يعد موضوع التعلم learning من أكثر الموضوعات أهمية وإثارة لاهتمام الباحثين في مختلف التخصصات وذلك للتعرف على هذه الظاهرة الإنسانية المعقدة من خلال التوصل إلى قوانين تتحكم بها، بما يسهم في استثمارها وتوظيفها في المواقف الحياتية المختلفة وخاصة التربوية والاجتماعية منها. فأهمية التعلم تكمن في كونه عملية يكتسب فيها الفرد أنماطاً سلوكية جديدة ومهارات معرفية وانفعالية متعددة تساعده في التكيف مع بيئته الداخلية والاجتماعية ومواجهة التحديات والمخاطر المحيطة به، ولقد ظهرت العديد من نظريات التعلم التي تهدف لتقديم فهم أفضل وأعمق للسلوك الإنساني.
“وجاءت نظرية التعلم الاجتماعي أو التعلم بالنمذجة لتؤكد على أهمية التفاعل الاجتماعي، والمعايير الاجتماعية، والسياق للظروف الاجتماعية في حدوث التعلم، ويعني ذلك أن التعلم لا يتم في فراغ بل في محيط اجتماعي. (محمد،2011م ص161)
1- نشأة النظرية وأبرز روادها:
كانت المحاولة الأولى في هذا الاتجاه تلك التي صاغها ميللر ودولار (dollard&miller) وهما من أعلام المدرسة السلوكية الحديثة في كتابهما الشهير (التعلم الاجتماعي والمحاكاة) عام 1941م، وفيه حاولا التوفيق بين مبادئ السلوكية ومبادئ التحليل النفسي.(الخزاعلة وآخرون،2011م، ص267).
ثم صاغها جوليان راوتر في كتابه الذي صدر عام 1954بعنوان (التعلم الاجتماعي وعلم النفس الإكلينيكي) وفيه يؤكد مفهوم التعزيز. ثم طور هوارد كيلي المحاولات السابقة عام 1967م في بناء ما يسمى “نظرية العزو” في تفسير السلوك الاجتماعي. (أبو حطب،1999م، ص220). لكن يرجع الفضل في تطوير الكثير من أفكار هذه النظرية إلى عالمي النفس ألبرت باندورا وولترز (bandura&walter)، وفيها يؤكدان مبدأ الحتمية التبادلية reciprocal determinism في عملية التعلم من حيث التفاعل بين ثلاث مكونات رئيسية وهي: السلوك والمحددات المرتبطة بالشخص والمحددات البيئية. فالسلوك وفقاً لهذه المعادلة هو وظيفة لمجموعة المحددات المتعلمة السابقة منها واللاحقة بحيث تشتمل كل مجموعة منها على متغيرات ذات طابع معرفي. (الزغلول،2013م ص 139)
وقام باندورا بتقديم بحث يحمل عنوان (التعلم الاجتماعي من خلال المحاكاة) ثم اشترك مع ريتشارد ولترز في نشر كتاب يحمل اسم (التعلم الاجتماعي وتطور الشخصية)، وقد أصبح هذان الكتابان سبب البحث حول موضوع المحاكاة خلال العقد التالي.
فباندورا يرى أن معظم السلوك الإنساني متعلم باتباع نموذج أو مثال حي وواقعي وليس من خلال عمليات الاشتراط الكلاسيكي أو الاجرائي، فبملاحظة الآخرين تتطور فكرة عن كيفية تكون سلوك ما. (محمد،2011م، ص161)
ومن وجهة نظره فإن التعلم المعرفي الاجتماعي يعني أن المعلومات التي نحصل عليها من خلال ملاحظة الأشياء وسلوك من هم حولنا تؤثر في طريقة تصرفنا. (العتوم وآخرون ,2014م، ص121)
كما يرى أن أكثر السلوكيات التي يتعلمها الإنسان تتم من خلال ملاحظتها عند الآخرين، والتعلم بالملاحظة يحدث عفوياً في أغلب الأحيان، فالنمذجة إذن عملية حتمية. (Bandura,1976) (الشيخ وآخرون ،2011م،ص237).
2- مفهوم النظرية وتعريفاتها:
تعرف هذه النظرية بأسماء متعددة، مثل:
- نظرية التعلم بالملاحظة والتقليد learning by observing and imitating.
- أو نظرية التعلم بالنمذجة learning by modeling.
- أو نظرية التعلم الاجتماعي social learning theory.
ويقصد بالتعلم الاجتماعي: اكتساب الفرد أو تعلمه لاستجابات أو أنماط سلوكية جديدة من خلال موقف أو إطار اجتماعي، حيث أن معظم سلوك البشر متعلم من خلال الملاحظة سواء بالصدفة أو بالقصد. فالطفل الصغير يتعلم الحديث باستماعه لكلام الآخرين وتقليدهم. فلو أن تعلم اللغة كان معتمدا بالكامل على التطويع أو الاشتراط الكلاسيكي أو الإجرائي، فمعنى ذلك أننا لن نحقق هذا التعلم. (محمد،2011م ص 162-163)
ويعرف الشناوي(1998م) التعلم الاجتماعي: بأنه اكتساب الفرد أو تعلمه لاستجابات أو أنماط سلوكية جديدة من خلال موقف أو إطار اجتماعي، فالتعلم الاجتماعي القائم على الملاحظة يقوم على عمليات من الانتباه القصدي بدقة والتي تكفي لاستدخال المعلومات والرموز والاستجابات المراد تعلمها في المجال المعرفي الإدراكي.
أما التعلم بالملاحظة observational learning فهو التعلم الذي يحدث من خلال ملاحظة سلوك الآخرين. فالتعلم بالملاحظة يترك آثاراً متنوعة على سلوك الإنسان تتراوح بين تعلم اللغة، إلى تعلم اختيار الملابس المناسبة التي يجب ارتداؤها، وموضات قص الشعر.
كما يطلق ألبرت باندورا (مؤسس النظرية) على التعلم بالملاحظة -والذي يحدث عندما يقوم المتعلم بتقليد سلوك يظهر عند نموذج- اسم النمذجة modeling أو التعلم بالنمذجة ، ومن أشهر الدراسات التي تناولت النمذجة، الدراسة التي قام بها باندورا وزملاؤه على السلوك العدواني عند الأطفال (westen, 1994). (العتوم وآخرون ,2014م، ص122)
3- عوامل التعلم الاجتماعي:
يرى أبو أسعد أن العوامل المؤثرة في دافعية تقليد النموذج أو عدم تقليده يمكن تلخيصها في النقاط التالية:(أبو أسعد،2011م، ص 291)
- عوامل متعلقة بالفرد الملاحِظ ومنها (العمر الزمني والاستعداد العقلي، تقديره للمكانة العلمية والاجتماعية للنموذج والجاذبية الشخصية والارتياح النفسي للنموذج).
- عوامل متعلقة بالنموذج الملاحَظ ومنها (المكانة الاجتماعية – الشهرة –النوع).
- عوامل متعلقة بالظروف البيئية أو المحددات الموقفية.
4- مصادر التعلم الاجتماعي:
ذكر الزغلول (2014م ص 219) أن التعلم بالملاحظة يتطلب توفر فرص التفاعل مع النماذج، وقد يكون هذا التفاعل مباشراً كما هو الحال في المواقف الحياتية اليومية، أو غير مباشر من خلال وسائل الإعلام المختلفة والمصادر الأخرى، وفيما يلي عرض لهذه المصادر.
أولاً: التفاعل المباشر مع الأشخاص الحقيقيين في الحياة الواقعية
يمكن أن يتم تعلم العديد من الخبرات والأنماط السلوكية من خلال التفاعل اليومي المباشر، حيث يكتسب الأفراد هذه الأنماط من خلال ملاحظة أداء نماذج حية في البيئة. فنحن نتعلم من خلال التفاعل مع الوالدين وأفراد الأسرة والأقران وأفراد المجتمع الذي نعيش فيه. فعلى سبيل المثال، نجد أن الأطفال يتعلمون الكثير من الأنماط السلوكية من خلال محاكاة سلوك والديهم أو أفراد الأسرة التي يعيشون في ظلها، كما أنهم يتمثلون خصائص جنسهم والأدوار الاجتماعية والمهارات الحركية من خلال التفاعل مع الآخرين. أما تعلم اللغة واللهجة والمهارات اللفظية الأخرى، فهو أيضاً يتم تعلمها من قبل الأفراد على نحو مباشر من خلال التفاعل مع أفراد المجتمع الذي يعيشون فيه.
ثانياً: التفاعل غير المباشر ويتمثل في وسائل الإعلام المختلفة
يمكن من خلال هذه الوسائل تعلم الكثير من الأنماط السلوكية، إذ أن مثل هذه الوسائل تعد أدوات إعلامية مؤثرة في السلوك. ويُصنَّف التعلم الذي يتم من خلال التلفزيون والسينما بالتمثيل من خلال الصور. هذا وتشير الدلائل إلى أن أشكال التوضيح المعتمدة على المادة المحسوسة أو الصور تعتبر أكثر قدرة على نقل حجم معلومات أكبر مقارنة بالأشكال المعتمدة على الوصف اللفظي. ولكن هناك بعض المهارات تنقل فيها الرموز الكلامية قدراً أكبر من المعلومات مقارنة بأشكال التمثيل بالمادة والصور كما هو الحال في تعلم اللغة واللهجة.
لقد أشارت نتائج العديد من الدراسات أن التلفزيون يشكل مصدراً مهماً لتعلم الأنماط السلوكية ولاسيما العنف والسلوك العدواني. فكما ظهر في نتائج التجارب السابقة لنظرية التعلم بالنمذجة ، لوحظ أن الأطفال تعلموا مظاهر السلوك العدواني من مشاهدة الأفلام التلفزيونية الحية والكرتونية.
ثالثاً: هناك مصادر أخرى غير مباشرة يمكن من خلالها تمثل بعض الأنماط السلوكية
وذلك على اعتبار أن مثل هذه الأنماط يتم تمثلها رمزياً وصورياً على نحو معين، ومن هذه المصادر القصص والروايات الأدبية والدينية، وكذلك من خلال عمليات تمثل الشخصيات الأسطورية والتاريخية.
5- التطبيقات التربوية لنظرية التعلم بالنمذجة :
يرى الزغلول (2014م ص 219) أنه يمكن استخدام إجراءات التعلم بالنمذجة في مواقف التعلم والتعليم على النحو الآتي:
أولاً: تنمية العادات والقيم والاتجاهات لدى المتعلمين من خلال:
- أن يكون المعلم قدوة للمتعلمين بممارسة العادات والقيم.
- استخدام نماذج من الطلبة ممن يمارسون مثل هذه العادات والقيم وتعزيزهم على ذلك أمام الطلبة الآخرين.
- استخدام الأفلام التي تشتمل مواد تتعلق بتلك القيم والعادات والاتجاهات.
- استخدام القصص والروايات والسير الهادفة والتي تكفل توفير نماذج مثالية للمتعلمين.
ثانياً: تنمية المهارات الرياضية والفنية والحرفية
والمتعلقة بتدريس المواد الأكاديمية من خلال استخدام النماذج المباشرة وغير المباشرة كالأشخاص والأفلام والصور.
ثالثاً: تعديل السلوك لدى الأفراد
من خلال كف أو إزالة بعض السلوكيات لدى الأفراد عند مشاهدتهم لنماذج قامت بالسلوك وتمت معاقبتها عليه (أو نماذج سلوكية إيجابية تمت مكافأتها).
وقد بينت دراسات عديدة أن التلاميذ يتأثرون بسلوك معلميهم وتصرفاتهم أكثر من تأثرهم بأقوالهم ونصائحهم وخاصة عندما يتعارض الإثنان معاً.(الشيخ وآخرون،2011م،ص255).
تطبيقات تربوية لنظرية التعلم بالنمذجة داخل الفصل:
قدم (العتوم وآخرون ,2014م، ص 127-128) تطبيقاً تربوياً لنظرية التعلم بالنمذجة من قبل المعلم في صورة توجيهات كما سَيَلِي:
▪كن حذراً في ألفاظك وسلوكياتك، فأنت بالنسبة لطلابك نموذج يُحتذى به، فإذا أردت تعليمهم احترام الوقت، فيجب أن تلتزم أنت أولا بمواعيد حصصك الصفية.
▪ إذا أردت تطبيق نظرية التعلم بالنمذجة في الغرفة الصفية وتحويلها إلى ممارسات عملية، تذكر ما يلي:
- حدد بالضبط ما تنوي تعليمه للطلبة، أي السلوك الخاص الذي تريد نمذجته.
- هل يستحق هذا السلوك نمذجته؟ ما هي أشكال المعززات المتوفرة لك من أجل تقويته؟
- كيف ستقوم بعرض السلوك المرغوب نمذجته؟ كيف ستثير انتباه الطلبة لملاحظته؟
▪تذكر أن بناء الفعالية الذاتية عند الطلبة هدف رئيسي عند المعلم الناجح، لأن احتمالية تقليد الملاحظ لسلوك النموذج يعتمد على هذه الفعالية.
▪ زاوج بين الطلبة ممن تعتبرهم نماذج مع الطلبة الآخرين ذوي الفعالية الذاتية المنخفضة، فالطلبة يقلدون بعضهم البعض عندما يشاهدون كفاءاتهم في تنفيذ مهامهم.
▪ قم باختيار طلبة تنطبق عليهم خصائص النموذج، مثل: الكفاءة، الجاذبية، الشعبية، واطلب منهم نمذجة العديد من السلوكيات التي ترغب في تعليمها.
▪ تجنب تعريض الطلبة لخبرات الفشل المتكرر، فالطلبة يُنَمْذِجون السلوكيات التي تقود إلى النجاح.
▪ وفّر لطلبتك نماذج ترغب في تعليم سلوكياتها، مثل: طلبة متفوقين، قصص ومشاهد تلفزيونية تنطوي على نماذج مشهورة.
6- خاتمة
هذه النظرية هي أقرب إلى الحقيقة منها إلى النظرية وذلك لوجود شواهد تعزز ما ذهبت إليه النظرية من افتراضات وذلك في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وفي محاولة منا لربط النظرية بالميدان التربوي فإننا نقترح التالي:
العناية بتقديم نماذج مثالية للطلاب والطالبات بما يسهم في الحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية من خلال مؤسسات التربية المختلفة.
تفعيل دور الإعلام وجعله إعلاماً تربويا يسهم في غرس الفضيلة ودعم القيم النبيلة لدى جيل الناشئة، والبعد عن تمجيد القدوات السيئة وسيادة النماذج الغربية.
الاستفادة من نظرية التعلم الاجتماعي في تطوير مناهج التعليم بما يفعل التعلم بالملاحظة (ملاحظة نماذج تربوية تكون قدوة في سلوكها وأخلاقياتها وتفعيل وسائل التواصل الاجتماعي في تحقيق ذلك بما يجذب الطلاب والطالبات ويحقق أهداف العملية التعليمية في تنمية القيم والأخلاق).
المراجع:
-أبو أسعد، أحمد عبد اللطيف. (2011م). تعديل السلوك الإنساني – النظرية والتطبيق. عمان: دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة.
-أبو حطب، فؤاد، وصادق، آمال. (1996م). علم النفس التربوي. القاهرة: مطابع الأنجلو المصرية، ط5.
-الخزاعلة، محمد، والشقصي، عبد الله، والسخني، حسين، والشويكي، عساف. (2011م). نظريات في التربية. عمان: دار صفاء للطباعة والنشر والتوزيع.
-الزغلول، عماد عبد الرحيم. (2013م). نظريات التعلم. عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع.
-الزغلول، عماد عبد الرحيم. (2014م). مبادئ علم النفس التربوي. عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع، ط5.
-الشيخ، تاج السر، وأخرس، نائل محمد عبد الرحمن. (2011م). علم النفس التربوي بين المفهوم والنظرية. الرياض: مكتبة الرشد، ط2.
-الشناوي، محمد محروس وعبد الرحمن، محمد سيد .0(1998م). العلاج السلوكي الحديث –أسس تطبيقية. مصر: دار قباء.
-العتوم، عدنان، علاونة، شفيق، والجراح، عبد الناصر، وأبو غزال، معاوية (2014م). علم النفس التربوي النظرية والتطبيق. عمان: دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، ط5
-محمد، محمود مندوه. (2011م). نظريات التعلم. الرياض: مكتبة الرشد.
شكرا جزيلا على الموضوع المفيد
اسمحوا لي على النقل عنكم إليهم
لك ذلك أخي فالهدف من النشر أنا تعم الفائدة للجميع ولكن فقط أتمنى التوثيق لماينقل
موضوووع رائع ومعلومات جديدة عن التعليم جهود موفقه