هذا المقال بعنوان: ”مؤسس علم الاجتماع العلامة عبد الرحمن بن خلدون’‘ هو الأول من سلسلة مقالات حول إطلالة على نخبة من علماء التربية العرب، ينشرها الدكتور إيهاب إبراهيم السيد محمد حصريا على صفحات تعليم جديد.

    في الغالب الأعم عندما نتحدث عن علماء التربية يتم إحاطة الكلام بهلالتين حول المربين الذين انقطعوا إلى التربية وتفرغوا تمامًا لها ولكننا يجب أن ندرك أن ثمة أصنافا أخرى من البشر من الفلاسفة، وعلماء الاجتماع، ورجال العلم، والروائيين، والشعراء في كل زمان ومن شتى الثقافات، قد كان لهم إسهامات مثمرة في التربية.

فهيا بنا نبحر في هذا العالم ونتعرف على مجموعة من المؤثرين على التربية العربية ومن أهم علمائها في هذا المجال.

إن تعريف التربية داخل محتويات علم الاجتماع الخاص بابن خلدون المؤسس الفعلي لهذا العلم والذي تناول بعبارات محددة وإشارات واضحة اعتبرت هي الأساس في ذلك العلم في مقدمته الشهيرة باسمه، يبدو لي لأول وهلة أن به بعض الغموض واللبس.

فما يتم طيه اليوم تحت راية التربية وأعني هنا تنشئة الجماعات والأفراد على كل المستويات، مستوى القيم على حد السواء مع مستوى المهارات والمعارف مبعثر شيئا ما في كتاب مقدمة ابن خلدون، كما أنه لم يستخدم مفهومًا محددًا للحديث حول التربية.

إن الشروحات والتفسيرات والمعالجات التي يضعها ابن خلدون للتعليم تندرج ضمن عرضه المفسر حول العلوم، هذا العرض الذي ينفتح على نظريات المعرفة وعلى مد عام للأسس الاجتماعية التاريخية لتطور العلم، ثم اتجه ابن خلدون إلى تصنيف العلوم إلى:

العلوم المنطقة: وهي التي يستطيع الإنسان فهمها بحكم طبيعة عقله البشري.

العلوم الطبيعية: تلك المبنية على السلطة بحسب ابن خلدون.

فيذهب ابن خلدون إلى وصف وشرح تلك العلوم من حيث موضوعاتها، وأساليبها ونتائجها وتطورها التاريخي ويبدأ بالتعليم في نهاية هذه العملية وقبل الدروس المخصصة للغة وتعلمها.

ويمكننا أن نميز بين شقين في عرض ابن خلدون لتلك العملية:

الأول: يتحدث عن المبادئ التربوية.

الثاني:  يتناول بالشرح طرائق التعليم ومضامينه.

بحسب ابن خلدون يولد الإنسان مجردا من كل معرفة فهو في مرحلة المادة الأولية ثم يشرع في تحقيق شكله تدريجيًا بفضل المعرفة التي يكتسبها بواسطة أعضائه، فالإنسان الجاهل في جوهره، لا يحقق ذاته كإنسان إلا بالمعرفة.

ويتعرض ابن خلدون لثلاثة أنماط من المعرفة تقابل ثلاث درجات من الفكر:

• معرفة نظرية لكل ما هو موجود في العالم من حوله يكتسبها الإنسان بفضل إعمال “عقله التأملي” وهذا النهج من المعرفة هو باختصار منهاج العلوم المختلفة والتي تفسح للإنسان المجال لمحاولة بلوغ كمال النفس.
• معرفة عملية وهي نتيجة طبيعية لإعمال ” العقل المتبصر” الذي يتيح له أن يتصرف فيما يواجه من مواقف تصرفًا منتظمًا.
• معرفة لما ينبغي فعله ولا ينبغي فعله ويكتسبها الإنسان بفضل إعمال “عقله الاختباري” وهي تقوده في علاقاته مع الآخرين وتجعله يميزبين ما هو خير وما هو شر.

وينجم عن تدريس العلوم ضرورة مزدوجة:

إن إتقانها يتطلب أولا تعلمًا طويلا ولا يتم ذلك إلا بمساعدة من الآخر وأعني هنا المدرسين.

إن تنميتها بالذات تقضى من ناحية أخرى أن يتم تبادلها مع الآخر وأعنى هنا أن تنقل إلى الغير.

يشير ابن خلدون أن الغاية من كل فعل تربوي هو محاولة إحداث حالة ثابتة في النفس، لا تزول بعد إكتسابها ويقارنها ابن خلدون بالصبغات على الأقمشة فأصبغة لا تمحى من على قطعة القماش إلا بتلف قطعة القماش نفسها.

ويحدثنا ابن خلون عن أمر بالغ الأهمية ألا وهو الملكات. يقول ابن خلدون أن جميع أصناف الملكات جسدية حكمًا، وهذا يعني أن الملكة هي شيء لا تستطيع النفس اكتسابه إلا من خلال وجود الحواس.

في مقابل صنف آخر من المعرفة خاص بفئة محددة من البشر لا يمكن بلوغه إلا من خلال تأمل النفس بقدرات معينة لتلك الفئة.

ونشأة الملكة تقتضي بادئ بدء أمراً في غاية الأهمية ألا وهو تكرارًا مستمرًا إلى أن يتثبَت شكلها ومن أجل الحصول على أعلى درجة من الفاعلية، ينبغي أن تتم هذه العملية بالمباشرة المستمرة.

ويرى ابن خلدون أن للنفس استعدادًا محدودًا إلى حد ما، فهي لا تستطيع أن تستقبل عدة صبغات دفعة واحدة؛ وعندما تستقبل واحدة من الصبغات فإن قدرتها على استقبال مؤثر لصبغات أخرى تضعف تدريجيًا.

فتنشئة النفس ينبغي إذن أن تتم منذ الطفولة، إذ تكون نفس الطفل صفحة بيضاء خام لأن الأشياء الأولى التي تنطبع في القلوب هي أشبه بالأسس التي تقوم عليها الملكات.

إن لمضمون التعليم الأولي أهمية حاسمة في هذا المضمار، ثم إن ابن خلدون يعارض وبشدة تدريس أكثر من تخصص دفعة واحدة سواء في مجال الصنائع والحرف أو في مجال العلوم، إذ يلاحظ أنه من النادر أن نجد شخصَا يتقن مهنة ويكون قادرًا فيما بعد أن يتميَز في مهنة أخرى وبالدرجة نفسها.

ويشير ابن خلدون إلى عامل مهم آخر في تكوين الملكات، ألا وهو عامل السلطة على المتعلم من قبل من يقومون بتعليمه، فيرى أن للمواقف المتشددة للمعلمين أوخم العواقب لا سيما بالنسبة للأطفال في سن مبكرة وهو هنا يشير إلى أوضاع الرقيق والخدم وكذلك الأمم المظلومة.

إن القسر والإضطهاد يهددان ويهدمان الطباع، ويعملان على إعطال وشلل الطاقة ويؤولان في آخر المطاف، لدى من يخضع لهما، إلى تعطيل قدرتهم على تحقيق غايتهم وإنسانيتهم تمامًا.

يدعو ابن خلدون إذن في هذا الموقف إلى استعمال معتدل للسلطة وإقلال العقاب، أخذا في الاعتبار شخصية المتعلم والحرص على تعليمه من دون قسره وقتل روحه.

والملكات في النهاية لا يمكن توقع فحواها فيمكن أن تكون صالحة أو طالحة، فقد تكتسي شكل سجية أو عيب، خير أو شر، ذوق جيد أو سيئ، كياسة أو خشونة، وضوح وتشدد أو بلبلة واختلاط، كما تتضمن درجات نتيجة لنوعية التعليم المعطى والنماذج المقتبسة، وكذلك للمستوى العام لتطور الحضارة.

فانطلاقًا من المفهوم الذي عرضه للملكة يطرح ابن خلدون مسألة تدريس العلوم، فمن أجل التمكن من مادة تعليمية معينة والتعمق بها، ينبغي كما يقول اكتساب ملكة خاصة تتيح لمتعلمها الإحاطة بمبادئها وقواعدها، والمعرفة المتعمقة بمشكلاتها.

ويقتضي التمكن من تلك الملكة انتهاج نهج صارم يراعي، من جهة، استعداد المتعلم وقدرته على الاستيعاب، ويأخذ في الاعتبار، من جهة ثانية، كمية المعلومات المقدمة للمتعلم ودرجة تعقيد المادة التي يتم دراستها.

ويرى ابن خلدون، أن العملية برمتها يجب أن تحدث على ثلاث مراحل متعاقبة يتم التطرق إليها مع شرح مبسط لأهم النقاط التي تتضمنها كل مرحلة كما يلي:

المرحلة الأولى:

هي مرحلة تحضيرية، هدفها تعريف المتعلم بالمادة التي يتم تقديمها له وتهيئته لإدراك ما بها من مشاكل، يُكتفي هنا إذن بتقديم عرض عام عن تلك المادة، مع التركيز على النقاط الأساسية، وينبغي أن تكون الشروحات والتفسيرات بسيطة وعامة آخذة في الاعتبار استعدادات المتعلم للفهم والاستيعاب والظروف البيئية المحيطة بتلك العملية.

المرحلة الثانية:

هي مرحلة التعمق، يعمد خلالها إلى عملية الإحاطة الشاملة بالمادة دون الاكتفاء بالعموميات، فالشروحات والتفسيرات والتعليقات ينبغي أن تغوص في أعماق تلك المادة، كما ينبغي عرض جميع وجهات النظر المتعارضة ومناقشتها بصورة علنية لتحقيق الاستفادة للجميع..

المرحلة الثالثة:

هي مرحلة التثبيت والترسيخ وصولا إلى التمكَن التام من تلك المادة التي تعاد هنا دراستها بصورة كلية مع التركيز في هذه المرحلة على أكثر النقاط تعقيدًا وصعوبة وغموضًا.

ويشدد ابن خلدون كثيرًا على مبدأ مهم جدًا ألا وهو مبدأ التدرج، وإنه لخطأ كبير من وجهة نظر إبن خلدون، البدء بالمشكلات النظرية المعقدة، على نحو ما يفعل كثير من المعلمين، الذين لا يقيمون أي اعتبار لحالة تهيؤ التلاميذ، وأن لمثل لهذا النهج أوخم العواقب،إذ أن من نتائج هذا النهج أن يتعب التلميذ ويصاب بالإحباط والقنوط، والأسوأ من ذلك اعتقاده بأن الصعوبات التي يصادفها إنما هي ملازمة للمادة التي يتم تدريسها، فينفر منها ويقلع عن دراستها تمامًا.

ويدرك ابن خلدون تمام الإدراك أن تلقين معرفة ما لا يمكن فصله عن تنمية الاستعدادات العقلية الضرورية للاستيعاب. ويكون التلميذ في البدء عاجزًا قطعًا عن فهم أي شيء، ما عدا بعض النقاط النادرة التي لا يدركها إلا على نحو تقريبي بدائي وبعد أن تكون قد شرحت له بواسطة أمثلة مستمدة من الحياة التي يعيشها لتقريبها لأقرب نقطة له.

ثم تشرع هذه الاستعدادات والمهارات في التطور والنمو تدريجيا، فيبدأ التلميذ بالتعرف إلى مشكلات المادة التي يتم تدريسها والتآلف معها، بعد تكرارات متعددة، وبذلك يتنقل من معرفة تقريبية إلى فهم وإستيعاب أكثر فأكثر تعمقًا.

ويرفق إبن خلدون تلك المبادئ العامة بعدد من التوصيات العملية الموجهة إلى كل من المعلمين والمتعلمين.

ومن توصياته إلى المعلمين:

• تقديم مواد تعليمية متماسكة ومتوائمة مع قدرات المتعلمين.
• اعتماد المواد المختارة للدروس والتأكد من فهم المتعلمين لها فهمًا كليًا قبل الانتقال إلى مختارات أخرى.
• التدرج بمعنى تدريس محتوى مادة ثم بعد الانتهاء منها يتم دراسة مادة أخرى.
• عدم الإفراط في إطالة مدة دراسة كل مادة.

ومن توصياته للمتعلمين:

• التركيز التام فيما يدرسونه.
• التعمق في المواد التي يدرسونها.
• تنوع مصادر المعرفة.

أما فيما يتعلق بمضمون التعليم، فإن ابن خلدون قد اكتفى ببعض الملاحظات المستوحاة من حالة  التعليم في عصره، ويندد ابن خلدون بتجاوزات أو عيوب منها:

• العمل الشاق والمرهق المفروض على المتعلم.
• استعمال المختصرات.

لا يبدو التعليم عند إبن خلدون مرتبطا بمؤسسات أو بأماكن محددة، بل يبدو بالأحرى على أنه شأن خاص وفردي على مستوى كل من مكوناته الثلاثة، العلوم والمعلمين والمتعلمين.

يقول ابن خلدون أن النفس الفردية إنما تتحقق في المعارف ومن خلالها، وأن مفهوم العلوم وتنميتها يستجيب أولا لضرورة روحية، وإن كانت العلوم قابلة للتحسين، فإنها تعتبر بمثابة عالم مغلق.

ويرى ابن خلدون أنه مع تقدم الحضارة يزداد الطابع المهني للعلم، فهو ينظم نفسه تبعًا لمبادئ وقواعد ومنهجيات خاصة ويمارس كمهنة.

وحين حاول إبن خلدون استرجاع تاريخ التعليم فإنه ركز على  المعلمين عبر الزمان والمكان، بينما تاريخ العلوم يختصر في جوهره بتاريخ المؤلفات الأساسية التي تم وضعها في كل مادة دراسية.

 

 

---

قائمة المراجع

• سعيد إسماعيل على(1980)،تاريخ التربية والتعليم،القاهرة،عالم الكتب.
• عبد الحميد فهمى مطر(1939)،التعليم والمتعطلون في مصر،الإسكندرية.
• على عبد الواحد وافي(1957)،مقدمة إبن خلدون ،القاهرة.
• ن. هورينى( 1867)، كتاب العبر، القاهرة.