إن تعليم الرياضيات وتعلمها عملية منظمة لها أهدافها ومعوقاتها وتحدياتها ودعائهما في آن واحد، ولا شك أن حدوث التعلم لدى الطلبة في حد ذاته هدف رئيس لتعليم الرياضيات يصبو إليه كل معلم، ولكن أي تعلم رياضي نريد؟ وماذا قدمنا لتحقيقه؟ والإجابة على هذين السؤالين تقودنا إلى ضرورة التأمل في معطياتنا (التدريسية والذهنية) ونتاجاتنا المتحققة في طلبتنا (نظريا وواقعيا).
فالمتأمل في تصورات المعلمين لطبيعة المعرفة الرياضية اللازمة يجد تباينا ملحوظا بينهم من جهة وفي المعلم ذاته في بعض الأحيان من جهة؛ فمنهم من يرى المعرفة الرياضية تبدأ بمعرفة المفاهيم ومدلولاتها، ومنهم من يرى في المعرفة الإجرائية نقطة انطلاق أساسية لتعلم كل شيء يرتبط بالرياضيات، ومنهم من يرى أن المعرفتين الإجرائية والمفاهيمية أساس لا يستغنى بواحدة منهما عن الأخرى ولكنه ينظر إليهما كمعرفتين مستقلين عن بعضهما البعض ، والبعض الآخر يرى أن هناك علاقة تأثر وتأثير بينهما وكلاهما ذو أهمية في تعليم الرياضيات وتعلمها. وكل نظرة مما سبق لها مبرراتها ودوافعها، ولكن حتى نستطيع الحكم وتبني وجهة النظر السليمة ينبغي علينا أن نضع في نصب أعيننا غايتنا التعليمية وتحدياتنا في ضوء واقعنا التعليمي.
واستنادا إلى مبدأي التعليم والتعلم التي أقرها مجلس معلمي الرياضيات في وثيقته يتبين لنا أن تعليم الرياضيات الفعال يحتاج إلى فهم ما يعرفه الطلبة وما يحتاجون تعلمه ثم تحديهم الداعم لتحقيق التعلم الرياضي الجيد مع الفهم والبناء الفعال للمعلومات والمعارف الجديدة ليتسنى لكل طالب فرصة بناء معارف رياضية ذات معنى وقيمة له في حياته حاضرا ومستقبلا.
ولتحقيق هذه الرؤى الثاقبة ينبغي علينا كمعلمين أن نتأمل من جديد ونعيد التساؤل مرارا حول طبيعة المعرفة الرياضية التي ينبغي على الطالب امتلاكها وكيف لنا مساعدته على امتلاكها لنحقق سويا الهدف المنشود في تعليم الرياضيات وتعلمها.
إن المعرفة الرياضية بشكل عام ومن وجهة نظري الخاصة تتلخص بثلاث كلمات وهي: تمييز المعلومات الرياضية حيث التمييز هو توظيف القدرات الذهنية للتعرف على المواقف الرياضية وتمييز المعلومات المتعلقة بها ولذلك لا يسمى المتعلم عارفا بالرياضيات إلا إذا أبحر في علمه بها. ولكل معرفة مكوناتها وإن كنت لا أحبذ فصلها في علم تعليم الرياضيات خصوصا، إلا أن تباين الآراء ووجهات النظر حولها يوجب علينا أن نكون موضوعيين تقييما لتفادي جوانب القصور فيها وتعزيز جوانب القوة والخروج بما يلائم تصوراتنا وواقعنا وأهدافنا.
قالوا في المعرفة الإجرائية بأنها مكون أساسي في تعلم الرياضيات، وعليه فإن التعليم الإجرائي يقتضي تسليح الطالب بالمهارات وتمكينه من تنفيذ الإجراءات بشكل مرن ودقيق وفعال على نحو ملائم، حيث التعبيرات واللغة الرياضية الخاصة بالموقف حاضرة لدى المتعلم والخوارزميات والقواعد الجاهزة بين يديه توجهه بشكل سريع لاتباعها في التعامل مع المهمات الرياضية، وبأن امتلاك هذه المهارات والخوارزميات وتوظيفها الدائم في التعامل مع المهمات الرياضية سيساهم في تعزيز تعلم المفاهيم الرياضية لدى المتعلم نتيجة الممارسة والتكرار، فالمعلم في ضوء هذه النظرية يبدأ بالقواعد والخوارزميات وتكرار الأمثلة الرياضية بشكل متدرج حتى يصل في نهاية الموضوع الرياضي لموقف أو مشكلة رياضية يتطلب حلها توظيف تلك الخوارزميات للتعامل معها، وبهذا يكون وكأنه ينتقل في تعلمه من تعلم الإجراءات إلى تعلم المفاهيم.
ولكنني أتساءل هنا وفي ضوء هذا النهج التدريسي أسئلة استنكارية تحمل في طياتها وقفات تأملية:
كيف سينظر الطلبة إلى الرياضيات؟ وإلى أي مدى يستمر هذا التعلم مع الطلبة؟
وهل يمكنهم توظيفه في مواقف جديدة؟!
لا شك أن تعليمهم مقرون بزمن قصير قد يتلاشى بزوال المؤثر التعليمي فالطلبة الذين يحفظون الحقائق والإجراءات بشكل آلي غالبا يكون تعليمهم هش يفتقر إلى عنصرين أساسيين وهما متى وكيف يستخدمون ما يعرفونه في مواقف جديدة.
وقال آخرون أن المعرفة المفاهيمية أساس لتعلم الرياضيات وعليه فإن التعليم المفاهيمي يقتضي تمكين الطالب من فهم الأفكار الرياضية والعلاقات التي تنشأ داخليا وترتبط مع هذه الأفكار لتكوين شبكة مفاهيمية منظمة، حيث يكون تركيز المعلم في هذا المنهج التدريسي منصبا على المفاهيم الرياضية إذ تكون التطبيقات الواقعية والمشكلات الرياضية أساسا للانطلاق في تدريس المفاهيم لدى الطلبة.
وهنا أتساءل أسئلة استنكارية من جديد في ضوء هذا النهج: كيف سينظر الطلبة للرياضيات؟ إلى أي مدى سيأخذ كل طالب فرصته في التعلم؟ كم يلزم من الوقت حتى يحقق المعلم نتاجاته؟
لا شك أن تعلمهم سيكون أكثر قوة من سابقه، ولكن إدراك المفاهيم والعلاقات وتطبيق الحلول المفاهيمية بينهما يفتقر إلى الطلاقة الإجرائية لدى المتعلم وهذا قد يشكل عائقا لدى الكثير من المتعلمين في إنجاز المهام الرياضية.
إن استعراضنا للنهجين السابقين بشكل منفصل يشير بوضوح إلى عجز واضح فيهما، فالنهج الإجرائي غني بالخوارزميات اللازمة لإنجاز المهمة بسرعة ودقة وإتقان ولكنه يفتقر إلى العلاقات التي تربط الأفكار والمفاهيم والتطبيقات في حين أن النهج المفاهيمي غني بالعلاقات والأفكار إلا أنه يفتقر الخوارزميات والإجراءات، وهذا بدوره يقودنا للبحث عن منهج أكثر إنصافا ليلبي طموحاتنا كمعلمين ولنحقق من خلاله نتاجاتنا في تعليم الرياضيات.
ولعل النهج المتوازن الذي يجمع بين النهجين السابقين بصورة تكاملية دون أن يطغى جانب على الآخر ودون استقلالية في تطور أحدهما والآخر يجعلنا نجد ضالتنا في هذا الشأن، إذ يقول مجلس معلمي الرياضيات في وثيقته (NCTM, 1991) وبما معناه أنه عندما تتكون لدى الطلبة نظرة إلى الرياضيات ككل متكامل فسوف يكون لديهم ميل أقل للنظر إلى المفاهيم والمهارات على أنها منفصلة، وإذا ارتبطت المفاهيم بالإجراءات فإن الطلاب ينظرون إلى الرياضيات على أنها مجموعة متكاملة من القوانين، ويجب أن يكون هنا التكامل بين الإجراءات والمفاهيم مركزيا في الرياضيات المدرسية.
وانا كمعلمة رياضيات أقول بقوله، مع الفارق أنني أسقط قولي على واقعنا التعليمي آخذة بعين الاعتبار مجموعة المرتكزات التعليمية التي نستند إليها في تدريسنا وما يقابلها من تحديات تتطلب منا تكييف قولنا هذا بشكل يجعلنا واقعيين في مقترحا.
وعليه فسأبدأ بمجموعة العوامل التي من شأنها التأثير على نهج التوازن المفاهيمي– الإجرائي في تدريس الرياضيات وتعلمها وألخصها ولا أحصرها بطبيعة المقرر المدرسي، وطرق التدريس المستخدمة من قبل المعلمين، ومرتكزاتهم التقييمية، ومرتكزات التدريب التي تلقاها معلمو الرياضيات على الصعيدين الجامعي والتدريبي أثناء وقبل الخدمة.
فها نحن نشهد حملات تطوير مستمرة لمناهج الرياضيات، غايتها بلا شك إصلاح التعليم والارتقاء به ما أمكن، قد نتقدم للأمام بها لتحقيق هذا التوازن ( المفاهيمي- الإجرائي) المنشود وقد نرجع للوراء تبعا لظروف التطوير المتغيرة في كل مرة، ولست هنا بصدد نقد حملات التطوير بقدر إنصافي في الإقرار بأن المقررات المدرسية ربما لا تلبي نظرتنا في تفعيل هذا النهج، ولكن يمكننا كمعلمين التغلب على هذا الأمر بسهولة عندما نخرج من نطاق التقيد بحرفية المقرر المدرسي إلى تكييفه بما يلبي أهدافنا.
وأما عن طرق التدريس السائدة فقد تشكل تحديا آخر أمام هذا النهج المتوازن الذي نطمح إليه، فكثير منا كمعلمين نلجأ إلى التدريس الإجرائي اعتقادا منا أنه الأقرب إلى ذهن المتعلم ورغبته وسرعان ما نقدم له القواعد والخوارزميات الجاهزة ثم ننهال بالأمثلة المباشرة لتعميق حفظه لتلك القواعد وننتهي به بموقف أو مشكلة رياضية وغالبا ما نتدخل في حلها نحن كمعلمون.
وعليه أوصي نفسي وزملائي المعلمين أن نبدأ بتغيير معتقداتنا نحن ما أمكن فما نظنه يلبي احتياجات الطلبة ورغباتهم في تعلم الرياضيات يكون في كثير من الحالات ذو أثر سلبي بعيد المدى على تعلمهم. فمن الضروري أن نتيح لطلبتنا بناء معرفتهم الرياضية بطريقة متوازنة من خلال مساعدتهم على امتلاك الطلاقة الإجرائية والعمق المفاهيمي في آن واحد وبصورة تكاملية.
وبخصوص مرتكزات التدريب التي تلقيناها كمعلمي رياضيات على الصعيدين الجامعي والمهني فلم تكن بالمستوى الذي يتماشى مع أهداف النهج المتوازن إلى حد ما، ولكن لا يمكننا تجاهل التوجهات الحديثة في طبيعة الدورات التدريبية لمعلمي الرياضيات التي باتت تقاوم ما سبق من تصور، فلننتقي منها ما يناسبنا ولنسعى دوما إلى البحث عن كل ما يصب في صالح تعلم الطلبة.
وأما العامل الأخير والذي يشكل أساسا مهما في نهج التدريس المتوازن فهو التقييم، فالتوازن المفاهيمي الإجرائي لا يقتصر على عمليتي التدريس والتعلم بل يتضمن توازنا في التقييم. فلا بد للتقييم أن يتماشى مع الأهداف التعليمية.
المراجع
Bahr,L. & Bossé, J.(2008). The State of Balance Between Procedural Knowledge and Conceptual Understanding in Mathematic Teacher Education. All Faculty Publications. 924
National Council of Teachers of Mathematics. (2000). Principles and standards for school mathematics. Reston,VA:NCTM
مبدعة دوما كما عهدناك وفقك الله ورعاك احلى دكتورة
تسلمي أستاذة سلام
آمين وإياكم يا رب