يسعى الأساتذة والمختصّون في مجال تعليم العربيّة للناطقين بغيرها بشتى السُّبل إلى تيسير تعليم العربيّة للدّارسين من مختلف أنحاء العالم، وإعانتهم على اكتساب عناصرها ومهاراتها بأيسر الطّرق وأنجعها؛ بغية تحقيق الغاية من تعلّمها، وهو التّواصل بها، وإنتاجها منطوقة أو مكتوبة. ومن هنا ظهرت العديد من الاتّجاهات والاستراتيجيّات والنّظريات ومنها نظريّة تداعي المعاني.
التّداعي في اللّغة هو توارد أو تواتر الأفكار واستدعاء بعضها بعضاً (1). وينبثق مصطلح تداعي المعاني في الأصل من نظريّة التّداعي في علم النّفس. ويشير التّداعي في علم النّفس إلى الاتّصال العقليّ بين المفاهيم والأحداث والحالات العقليّة التي تنشأ عن تجارب معيّنة (2). وقد أفادت منها العديد من المدارس الفكرّية في علم النّفس من ناحية التّحليلات النّفسيّة والسّلوكيّة وغيرها. أمّا في علم النفس الحديث فيتركّز عملها في مجالات الذّاكرة والتّعلم (3).
وتوضّح هذه النّظرية الطّريقة التي يتعلّم بها النّاس الأشياء، عبر ثلاثة قوانين رئيسة هي: قانون الاستمراريّة أو الاقتران، وقانون التّشابه، وقانون التّضاد)4).(5)
ويشير قانون الاستمراريّة إلى ارتباط التّداعي العقليّ بحدوث فعلين في وقت واحد أو زمان متقارب جداً. كأن يقوم المعلّم بتصحيح الاختبار بعد انتهاء التّلاميذ منه، فيستطيع الطّلبة ربط الإجابات الصّحيحة بالأسئلة، في الوقت الذي يكون فيه الاختبار حديث العهد بذاكرتهم لقرب وقت التّصحيح من الاختبار.
أما قانون التّشابه فيشير إلى وجود احتمال كبير بأنّ هناك صلة بين شيئين أو شخصين متشابهين لحدّ كبير. كأن ترى شخصًا يذكّرك بشخص آخر تعرفه لوجود تشابه بينهما في ملامح الوجه. أو أن ترى طفلًا يشبه ملامح أبيه أو أمّه.
ويشير قانون التّضاد إلى أنّ الأشياء المختلفة ترتبط ببعضها عادة؛ إذ يمكن الرّبط بين حارّ وبارد أكثر من الرّبط بين حارّ ودافئ مثلًا.
ولا شكّ في أنّ مقدرة الأشخاص على فهم التّشابه والاختلاف بين الأشياء مهمّة جدًا في العمليّة التّعليميّة، لا سيّما تعليم اللّغة، فهي وعاء العقل وأداة نقل محتواه.
ولعلّ استثمار هذه العلاقة الوظيفيّة بين الأشياء والمُدركات والكلمات المعبّرة عنها يسهّل تعليم اللّغة، ومنها تعليم العربيّة للنّاطقين بغيرها. إذ إنّ ربط عناصر اللّغة المختلفة؛ صوتًا، ومفردة، وتركيبًا بقرائن دلاليّة محسوسة أو مجرّدة وسيلة فعّالة في نجاح تعلّم اللغة وتعليمها للنّاطقين بغيرها. وتحسين قدرة الطّلبة على أداء مهاراتها المختلفة الاستقباليّة منها والإنتاجيّة.
تداعي المعاني في تعليم عناصر اللّغة
يمكن للمعلّم أن يستثمر علاقات تداعي المعاني؛ كالتّشابه، والتّضاد، والاقتران الزّمانيّ أو المكانيّ في مراحل تعليم اللّغة المختلفة، بدءًا من شرح الكلمة وتوضيح معناها، وانتهاء بإنتاج اللّغة مكتوبة أو منطوقة.
فإذا أراد أنّ يعلّمهم كلمة جديدة، فإنّه يذكر الكلمات التي تثيرها في الذّهن هذه الكلمة. كأن يعلّمهم كلمة عائلة بذكر الكلمات المتعلّقة بها مثل (أب، أم، ابن، ابنة..)، أو يمكن أن يختار حقلاً دلاليًّا معيّناً، ويطلب إلى الطّلبة ذكر كلّ ما يتعلّق بهذا الحقل الدّلاليّ. فيستذكر فيه الطّلبة المعاني والمفردات المرتبطة بهذا الحقل، ويوسّع الأستاذ دائرة هذا الحقل بما يخدم صفّه وهدفه.
وتصلح هذه الطّريقة مع المستويات جميعها: المبتدئة والمتوسّطة، والمتقدّمة. فحقول المستوى المبتدئ المرتبطة بالذّات والعائلة، وحقول المستوى المتوسّط المرتبطة بالرّوتين اليوميّ والمجتمع الذي يعيش فيه المتعلّم، وحقول المستوى المتقدّم التي تتّجه إلى التّجريد أكثر وترتبط بالعالم الكبير بقضاياه المختلفة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة، جميعها يمكن تعلّمها وإثراؤها باستخدام تداعي المعاني الذي يجعل اللّغة مطواعة في استحضارها واستخدامها وتعلّم المزيد منها؛ باستثمار علائق الاقتران أو التّشابه أو التّضاد. إذ تتّصل معاني هذه الحقول ومفرداته في ذهن المتعلّم ببعضها بعضًا بوصفها سلسلة مترابطة، وتكوّن صورة ذهنيّة واضحة المعالم يستدعيها الطّالب كلّما احتاج إليها في أيّ موقف حياتيّ.
ويوظّف الأستاذ تداعي المعاني المقترن بالزّمان أو المكان أيضًا؛ إذ تتّصل مجموعة من المعاني لحدوثها في زمن واحد، فالعيد مثلاً؛ يذكّر بالعائلة، والهدايا، والزّينة، والكعك، والاحتفالات وغيرها. وفصل الشّتاء يذكّر بالمطر، والثّلج، والرّياح، وأنواع الملابس الخاصّة في هذا الفصل، والتّزلّج، والرّجل الثّلجيّ، ومصادر التدفئة المختلفة وغيرها.
وتتّصل بالمكان مجموعة من المعاني أيضًا؛ فالسّوق يذكّر بالمحلات والبائع والزّبائن، والشّراء، والنّقود، والبضائع والأمتعة المختلفة. والبحر يذكّر بالمياه، والأمواج، والسّفينة، والقارب، والأسماك، والسّباحة، والشّاطئ وغيرها.
ويمكن أن يمثّل الأستاذ هذا التّداعي بعدّة أشكال؛ كأن يرسم شجرة جذورها الحقل الدّلاليّ، وفروعها الكلمات المتّصلة بهذا الحقل. وقد يرسم شمساً في وسطها الحقل الدّلاليّ، وأشعّتها تمثّل الكلمات المتّصلة بها، أو مصفوفة طوليّة أو عرضيّة أو قاطرة أو غيرها. وقد يستخدم صورة أو فيديو صامتًا أيضًا. يبتكر الأستاذ في ذلك ويبدع حسب موضوع الحقل الدّلاليّ ومحتوياته.
وعبر قوانين نظرية تداعي المعاني يربط الأستاذ بين المتشابهات؛ فكلمة ميزان تُذكّر المتعلّم بصورة الميزان الذي يرمز للعدالة، ويذكّره بميزان الحرارة، وكذلك الميزان المُستخدم لقياس الوزن، والميزان المستخدم في المحلّات التّجاريّة. ويمكن أن يتوسّع به الأستاذ حسب مستوى طلبته؛ فيتطرّق إلى الموازنة بين الأشياء والأحداث والأشخاص، ويتطرّق إلى الميزانيّة العامّة للدّولة وغيرها من السّياقات والحقول التي تنتجها علاقة التّشابه في الجذر، أو الجذر والوزن معاً.
ويمكن أن يربط الأستاذ بين المتضادّات أيضًا، ليسهّل تعلّم اللغة ويزيد من حصيلة الطّلبة اللّغويّة. فالمعاني المتضادّة تتداعى إلى الذهن عادة محسوسة أو مجردة. فطويل تذكّر بقصير، وكبير تذكّر بصغير، والصّدق يذكّر بالكذب، والكريم يذكّر بالبخيل وغيرها الكثير. وكثير من الطّلبة يهتمّون بمعرفة عكس الكلمة التي يتعلّمونها، ويسألون عنها لحاجتهم إلى استخدامها، وليوسّعوا معجمهم اللّغويّ وحصيلتهم من اللغة المُتعلّمة.
وقد يربط الأستاذ أصوات العربيّة بقرائن صوتيّة لا سيّما الأصوات الحلقيّة والحنجريّة مثل: الخاء، والغين، والقاف التي يصعب على متعلّمي العربيّة النّاطقين بغيرها نطقها بسهولة من مخارجها الصّحيحة. وكذلك الأصوات المتقاربة في المخرج مثل: السّين والصّاد، الثّاء والذّال. فيربط صوت الغين بصوت الغرغرة بالماء، ويربط صوت القاف بقوقاة الدّجاجة أو بنقنقتها، ويمكن أن يربط صوت الخاء بصوت الشّخير وهكذا.
توظيف تداعي المعاني في تعليم مهارات اللّغة
لا شكّ في أنّ لتداعي المعاني أهميّة كبيرة وفائدة عظيمة للتدرّب على أداء مهارات اللّغة، وتحسين إنتاجها المنطوق أو المكتوب، لا سيّما في مرحلة التّمهيد والإعداد لدروس المهارات. حيث يمكن أن يبدأ الأستاذ درس المحادثة بتمرين يوظّف فيه تداعي المعاني لموضوع نشاط المحادثة، وبذلك يستدعي المفردات والتّراكيب والأساليب المناسبة للموضوع وغيرها من متعلّقاته؛ ليتذكرها الطّلبة ويوظّفونها في إنتاجهم الشّفهيّ، سواء أكان على شكل حقل دلاليّ أو صورة أو فيديو أو سؤال وجواب عن مفردات وأساليب يمكن أن يوظّفوها في درسهم ويخدم هدفهم. في حوار ثنائيّ، أو موقف تمثيليّ، أو نقاش في مجموعات، أو تقديم فرديّ وغيرها من أنشطة المحادثة. فإنتاج اللّغة لا بدّ أن يسبقه تهيئة وإعداد يشمل: التّعلّم والاكتساب أولاً، ويتبعه التّدوير والاستذكار والتّكرار لتصبح عناصر اللّغة ومهاراتها جزءًا من مخزون الطّالب اللّغويّ وحصيلته الرّاسخة، يستحضرها حين يحتاجها في إنتاجه اللّغويّ؛ منطوقاً أو مكتوباً. وهذا الأمر ينطبق على مهارة الكتابة أيضًا؛ إذ إن استحضار عناصر اللّغة وأساليبها لإنتاج نص مكتوب يراعي متطلّبات مستوى الدّارس اللّغويّ، ويؤدّي الغرض منه، يحتاج إلى تداعي المعاني والأفكار والأساليب، وكلّ ما ييسّر على الدّارس إنتاج اللغة مكتوبة ضمن محددات المستوى ومتطلباته، ويحقّق الهدف من نشاط الكتابة الذي أراده الأستاذ.
كما يمكن أن يوظّف الأستاذ تداعي المعاني في درس القراءة، فيستحضر معارف الطّلبة السّابقة حول موضوع درس القراءة؛ ليتمكّن من ربطها بالمعرفة الجديدة التي سيكتسبها من نصّ القراءة الجديد. واستدعاء المعاني المتّصلة بموضوع النّص؛ مفردات، وأساليب، وصور ثقافية وغيرها، يبني صورة ذهنيّة عند الطّالب تيسّر عليه استقبال عناصر اللّغة الجديدة ومهاراتها التي سيكتسبها أو يطّور أداءه فيها عبر درس القراءة. وقد يكون هذا التّداعي عبر الحقل الدّلاليّ لموضوع نصّ القراءة، أو بعرض صورة أو مجموعة من الصّور ذات محتوى مترابط، أو تمثيل شخصيّة معروفة بالنّسبة لهم واستدعاء المعلومات حولها وغيرها من الوسائل التي تثير تداعي الأفكار والمعاني حول نصّ القراءة. وكذلك الأمر بالنسبة لمهارة الاستماع التي يستقبل فيها الدّارس اللغة مسموعة. ولنجاح تلقي هذا المسموع والإفادة من محتواه، لا بدّ أن يسبق ذلك إثارة للصّورة الذهنيّة لدى المتعلّم حول موضوع الاستماع ومحتواه، بتداعي الأفكار والمعاني؛ تيسيرًا على المتعلم، وتسهيلًا لتحقيق الهدف من نشاط الاستماع.
وعليه فإنّ لتداعي المعاني فائدة تُجنى في صفوف تعليم العربيّة للنّاطقين بغيرها، ويمكن استثماره عبر قوانينه المختلفة؛ كالتّشابه، والتّضاد، والقرائن التي تساهم بالضّرورة في توسيع حصيلة الدّارس اللّغويّة، وتسهيل استحضارها في المواقف اللّغوية المختلفة واستدعائها عن الحاجة إليها، وتيسير تعلّم اللّغة وأداء مهاراتها استقبالاً وإنتاجًا.
المراجع :
- Almaany https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D9%8A//. [Accessed 27 December 2022]
- Klein, Stephen (2012). Learning: Principles and Applications (6 ed.). SAGE Publications. (ISBN 978-1-4129-8734-9).
- Kintsch, W. (1970). Learning memory and conceptual processes. New York: Wiley. Kintsch, W. (1977). Memory and cognition. New York: Wiley
- Dictionary of the History of Ideas: Association of Ideas. https://etext.lib.virginia.edu/cgi-ocal/DHI/dhi.cgi?id=dv1-19. [Accessed 29 December 2022]
- Boring, E. G. (1950). A History of Experimental Psychology, (2 ed.). Copyricht.by Appleton- Century- Crofts, INC. New York. Meredith Corporation. 75-79
اشكركم على هذا الموضوع،
الحمد لله، انا شخصيا امارس تداعي المعاني في حصة القراءة