.
وهي وظيفة مردودة لا تسمح ولا تقبل، والمكابر يحكم على نفسه بالهزيمة أثناء الحــــــــــــوار.
الفائدة 7
أن موسى-عليه السلام- لما رأى أن فرعون متمسكا بإنكاره، دعاه إلى ما يطمئن من هيجان غضبه، وقال لفرعون: أو لو جئتك بشيء مبين؟ فموسى-عليه السلام-ترك أمر معجزاته جانبا ولم يظهرها إلا في الوقت المناسب عندما هدده فرعون بالسجن، وهذه تقنية بالغة الأهمية في الحوار.
الفائدة 8
أن ما وقع فيه فرعون وملؤه وكل الحاضرين لهذا التحدي العظيم الذي ظهرت به معجزة موسى -عليه السلام- أمام كبار السحرة الذين جمعهم فرعون، والذين أدركوا بأن ما أظهر موسى –عليه السلام- يفوق كل ما ينتظر من السحر مهما كان، حينئذ التفت فرعون إلى الملإ من حوله مبهورا وسألهم قائلا: «فَمَاذَا تَأْمُرُونَ»[17] فأظهر الميل إلى قومه استجلابا لمناصرته، لأنه وقع في انكشاف أمره وظهور كذبه على نفسه وعلى قومه، وقد كان من قبل لا يطلب رأيا ولا يستشير أحدا.
الفائدة 9
إن هذا الحوار الذي دار بين طرفين من أجل إظهار حقيقة واضحة، وهي: أن موسى- عليه السلام -هو رسول رب العلمين إلى فرعون وملئه، دعاه إلى الإيمان برب العالمين وبتحرير بني إسرائيل من الاستعباد، فكان تركيز موسى –عليه السلام- على إثبات هذه الحقيقة بالدليل الفعلي، وبالمعجزات الباهرة وكان تركيز فرعون على التهديد بالعقاب والاتكال على السحر، وبذلك وقعت المواجهة بين الحق في أجلى صوره، وبين الباطل في أظلم صوره.
[1] –سورة الشعراء، الآية:16.
[2] -أي-معرفة- شخصية المحاور، معرفة مسبقة قبل الدخول معه في الحوار المنشود.
[3] – سورة الشعراء، الآية:16.
[4] -سورة الشعراء، الآية:18-19.
[5] -الغصب هو: اخذ المناظر وظيفة الاستدلال على بطلان دعوى الخصم، قبل أن يترك له فرصة إقامة الدليل عليه.
[6] -أسلوب الحوار، ص:65.
[7] -سورة الشعراء، الآية:20.
[8] – سورة الشعراء، الآية:21.
[9] -سورة الشعراء، الآية:23.
[10] – سورة الشعراء، الآية:24.
[11] – سورة الشعراء، الآية:27.
[12] – سورة الشعراء، الآية:28.
[13] – سورة الشعراء، الآية28.
[14] – سورة الشعراء، الآية:28.
[15] – سورة الشعراء، الآية:29.
[16] – سورة الشعراء، الآية:34-35.
[17] – سورة الشعراء، الآية:35.