لا شكَّ أنَّ الفكر التربوي الإسلامي هو الذي أوجد هذه الأُمة فانتفضت من تُراب الأرض، فوصلت إلى عنان السماء، فإذا هي أُمة صلبة مُتماسكة لا مثيل لها، تفتح وتعمر وتبني وتُقيم مُثلًا أخلاقية وإنسانية غير معهودة، وتنتشر في سنوات قليلة في بقاع الأرض، تنشر النور والهدى والصلاح، فالفكر التربوي الإسلامي أدى دورًا مهمًا في تربية الأجيال على المبادئ والأخلاقيات الإسلامية السامية، حيثُ عمل على بناء شخصية الإنسان على أساس متين من الخلق العظيم، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وكذلك بناء مجتمع تسوده مجموعة من القيم والمُثل العليا لتحقيق أهدافه التربوية والاجتماعية.
أصُول الفكر التربوي الإسلامي
منذ بعث الرسول الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- في مطلع القرن السابع الميلادي والقرآن الكريم “وحي الله” هو كتاب المُسلمين الأول، علّمه وشرحه معلم المُسلمين الأول محمد بن عبد الله، وتوالى الصحابة والتابعون على حفظه وتعليمه وتفسيره للمُسلمين بعد وفاته، ويمثل القرآن الكريم المصدر الأول للشريعة الإسلامية والدستور الرئيس لحياة المُسلمين وتربيتهم وتنظيمهم ونظرتهم إلى الكون والوجود والطبيعة الإنسانية، وإلى بدء الحياة ونهايتها، وإلى مغزى ومعاني الحياة الفردية والجماعية، وإلى مجمل النشاط الإنساني أو السعي الذي يقوم به الإنسان في مُحيطه الاجتماعي طلبًا للرزق، وحفظًا للنوع، وابتغاء لمرضاة الله واتقاء لغضبه، ويُمثل الحديث الشريف وسنة رسول الله المصدر الرئيس الثاني للمسلمين في مُختلف أنشطتهم، وخاصة أخلاقهم وسُلُوكهم ومعاملاتهم، ومع أنَّ الحديث لم يبدأ تدوينه إلا في مرحلة مُتأخرة على وفاة الرسول، فإنه حفظ شفاهيًا من الصحابة ورواة الحديث، وبعد تدوينه تمَّ تحقيقه وتمحيصه وتصنيفه من قبل علماء الدين والفُقهاء الثُقاة، بحيثُ أصبحت بعض تلك التصنيفات مرجعًا يستند إليه في شرح العقيدة وتوجيه حياة المُسلمين وصياغة فكرهم، وتحديد أساليب عيشهم وطرائق تربية أبنائهم، وفي مراحل لاحقة في حياة المُسلمين اتفق عُلماء الدين على إضافة مصادر تشريع وتنظيم تربية أُخرى إلى المصدرين الرئيسين؛ القرآن الكريم والسنة النبوية، فاعتمدت مصادر فقه الحديث والإجماع والقياس في حُدُود ثوابت العقيدة، وبذلك كوّنت المُجتمعات الإسلامية منظومة شاملة للفكر والمبادئ التي تُوجه ثقافتها وتحكم أنشطتها، وتُحدد قيمها وأنماط سُلُوكها، وفق كل ذلك تبيِّن لها منطلقات، وأُسس تربية أجيالها الصاعدة، والغايات العُليا الدنيوية والأُخروية لهذه التريبة، ويرى شيخ الأزهر الجليل الإمام محمد عبده أنَّ الإسلام عقيدة وفكر وأُسلُوب حياة للمؤمنين به، يقُوم على عدد من المبادئ أو الأُصُول التي تحكم تربية المُسلم من النواحي المعرفية والأخلاقية، وهذه الأُصُول تتمثل بالآتي:
أولًا: فهم طبيعة الدين الإسلامي: يجب أنْ يُدرك المُسلم ويفهم فهمًا تامًا أنَّ دين الله الحق “الإسلام”، يشمل على دعوتين للإنسان: دعوة إلى الاعتقاد والإيمان بوجود الله خالق كل شيء وتوحيده وعبادته ودعوة إلى تصديق رسالة مُحمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنه رسُول الله وخاتم أنبيائه ورُسله سبحانه وتعالى إلى البشرية كافة مُبشرًا ونذيرًا، ومُعلمًا، وتستند الدعوة الأُولى إلى تنبيه العقل البشري وحثه على النظر في الكون وما حواه من موجودات وتنظيمات وترتيبات، ومظاهر خلق وإبداع وإحكام لكي يصل إلى الاستنتاج الصحيح بأنَّ لهذا الكون صانعًا عالمًا خبيرًا حكيمًا، قادرًا ومدبرًا، يتصف بالإرادة والقُدرة ودقة الصُنع، وأنَّ هُناك غاية إلهية من وراء الخلق تدخل في علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وحده، والقرآن في هذه الدعوة للإيمان بالله ووحدانيته يعتمد على الدليل العقلي والفطرة السليمة للفكر الإنساني التي تقود بالمنطق والمُحاكمة العقلية إلى التسليم بوجود خالق لهذا الكون ومُدبر لشؤونه بدقة ونظام وإحكام؛ مما يخرج تمامًا عن دائرة الاحتمال أو الصُدفة أو اللاقصدية، وتستند الدعوة الثانية للإسلام كذلك إلى العقل والمنطق والمُحاكمة العقلية السليمة، وهي أنَّ القرآن الكريم كلام أوحى به إلى مُحمد -صلى الله عليه وسلم-، والدلالات المنطقية على ذلك هي أُمية الرسول الذي لم يتعلم العُلُوم ولم يعرف المعارف ولم يقرأ الكُتُب أو يخطها، وبلاغة أُسلُوب القرآن الكريم وشموله لجميع نواحي العلم والمعرفة وقوانين الطبيعة وحركة الكون؛ مما يجعل من المحال على بشر أنْ يأتي بمثل كلامه وإحاطته وعلمه وإعجازه.
ثانيًا: تغليب ما يمليه العقل على ما يبدو من ظاهر النص الديني، سواء في القرآن الكريم أو في الحديث الشريف، وتأويل النص حسب القوانين الأساسية للغة العربية حتى يتفق معناه ومرماه مع ما يثبته العقل، أو التسليم في أمر ما يُعنيه النص بالعجز البشري عن فهمه وإدراك علم الله فيه، وقد مكّن هذا المبدأ الذي اتفق حوله فقهاء الإسلام والمجتهدون فيه باستثناء فئة قليلة لا يعتد المُسلمون برأيها؛ من إزالة أيّ قيود تحد من سُلطة العقل الذي ميّز الله به الإنسان وكرّمه على غيره من المخلوقات، وجعله معيار إيمان المُسلم وتصديقه للوحي الإلهي الذي نزل على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ثالثًا: ترك الحُكم على الآخرين بالإيمان أو الكُفر إلى الله الخالق العليم الخبير، وعدم اعتبار آراء العُلماء والفلاسفة كُفرًا إذا كانت تحتمل في وجه منها الإيمان؛ لأنَّ الحكم على النوايا والاطلاع على خبايا النفس من اختصاص الخالق الذي يعلم خائنة الأنفُس ويعلم ما لا تعلمون أيُّها الناس.
رابعًا: الاعتبار بسنن الله في خلقه وتصريفه للأُمُور: أي أخذ العبر بما مضى من قُرون (أُناس وزمان) والاستعداد لِما سوف يأتي؛ لأنه لا تبديل ولا تحويل لسنة الله في خلقه، وسُنن الله هي النواميس والطرائق الثابتة التي تُنظم الكون وتحكم الوجود وتسيّر شُؤون البشر في حياتهم وسعيهم، وتُحدد مصائرهم وآجالهم ومآلهم، وتُقسم رزقهم، وتكتب لهم السعادة أو الشقاء، والهداية أو الضلال.
خامسًا: لا وجود في الإسلام لسُلطة دينية: ولا واسطة بين الإنسان وربه ولا شفيع له عند الله إلا ميزان عمله في الحياة الدُنيا المحكوم بنواياه، وما الرسُول الكريم إلا مُذكر، ونذير، وبشير، ومُبلغ رسالة ومُؤدي أمانة، كما أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يجعل لأحد من أهله ولا من المُسلمين عندما قبض أي سُلطة أو هيمنة أو حل أو ربط، وأنَّ ليس لمُسلم مهما علا على أخيه المُسلم سوى حق النصيحة والإرشاد والموعظة الحسنة تنفيذًا لكلام الله سُبحانه وتعالى: “وتواصوا بالصبر”، و “ادعُ إلى سبيل ربُك بالحكمة والموعظة الحسنة”، و”لتكن منكم أُمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المُنكر وأُولئك هم المُفلحون”.
سادسًا: اعتبار الإسلام العفو والمُسامحة أساس السُلوك الإنساني: حيثُ إنَّ التشدد والتفكير والقتل كما يحلو لبعض الجهلة أنْ يشيعوا لا يكسب ود الناس، ولا يميل بهم إلى الخير والطيبة؛ بل على العكس يقسي القُلُوب ويزرع الشر ويبذر الأحقاد، فيُخاطب الله سُبحانه وتعالى خير خلقه النبي العربي الأُمي بقوله: “خذ العفو وأمُر بالعرف وأعرض عن الجاهلين”، وما قتال الآخرين وإيقاع الضرر بهم إلا بشرعية الدفاع عن النفس والذود عن الحق حتى يعُود المعتدون عن شرهم وتعود الحُقوق إلى أهلها، ولم يُشرع القتال إلا للدفاع وليس للإكراه
على الدين أو الانتقام من مخالفيه ولا للاعتداء على الناس “إن الله لا يُحب المعتدين”
(طه، 2007م، ص171-174)؛ (ملكاوي، 2020م، ص30).
أهداف الفكر التربوي الإسلامي
أولًا: أهداف الفكر التربوي الإسلامي على مُستوى الفرد
- تهدف التربية الإسلامية بمُختلف مؤسساتها والقائمين عليها في البيت والمسجد والنادي والمُجتمع، إلى العمل على تكوين العقيدة الصحيحة في الإنسان، وذلك يكون من خلال إيمان الإنسان بالله تبارك وتعالى بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وأنْ يُؤمن بملائكته وكُتُبه ورُسُله واليوم الآخر وما فيه من بعث وحشر ونشر وحساب وميزان، وصراط، وجنة ونار وثواب وعقاب وسائر السمعيات والأُمُور الغيبية أنْ يُؤمن بقضاء الله وقدره، ذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى يدعو عباده في القرآن الكريم إلى معرفته والإيمان به من خلال التفكير في آياته وتدبُرها، يقول عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وكذلك يُؤمن الفرد بأنه مُكلف، وأنَّ الله كرّمه وفضله على كثير ممن خلق، وأنه مُهيّأ للطاعة إنْ أراد، وللمعصية إنْ أغواه الشيطان، وأنَّ الله تعالى قد أخبر عن الإنسان وعن نفس الإنسان، فقال: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾، وكذلك فإنَّ الفكر التربوي يهدف إلى توجيه الفرد إلى أنْ يعتقد في الشيطان أنه عدو مُضل للإنسان، وأنه تعهد أمام الله تعالى أن يضل الإنسان إلا مَن هداه الله وأن يأمُر بالفحشاء والمُنكر، ويَعِد بالفقر ويشجع على معصية الله سبحانه.
- تربية الفرد على معرفة الغاية من خلقه، وهي العبادة، فهي غاية التذلل ولا يستحقها إلا الله تبارك وتعالى، وعبادة الله بالقلب هي الإيمان به سبحانه وتعالى، وأما عبادته باللسان، فهي النطق بشهادتي التوحيد، وذكر الله؛ أي تسبيحه وتحميده وتكبيره وتعظيمه، وأما عبادته سبحانه وتعالى بالجوارح، فهي الأعمال التي أمر الله بها، وامتثال الإنسان لأمر الله تعالى فيها بالجوارح؛ كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والعمل، والجهاد في سبيل الله.
- إعداد الإنسان الصالح القادر على عمارة الأرض وترقيتها على وفق المنهج الإسلامي الصحيح، والتربية الإسلامية في إعدادها للإنسان الصالح، لا تترك الناس يتخبطون كل منهم برسم الصورة على هواه، وإنما يتم تحديد مواصفات لهذا الإنسان الصالح بكل دقة ووضوح، ويرسم لهم المنهج الذي يسيرون على هديه في إعداد هذا الإنسان، قال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾؛ فالتربية الإسلامية تستهدف تعليم الناس كيف يعمرون الأرض، فهو مَن صمم العلوم التي تسعى التربية الإسلامية إلى تعليمها للناس.
- تهدف التربية الإسلامية إلى تهذيب السُلوك الإنساني، وجعله يسير على المنهج الإسلامي، فيكون الفرد المُسلم مُستقيمًا في كل أُموره، ويعرف واجباته، فيكون صادقًا في قوله، مُتسامحًا مع الناس، ولا يرد السيئة بمثلها، وحريصًا على أنْ يعمل ويكسب حلالًا، ويُنفق ماله في حلال الله سبحانه وتعالى، ومُعتدلًا في كُل تصرفاته، ولا يشهد الزور، ولا يقول إلا الحق ولا يحكم إلا بالعدل، ولا يخون الأمانة، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾؛ أي لا تخونوا الله بأنْ تعطلوا فرائضه، وتخونوا الرسُول بأنْ لا تتسننوا بسننه، ولا تخونوا أماناتكم بأنْ لا تحفظوها فيما بينكم، وهكذا فإنَّ الفكر الإسلامي يهدف إلى أنْ يكون الفرد المُسلم مُتصفًا بالأخلاق الحميدة التي توصله إلى السعادة، والرضا، كما يجعله يعفو عن المسيء، ويعطف على الفقراء المُحتاجين، ويُعامل الناس بالحُسنى، قال تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، فلا يجعل غضبه على الناس، ويكف عنهم شره، ويحتسب ذلك عند الله عزّ وجل، ويعفو عمن ظلمه مُعتقدًا في نفسه أنَّ الله يعزه، ولا شكَّ أنَّ السُلوك الذي تسعى التربية الإسلامية إلى تهذيبه هو ترجمة عملية للخلق وبه يقوم الفرد المُسلم، فالأخلاق جزء من العقيدة الإسلامية، والسُلوك الأخلاقي جزء من نظام الكون المُستمد من الخالق سبحانه وتعالى، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “أكمل المُؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا”، ويقول صلى الله عليه وسلم: “ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسن الخُلُق”، وبالأخلاق الفاضلة فإنَّ الإنسان يرتقي إلى مراتب عُليا، ويكون مُقربًا من الله لينال مرضاته، ويُجازى بأحسن الجزاء لينال السعادتين في الدُنيا والأخرة.
- تهدف التربية الإسلامية إلى تنمية روح الولاء لشريعة الإسلام، وذلك بالبراء من كل مبدأ يخالف ما جاء به خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وأنْ يعلن الفرد اعتزازه بالانتماء للإسلام ولا يخجل ولا يتوارى، بل يشعُر بالعزة لأنه ينتمي لهذا الدين الحنيف، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
- تهدف التربية الإسلامية إلى تكوين شخصية قوية، تتمتع بحماسة عالية وهمة فائقة، يتحرك من خلالها الفرد لخدمة الإسلام من تلقاء نفسه دون أنْ يكون بحاجة لمن يدفعه لأي عمل، ويعرض رأيه بثقة ولا يتنازل عن الحق، ويُقنِع بهذا الرأي مَن حوله حتى يعملوا معه في طريق الخير، ولا يشعر بعقدة النقص فيضطر إلى تقليد أقرانه من المجتمع الغربي، دائمًا يبحث عن الأفضل، ويرتقي بالأعمال إلى مُستويات أعلى وأرقى، ويبحث عن الحُلول للعقبات والمشكلات التي تُواجهه في طريق عمله للإسلام، ولا يستسلم بسهولة أمام التحديات، وبهذه الشخصية القوية يستطيع الفرد المُسلم أنْ يواجه المصاعب والتحديات التي تواجه دافعه في ذلك خدمة الإسلام وعبادة الله طالبًا منه العون والقوة، وأنَّ الفرد المُسلم لا حول له ولا قوة إلا بالله سبحانه.
- تسعى التربية الإسلامية بأنْ لا يكتفي بمُجرد تزويد المُتعلم بالعلم، وإنما يزيد عن ذلك أنْ يمكنه من التسابق في العلم والاكتشاف والاختراع، من أجل تكوين العقلية العلمية التي تتخذ من التفكير المنهجي وسيلة للنُهوض والرقي بالأمة الإسلامية، يقول الله تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾، حيثُ إنَّ التعليم هو مفتاح التنمية في المجالات كافة؛ الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وهذا التعليم لا يتحقق إلا بأنْ يُحسن الفرد استغلال طاقة العقل، ويستثمر قُدُراته بأكمل صورة، فتبصير المُتعلم بالعلاقة بين مفردات الكون، ليخدم بعضها بعضًا، ولتكون جميعًا في خدمة الإنسان، سيؤدي ذلك إلى أنْ يتكون لديه بصر صحيح وبصيرة واعية لهذا الكون، قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾.
وتضيف الباحثة لِما سبق أنَّ العناية بالجسم الإنساني وتنمية المهارات الحركية والإلمام بالصناعات، والاهتمام بتعلم اللغة العربية، وذلك بالتعود على الحديث بالفصحى، والنطق السليم لحروفها وتعزيز الثروة اللغوية؛ مما يمكننا من التعبير بسهولة عن أفكارنا، وهذا أسمى أهداف التربية الإسلامية.
ثانيًا: أهداف الفكر التربوي الإسلامي على مستوى المجتمع
- تهدف التربية الإسلامية إلى أنْ يكون للمجتمع المُسلم كيانا واحد لا يتجزأ، ولهذا فقد شبهه صلى الله عليه وسلم بالجسد إذ يقول: “مثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى”، فتُحاول التربية الإسلامية أنْ تجعل المُجتمع المُسلم مجتمعًا تسوده المحبة والإخاء والتعاون والتعاطف والتواد والإيثار قال صلى الله عليه وسلم: “لا يُؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه”.
- تسعى التربية الإسلامية إلى تهذيب الفُروق الفردية بين الأفراد في المجتمع من خلال العبادات التي يُؤدونها امتثالًا لأمر الله، فيقف المُسلمون في الصلاة صفًا واحدًا لا فرق بين غني ولا فقير أو شاب أو كبير كُلهم يقتدي بالإمام، فيُقدم فيه الغني نسبة محدودة من ماله للفقير يستأصل معها الشحناء والبغضاء التي يُسببها العوز والفقير، وأما الصيام فالكُل ممسك عن الطعام، فعندما يجوع يشعر بإخوانه الفقراء عندما يجوعون ولا يجدون ما يسد رمقهم، وغير ذلك من العبادات التي تربي المُسلم وتعلمه بأنه ليس بأفضل ولا أكرم من أخيه بماله أو منصبه أو جاهه أو لونه أو غير ذلك إلا بتقواه وبقرب منزلته من الله، فالفرد المُسلم في المجتمع المُسلم متساوٍ في كل شيء أمام الناس، وكذلك أمام الله إلا في تقواه.
- الوُصول إلى العامل الذي يصون المجتمع من الضعف، بحيث يكون أشبه بالانسجام بين وحدات البناء ولبناته، وهذا العامل يُسمى “التكافُل”، وهو ضروري في بقاء البناء؛ أي بقاء المجتمع قويًا مُتماسكًا، ويَحول دون تدهور المجتمع أو تفككه، والتكافل في المجتمع لا يعطي هذا الأثر إلا إذا نشأ الأفراد عليه وتربوا في المنزل والمدرسة والمسجد والمجتمع، وصورة التكافل أنْ يكمل الأفراد بعضهم بعضًا في المجتمع، فالقوي بصحته، أو ماله، أو جاهه يعاون الضعيف أو العاجز، قال صلى الله عليه وسلم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدُ بعضه بعضًا”.
- تكوين المجتمع المنتمي إسلاميًا، وهو انتماء ضروري لتكامل شخصية المُسلم القادر على التفاعل مع الناس والأحداث، ولا بُدَّ أنْ يكون هذا الانتماء صحيحًا وفاعلًا ومُحققًا للهدف، وعلى هذا الأساس فإنَّ التربية الإسلامية تحرص على تربية المُجتمع على أنْ تكون انتماءاته إسلامية، يتضح ذلك في عبادته، وفي ملبسه، وأخلاقه، وتعامله بين أبناء مُجتمعه من جهة، وبينه وبين أبناء المُجتمعات الأُخرى من جهة أُخرى، وهكذا يندمج الفرد في مجتمعه ثم في أمته الإسلامية الكبيرة على مُستوى العالم الإسلامي كله؛ ذلك أنَّ جميع المُسلمين أُمة واحدة، قال سبحانه وتعالى: “إن هذه أُمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون”.
- تهدف التربية الإسلامية إلى أنْ يُعد كل إنسان في المجتمع الأُسلوب الذي يُناسبه، ويعترف بواقعه أو يُحاول أنْ يُعالجه، ويعمل على تحسين هذا الواقع بجعله مُطابقًا لِما أمره الله تعالى، وأنَّ الدعوة إلى الله تعالى تتدرج من الضلال إلى الهُدى، فهي دعوة تتجه إلى غير المُسلم ليدخل ساحة الإسلام وإلى رضوان الله تعالى (الشلال، 2013م، ص68).
أهمية الفكر التربوي الإسلامي
- تشكل التربية الإسلامية العملية أفرادًا صالحين، وتعدهم إعدادًا في مجتمع مُعين وزمان ومكان معينين حتى يستطيعوا إكساب المهارات والقيم والاتجاهات وأنماط السُلوك المُتنوعة التي تيسر لهم عملية التعامل مع البيئة الاجتماعية والمادية التي ينتمون إليها.
- تُعَد التربية الإسلامية تراكمًا من النُضج عبر العُصُور وجهدًا متواصلًا على مرّ الأيام للتطور والتقدم، وقد لا نفقه الكثير من المعاني المُتعلقة بتراث التربية الحديثة إذا لم نرجع إلى أُصُولها وجذورها، وإذا لم نتبين كيف ولدت وتكونت خلال الإرث الحضاري الذي تنتسب إليه.
- التربية الإسلامية لا توجد من فراغ، بل هي وعاء وأساليب وإجراءات ينتقل بها تراث الأُمة من الأجداد إلى الآباء والأبناء وبها تتطور الحضارة عن طريق العُلُوم المُتفجرة والمعارف المُتزايدة على نسق ينسجم مع نظرة الأمة ورسالتها في الحياة.
- تمثل التربية الإسلامية النتاج الثقافي العربي الإسلامي الفكري، وهي رحم الأمة العربية وأصالتها وإنسانيتها، ومواجهتها للتحديات الكُبرى وحدة قائمة على التنوع والتكامل بين أجزائها، وفيها تتجسد شخصية الأُمة ويستلهم أبناؤها الوعي والإيمان.
- التربية الإسلامية والتراث الإسلامي يحملان في طياتهما الرؤية الثقافية الخاصة والمُتميزة للأمة العربية، فالاهتمام بالمُستقبل التربوي العربي يزيد من أهمية التربية الإسلامية والتراث الإسلامي، وأهمية العودة إليهما ويُمثلانه تمثلًا موضوعيًا خلاقًا، فتراثنا التربوي هو أصالتنا التي تضمن لنا الاستمرار والتواصل والتمييز، وكل ذلك يُعين على دراسة قضايانا التربوية المُعاصرة (الزهيري، 2012م، ص17-18).
العوامل المُؤثرة في الفكر التربوي الإسلامي
يرى العديد من العُلماء والمُفكرين التربويين أنَّ شخصية الأمة هي نتيجة لتفاعل العوامل التاريخية والجغرافية والدينية والسياسية والاقتصادية وغيرها، ولا بُدَّ للنظم التعليمية أنْ تتأثر بهذه العوامل وتتفاعل معها، وهي كالآتي:
- العامل الديني: الدين من أهم العناصر التي تُشكل ثقافة أي مجتمع وتُحدد قيم ومفاهيم واتجاهات الأفراد فيها، وأنماط تفكيرهم وعاداتهم وتقاليدهم ووجه نظرهم إزاء الحياة والكون والوجود، هذا وتوضح دراسة الفكر التربوي مدى تأثر المُفكرين والمربين والفلاسفة، وبالتالي النظم التربوية بالعامل الديني، وقد حدث ذلك في أُوروبا المسيحية وفي الشرق الإسلامي.
وتُؤكد الباحثة أنَّ هناك ترابطًا وثيقًا بين العقيدة الدينية وبين التربية مردها إلى الكتاب والسنة، واستنادًا إلى هذين المصدرين جاءت اجتهادات المربين وأفكار وآراء المُفكرين في قضايا ومُشكلات التربية والتعليم في العالمين العربي والإسلامي.
- العامل الجغرافي: تؤثر الجغرافيا والبيئة الطبيعية في طبائع الشُعُوب، وكذلك في أُسلوب وطريقة التفكير التربوي لدى مُفكريها وكتابها، وصُور أنماط نُظم التعليم المُختلفة فيها، وكذلك على شكل وتصميم المباني التعليمية، بل إنَّ حالة الطقس والمُناخ لهما تأثيرهما على دافعية التلاميذ وتعلقهم بقيمة التعليم والمُثابرة في تحصيله، والذي يراجع الفكر التربوي عند فلاسفة اليونان والرومان القُدامى، وكذلك عند مُفكري الشرق الإسلامي وغيرهم، يجد أنَّ هُناك صلة واضحة بين مضمون هذا الفكر وبين الطبيعة الجغرافية التي أحاطت به وساهمت في إنتاجه.
وتضيف الباحثة: أنَّ العامل الجغرافي يُؤثر بشكل مباشر في أفكار العلماء والمُفكرين، حيثُ يعكس البيئة التي يعيش فيها هؤلاء أنماط تفكيرهم، فالمُفكر هو نتاج للبيئة التي يعيش فيها، ويحاول أنْ يعكس مُشكلاتها، ويُعالج قضاياها في كتاباته ومُؤلفاته.
- العامل السياسي: التعليم ليس عملًا تربويًا فحسب، وإنما هم عمل سياسي في المقام الأول لذلك ليس غريبًا أنْ تكون سياسية التعليم في أي مجتمع انعكاسًا لنظامه السياسي وما يتضمنه هذا النظام من قيم ومُعتقدات، وما يُؤمن به من أفكار وتوجهات ونُظم، فإذا كان النظام السياسي الحاكم في مجتمع ما يؤمن بالفلسفة الرأسمالية؛ فإنه يُروج لها في وسائل الإعلام وفي مناهجه الدراسية ومؤسساته كافة، وإذا كانت التربية تستهدف بالدرجة الأولى أن يُحقق الإنسان ذاتيته ويستثمر قُدُراته وطاقاته، فإنَّ درجة مشاركته السياسية مؤشر فهم لمدى تحقيق الأهداف التربوية، وتُعد المُشاركة على هذا الأساس في العمليتين التربوية والسياسية هي العصب الحيوي للممارسة الديمقراطية وقوامها الأساسي، والتعبير العملي الصريح لسيادة قيم الحُرية والعدالة والمُساواة في المجتمع، كما أنها تُعد المشاركة فوق هذا وذاك ارتباطًا وثيقًا بينهما وبين جهود التنمية بصفة عامة، والتنمية السياسية بصفة خاصة، ومن ثُم يُقال إنَّ المجتمع التقليدي يفتقر إلى المُشاركة في حين تتوافر المُشاركة في المُجتمع الحديث، والمُتعلم الذي تقل فيه نسبة الأُمية.
ترى الباحثة: أنَّ العوامل والظروف والخبرة التاريخية هو ما يُمكن أنْ تقوم به السياسة للتعليم من عوامل ازدهار ونُهُوض أو عوامل ضعف وهبوط وانحدار.
- العامل الاقتصادي: تُشكل الجوانب الاقتصادية في أي مُجتمع محورًا أساسيًا تقوم عليه حياة الناس بمُختلف صُورها وأشكالها، والعامل الاقتصادي يتعلق بنوعية الأنشطة التي يُمارسها السُكان في مجالات العمل والإنتاج والموارد المادية والبشرية التي يمتلكها المجتمع لتحقيق أهداف النظام الاقتصادي، كما وتُوجد علاقة وثيقة بين النظام الاقتصادي والنظام التعليمي، فالتربية عُنصُر مُشترك بين جوانب التنمية المُختلفة، ولا بُدَّ من عمل حساب له في كل عملية تنموية سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية، وهي تتأثر إيجابًا أو سلبًا بجوانب التربية المُختلفة (الخزاعلة وآخرون، 2012م، ص14-18).
يتضح مما سبق أنَّ مُعدلات النمو الاقتصادي تُعد عاملًا مهمًا في تشكيل الفكر التربوي الإسلامي، والذي يُؤثر بدوره في طبيعة عمل المؤسسات التربوية.
المصادر والمراجع
الخزاعة وآخرون، محمد. (2012). تطور الفكر التربوي، ط1، عمان، الأردن: دار صفاء للطباعة والنشر والتوزيع.
الزهيري، عبد الكريم. (2012). تطور الفكر التربوي العربي، ط1، عمان، الأردن: دار صفاء للنشر والتوزيع.
الشلال، قتيبة. (2013). الفكر التربوي الإسلامي المعاصر وسبل تفعيله، ط1، عمان، الأردن: دار الحامد للنشر والتوزيع.
طه، حسن. (2007). الفكر التربوي المعاصر وجذوره الفلسفية، عمان: دار المسيرة للنشر والتوزيع.
ملكاوي، فتحي. (2020). الفكر التربوي الإسلامي: مفاهيمه، ومصادره، وخصائصه، وسبل إصلاحه، ط1، عمان، الأردن: دار الفن.
نص أكثر من رائع جزاكم الله عنا كل خير
مقال رائع