قبل قدومي للعمل بالمركز القومي لمكافحة الألغام، كنت أعمل مديرا ” لإدارة التعليم بالمنظمة الدولية لقرى الأطفال SOS السودان ” ووقتها أقلقتني كثيرا المنهجية التقليدية المتبعة للتعليم بالسودان باعتبار أن المنظمة الدولية لقرى الأطفال تعتبر حالة خاصة بسبب وضع الأطفال فاقدي السند Abandoned Children أو Children Without Parental Care . وفي ظل نظام عمل تلعب الوساطات والتزكيات دورا “كبيرا” في إيجاد فرص عمل للخريجين الجدد، وجدت نفسي أمام تحد كبير يضع على عاتقي مسؤوليات جِسام أهمها اختراق نظام العمل الماثل وتوفير فرص عمل معقولة للأبناء الموكلين لنا.
برغم الإحاطة التربوية المتكاملة التي نوفرها لأبنائنا من خلال إدخالهم مدارس تعليم خاصة باهظة الكلفة ومتابعتهم اللصيقة داخل المدرسة وخارجها بسبب خصوصية وضعهم الإجتماعي الحساس، إلا أننا دائما ما نصطدم بالواقع التعليمي والمنهجية التقليدية التي ظلت عائقا “مستداما” أمام تطور قدرات الطلاب، بشكل ظل يحد من مساحات تحركهم وإبداعهم، وكان دائما يقلق مضاجعنا من خلال عدم القدرة على الإجابة على التساؤلات الخاصة بمستقبل أطفال لا سند لهم، خاصة وقت دخولهم مرحلة المراهقة وبلوغ سن الرشد وحين بداية وقت الحياة العملية (افتراضا).
ثم ماذا بعد انتهائهم من الدراسة الجامعية النظامية؟ وهل هم جاهزون لدخول معتركات الحياة دون رصيد إجتماعي كاف يربطهم بمجتمع جديد مبني على الوساطات والتزكيات والجهويات وربما القبليات؟ هل نحن قادرون على إيجاد فرص عمل لهم وفق مؤهلاتهم الجامعية وخلافها؟ كم يا ترى هو العدد الذي يمكننا التوسط له؟ وكم العدد الذي لن نجد له طريقا؟
تساؤلات كثيرة ظلت ترسم الحيرة على وجوهنا وتبني قلاع التحدي أمامنا وتقعد بنا دون تحقيق النتائج الإيجابية المعقولة.
وفي سبيل معالجة هذا الأمر عقدنا الكثير من ورش العمل والسمنارات لإيجاد حلول مجزية تجنب أبناءنا الكثير من المخاطر المحتملة جراء عدو توفقنا في ذلك. وكانت المشكلة الأساسية هي كساد سوق العمل ومحدودية فرص أبنائنا بسبب فقدانهم للسند الاجتماعي، وبسبب الوصمة المجتمعية تلك ظلو يعانون وظللنا نعاني في سبيل تقليل أثرها على مستقبلهم وحياتهم.
كانت نتائج ورش العمل والسمنارات والملتقيات التي نعقدها داخليا وخارجيا مخيبة للآمال، حيث كانت في مجملها تُخرج توصياتها متشابهة، وتدعو لتكثيف الجهود وأهمية المعالجات الأكاديمية وتهيئة أجواء التحصيل وزيادة دروس التقوية واختيار المدارس المتميزة والأساتذة الأكفاء. وكل ذلك دائما ما يبدو لنا مكررا ومتشابها، وكله أضاف كلفة تعليمية لا تطاق و عِبئا “ماديا” كبيرا” على العبء الذي سبقه.
وباعتباري مديرا لإدارة التعليم، كنت أشعر بأن المسؤولية الأولى تقع على عاتقي، وكنت دائما ما أفكر في الاستقالة وترك الوظيفة لمن هم بعدي، ولكنني كنت أتراجع بحكم أن من هم بعدي يعملون معي ولا جديد منهم وكذلك كنت أؤمن بأنني قد أتوصل لحل مُرضٍ، وفي زمن قريب، لذلك كنت دائما أقبل التوصيات و المخرجات وأشكر اللجان على الجهد المبذول، وأطلب المزيد من الجهود في سبيل إيجاد حل معقول ولكنني كنت في قلق دائم وهَمٍّ مستمر فيما يختص بالتعليم والتعلم وكنت في بحث دائم عن السؤال المطروح:
ما فائدة كل ذلك لطفل يتيم يسعى للاعتماد على الذات في كسب عيشه مستقبلا؟ نعم لم تجب كل تلك الملتقيات التي كلفتنا آلاف الدولارات سوى على نسبة ضعيفة من التساؤلات المطروحة.
وفي معرض بحثي عن الحلول والإجابات، كونت لجنة أسميتها لجنة تطوير التعليم بالمنظمة الدولية بقرى الأطفال SOS السودان وكانت هدفها الأسمى هو التفكير في مخرج ذكي يجعل التعليم وسيلة لنجاح مطلق لأطفالنا الأيتام. وظلت اللجنة تعمل وتبذل جهودا طوال فترة عملها دون إيجاد حلول ناجعة، ولكنها وسعت دائرة الوساطة وأضافت داعمين في سوق العمل ساهموا معنا ولو بنسبة محدودة في إيجاد فرص عمل للمنتظرين من أبنائنا الخريجين.
في قريتنا (حجر العسل) بولاية نهر النيل كان لي صديق ودود ذاهب العقل (مجنون) كنت أرتاح له كثيرا اسمه عبد الرحمن الصادق وقيع الله وكنا نلقبه ب (أبوضراع) وذلك بسبب مروءته وعونه الكبير لأهل القرية في كل المناسبات، التقيته في إحدى زياراتي إلى القرية وقد تصادف بأنني كنت مهموما” جدا” ولم أتحدث معه بالطريقة المعتادة وقد لاحظ ذلك وصاح قائلا”:
مالك يا أستاذ؟
فأجبته: عندي أولاد لم أجد لهم عملا” مناسبا” يا أبو ضراع.
فأجاب: ودهم يتعلمو صنعة (أرسلهم للتدريب المهني)
فصحت فيه ما شاء الله يا أبو ضراع لقد حللت المشكلة.
ومنذ ذلك الوقت طبقت نظام التعليم المزدوج Multi Education System والذي حرك ساكن الأمر، وجعلنا ندخل التلاميذ في العطلات السنوية لتلقى التعليم الفني وإجادته حسب التوجه الفني لكل منهم وتجهيزهم بمهن معقولة توافق ميول كل شاب، وتكرار ذلك سنويا حتى يتزامن إكمال التدريب المهني مع تخرج الطلاب، وفي تلك الأثناء نكون قد ربطناهم بشركات أو ورش متخصصة يسهل معها إدراجهم في العمل مبكرا دون انتظار فرص سوق العمل الخاصة بمؤهلاتهم الأكاديمية، وفي أغلب الأوقات يستمر الأبناء في العمل مع الشركات التي يدرجون فيها وتتم ترقيتهم حسب مؤهلاتهم الأكاديمية أو الفنية التي يتحصلون عليها، وفي بعض الأحيان تتوفر لهم فرص عمل حسب مؤهلاتهم وبالطبع يتفوقون بما نالوه من خبرات في التدريب المهني الذي تلقوه والعمل الفني الذي سبقوا أقرانهم فيه.
مقالة شيقة شكرا لكم
كفيت ووفيت استاذ عز الدين علي هذا المقال الرائع
ارجو ان تستمر في الكتابة.