يقصد بهجرة الكفاءات، انتقال الأفراد ذوي التأهيل العالي من خريجي الجامعات، من بلدهم إلى بلد غيره، طلباً لفرص العمل، أو العيش الكريم. وللهجرة تصنيفات عدة، منها القسرية والطوعية، وفي تصنيف آخر، هجرة مؤقتة، وأخرى دائمة ومستمرة، وثالثة نهائية. وما يهمنا هي هجرة من نعتبرهم كفاءات وخبرات علمية، حيث سيتم التطرق إلى عدد من الجوانب التي تعتبر المحددات الأساسية لموضوع الهجرة، وربطها بالتعليم العالي في العالم العربي، علماً بأن الاحصائيات تشير إلى أن ما يزيد على 30٪ من نزيف الكفاءات إلى كندا والأمريكيتين، وأوروبا هي من العالم العربي، وغالبيتهم من الأطباء.
أسباب هجرة الكفاءات
وُضعت الكثير من الأسباب لهجرة العقول والتي يمكن تصنيفها في جانبين هما: العوامل الطاردة من البلد الأم، والعوامل الجاذبة لبلد الهجرة، وتتمحور جميعها حول الأسباب الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية والتعليمية والحريات بأنواعها. كما وجدت أكثر من مدرسة تتبنى تفسير الظاهرة:
الأولى: تراه من منظور شخصي له علاقة مباشرة باحتياجات الفرد، وطموحاته الشخصية، فالكفاءات، نتاج المجتمع غالباً، هم الأفراد الأكثر تميزاً وإبداعاً فيه، وبذلك فإنهم يسعون جاهدين لتحقيق وتطوير ذاتهم فكرياً ومهنياً ومادياً، وهو ما لا يجدونه متاحاً في بلادهم كما في غيرها.
الثانية: أما هذه المدرسة فتتناول هجرة العقول والكفاءات باعتبارها ظاهرة دولية لا تخص بلاداً دون غيره، بل وتمتد جذورها في عمق النظام الاقتصادي والسياسي، الذي يهيمن على العالم. وعليه فإن تفسير الظاهرة يكمن في الخصائص المركزية للنظام الاقتصادي العالمي، خاصة تلك المتعلقة بقيام سوق عالمية للعقول والكفاءات بصرف النظر عن الدولة المنشأ.
وقد تبنى عدد من المفكرين المدرسة الثانية، وذهبوا إلى تفسير أسباب الهجرة وربطوها بنظام التعليم العالي، حيث وصفوه بالنظام التعليمي المغترب عن مجتمعه واحتياجات وغايات المجتمع المحلي والدولة، وبالتالي فهو يُنتج كفاءات ذات مهارات مميزة في الأسواق الدولية لا المحلية.
الثالثة: هذه المدرسة تنظر للموضوع من جوانب عدة، تجمع بين “الشخصية والعالمية” فالبعض يتولى مناصب ومراكز مرموقة في بلده، إلا أنه يسعى للهجرة باحثا عن جودة أعلى في الحياة والتعليم له ولولده من بعده. ومنهم من يحمل كثيراً من المؤهلات العلمية ولا يجد فرصة بسبب تياره المعاكس للنظام، وغيرها من الأسباب “الشخصية والمجتمعية”، السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية والعلمية.
وأجدني مع الثالثة، فما أكثر الكفاءات التي دفعها استمزاج البعد الشخصي والمحلي والعالمي للهجرة، حيث دفعتهم أفكارهم السياسية، وجوانب أخرى فكرية، سببها أن العالم العربي يعيش حالة من الازدواجية، والتفرقة، والتناقض والاقتتال الداخلي، وانتهاك حقوق الانسان، وانعدام الحريات والقمع السياسي، كما يشهد غياباً لأي مظاهر الإبداع والإنجاز الحقيقي، فالعقول المتقدة تجدها تفر باحِثة عن جودة العيش، من خلال الهجرة من بلادهم باتجاه مراكز التطور الفكري وإشعاع الحضارة والإنسانية.
هجرة الكفاءات وأثره على البلد الأم
للهجرة صورتين رئيسيتين: المباشرة التي يتخذ فيها الأفراد قراراً بالهجرة تاركاً بلده، وهجرة الطلاب من البعثات بعد إنهائهم لدراساتهم بقرار عدم العودة لبلادهم. وفي الحالتين لا بد من أن هناك خسارة فادحة لبلد الأصل والنشأة، متمثلة في التكلفة التاريخية التي تكبدها المجتمع، في تربية وتعليم الأفراد الذين يهاجرون بلادهم لغيرها من البلاد، ضاربين بعرض الحائط كل ما استحقوه أو أخذوه من خيرات تلك البلاد. كما أن هجرة الكفاءات تقلل من وجودها في بلدان الدول النامية عموماً، والتي قد تؤدي لتدني بقية العناصر الإنتاجية في المجتمع، لما لها من دور في تحريك سوق العمل، كما أن غيابها يتسبب في تخفيض الرصيد المعرفي، مما يؤدي ببلاد الأسواق الناشئة إلى استقدام كفاءات أجنبية لدعم نشاطها الاقتصادي، والتي يترتب عليها كثير من التكلفة المادية التي قد ترهق مؤسسات الدولة.
وللبعض وجهة نظر معاكسة تماماً، ففي الأمر تخفيض لمستوى البطالة في بلدهم التي هاجروا منها، مبررين رأيهم بأن الهجرة عامل مساعد في تخفيف مشكلة البطالة، وغير منتبهين إلى أن الكفاءات التي تهاجر هي غالبا تلك التي يحتاجها البلد، وليسوا سبب البطالة.
ويرى آخرون أن هجرة الكفاءات المؤقتة تساهم في تحسين ميزان المدفوعات، من خلال التحويلات المالية بالعملة الصعبة من بلد الهجرة إلى بلد العودة، كما يساهم هؤلاء بعد عودتهم في التنمية المجتمعية من خلال الاستفادة من خبراتهم ومهاراتهم التي اكتسبوها في المهجر.
مواجهة نزيف الكفاءات
ربما لا وجود لحل سحري لوقف خسارة الكفاءات، إلا من خلال مشروع قوميّ ينهض بالأمة من سباتها واستنزاف مواردها البشرية، بحيث يتصدره طلائع المثقفين القوميين، مع ولادة باحثين حقيقيين في الجامعات العربية، يجرون التقارير والأبحاث الاحصائية الشاملة والحصرية والدقيقة للكفاءات العربية المهاجرة، مع تسليط الضوء على دورهم الوظيفي في المجتمع، وتوعية الأفراد وجذبهم من خلال تحسين التعليم والمناهج التعليمية، ورفع المستوى الأكاديمي في الجامعات. ورفع الأجور للكفاءات العائدة، ومنحها مزيداً من الامتيازات المالية، والاجتماعية، والاستفادة من قدراتهم ومهاراتهم في مراكز مهمة في مؤسسات البحث العلمي.
كذلك الاستفادة من تجارب الدول في هذا المجال، والتي عملت على استقدام العقول المهاجرة وإعادة استيعابها، من خلال وضع قوانين تضمن حقوق العلماء والمفكرين، أما بدون مشروع قومي حقيقي ومدروس للنهضة، فإنه ما من وسيلة لوقف نزيف الكفاءات..
المراجع:
إبراهيم، الصوفي الشيباني 2010) ). التنمية وهجرة الأدمغة في العالم العربي. مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية: الإمارات العربية العدد 48.
مطرية، عوض وآخرون (2008). هجرة الأدمغة من المجتمع الفلسطيني مع دراسة استكشافية لقطاعي الصحة والتعليم العالي. معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني(ماس): رام الله.
فرجاني، نادر (2000). هجرة الكفاءات من الوطن العربي من منظور استراتيجية لتطوير التعليم العالي، يوليو٢٠٢٠، مركز المشكاة للبحث. مصر.
الشكر للباحثة د. إيناس عبّاد العيسى على هذه المقالة
الجادّة التي تطرّقت فيها لإحدى المشاكل الهامّة التي تعاني منها
الدول العربيّة، ألا وهي هجرة الأدمغة والكفاءات.
المفروض أن تسعى الدول العربيّة إلى توفير الظروف والأجواء
لاستثمار هذه الكفاءات والعقول، وإلًا فلن تتمكّن من تحقيق
النهضة والنمو المنشودين.