آخر أيام عطلة منتصف العام الدراسي الحالي قمت برحلة لمكان من أعظم الأماكن العلمية على مر التاريخ المكان الذي احتوى قدرا كبيرا من العلم وتم الاحتفاظ به حتى الآن ليكون منارة العلم على مر العصور والذاكرة الإنسانية التي لا تنسى مكتبة الإسكندرية.
وأمام شاطئ الشاطبى بمدينة الإسكندرية تقع مكتبة الإسكندرية وتستقبل زوارها من جميع أنحاء العالم، وكنت أحد الزائرين الذين أبهرتهم المكتبة بما فيها من كتب ومراجع ومخطوطات وكل ما له علاقة بالعلم والتعليم والتعلم وعدت من زيارة الإسكندرية ومكتبتها بمستخلصات كثيرة أروى لكم في هذا المقال بعضًا منها كما يلي:
في البداية يمكننا القول أن الإسكندرية احتلت مكانة الصدارة الأولى في بعض المجالات العلمية والعلوم الإنسانية و منها العلم والأدب والفن في العالم القديم، كذلك احتلت الإسكندرية مكانة عالمية متفردة.
وبموقعها الفريد اجتذبت فرص العمل ومجالات كثيرة للشهرة كذلك صناعة الثروات، ولهذا أتى إليها الكثير من مهاجرين العالم وخاصة من دول الجوار البحري للإسكندرية مثل اليونان.
فلو تتبعنا الإسكندرية في عصرها الذهبي سنجد أنها احتوت على الكثير من العلامات البارزة المؤثرة في تاريخ العالم القديم والحديث.
فمثلاً بنيت في الإسكندرية المنارة الأشهر في العالم ألا وهي منارة الإسكندرية التي كانت من عجائب الدنيا السبع القديمة، ومكتبة الإسكندرية التي نحن بصدد الحديث عنها وما احتوت عليه من كتب ومخطوطات تحدثت عن نظريات علمية عديدة وراسخة حتى الآن في مجالات كثيرة جدًا منها على سبيل المثال:
الفلك والنجوم، والتطبيقات الرياضية والنظريات العلمية الرياضية، والابتكارات الفيزيائية والتكنولوجية، واصول علم الطب والتشريح، والطرق المبتكرة في الزراعة الحديثة، والدراسات الجغرافية المتخصصة، والتاريخ الإنساني منذ القدم، والكثير من المذاهب الفكرية التي غيرت مسار العلم إلى طريق الحداثة.
ولذلك فإن الموثق والثابت أن الإسكندرية ومكتبتها كانت نبع العلم والحضارة منذ القدم وكانت المنارة التي أضاءت طريق العلم لأجيال متلاحقة عن طريق الكثير من المبدعين على مستوى العالم.
ويعد مجال اللغة والأدب والنقد من أهم المجالات التي انفردت به مكتبة الإسكندرية في عصرها الذهبي عن سائر منارات العلم الأخرى في العالم القديم وندلل على ذلك بالمؤلفات التي تحدثت عن المكتبة في هذه المجالات كما يلي:
- كتاب النقد الأدبي في العالم القديم “الجزء الثاني” للكاتب ” آتكنز” عام 1934م.
- كتاب الدراسات الكلاسيكية للكاتب “ساندس” عام 1906م.
- كتاب تاريخ النقد والتذوق الأدبي ” الجزء الثالث” للكاتب ” سينتزبرى” عام 1904م.
داخل المؤلفات الثلاثة السابقة نعثر على دراسات مستفيضة لأهم الإعجازات اللغوية والأدبية والنقدية التي حققتها مكتبة الإسكندرية وهى مؤلفات توضح الدور الفاعل التى لعبته مكتبة الإسكندرية في هذه المجالات.
وكانت مكتبة الإسكندرية تحتوى على الأعمال الأدبية الكلاسيكية التي يحتاجها طلاب اللغة والآدب والنقد وتقسم الأعمال الأدبية داخل المكتبة إلى ثلاث مراحل نقوم بالتعرف عليها فيما يلي:
- المرحلة الأولى: وفيها تمكن الشعراء ودارسو الشعر من إنتاج أعمال أثرت في الكُتاب بصفة عامة والكُتاب الرومان بصفة خاصة إلى حد بعيد، وكانوا أول من وضع قواعد علمية محددة في تحليل النص سواء في مجال النقد الأدبي أو اللغوي، كما كانوا الرواد الأوائل في كتابة السير الذاتية والدراسات النحوية المتفردة.
- المرحلة الثانية: تم فيها انفصال تام للدراسات الأكاديمية عن مضمون الإبداع الأدبي، وأصبحت أكثر تخصصًا مما منحها قوة أكبر وتأثيرًا أكثر على كبار الأدباء والشعراء الذين استناروا بها في كتاباتهم المختلفة.
- المرحلة الثالثة: أدت الاضطرابات السياسية إلى هجرة أغلب الأكاديميين من الإسكندرية ومكتبتها إلى بلاد عديدة أخرى على مستوى العالم وأدى ذلك إلى انتشار أوسع للأفكار الموجودة في المكتبة وذلك عن طريق الأكاديميين الذين عاشوا في مكتبة الإسكندرية إلى جميع أرجاء العالم القديم.
نستخلص مما سبق أنه داخل أروقة مكتبة الإسكندرية تم ابتكار نظريات علمية جديدة في مجالات عدة منها على سبيل المثال النقد الأدبي وخاصة فن الشعر، وكانت النظرية السكندرية تركز في تحليلاتها على الصياغة الفنية للأعمال الأدبية ومدى قدرتها على تجسيد أو تكثيف أو مزج الأهداف التعليمية أو الأخلاقية بسياق هذا الشعر.
وقد تمثلت الاتجاهات السكندرية في الشعر إلى ثلاثة أبعاد:
- البعد الأول: يهتم بالمضمون خاصة المضمون الفكري والاجتماعي والإنساني المناسب للشعر.
- البعد الثاني: يركز على الصيغة المناسبة أو الشكل المناسب المعبر عن هذا المضمون، ومدى تمكن الشعراء من اختيار العناصر أو الأجناس أو الأجزاء المتفاعلة فعلاً داخل هذا الشكل.
- البعد الثالث: يتمثل في التجارب الشخصية الحقيقية التي يمر بها الشعراء أنفسهم ـ ومدى قدرتهم على دمجها في شعرهم ـ.
وقد أدت دراسة هذه الأبعاد الثلاثة إلى إحياء ثلاث قضايا لم يسبق لها أن حُسمت حسمًا أكاديميًا وتقديًا مقنعًا من قبل:
- القضية الأولى: تتمثل في مواجهة الطبيعة الحية وجاءت النظرية السكندرية لتطبقها لأول مرة على الأدب، خاصة فيما يتصل بالعلاقة النسبية بين العبقرية الطبيعية والممارسة الفنية، أو بين الموهبة والصنعة داخل الشعراء.
- القضية الثانية: تهتم بالمضمون الفكري في مواجهة الشكل الفني بوصفه العنصر الاهم من عناصر صناعة الشعر.
- القضية الثالثة: فتحلل المواجهة الشرسة بين العنصر التعليمي وعنصر التسلية أو المتعة داخل الشعر.
وكانت مدرسة الإسكندرية الأدبية والنقدية متعددة الاتجاهات والأنشطة والمجالات التي قامت بتغطيتها بكل جدارة وحيوية وعمق، وذلك في مجالات عدة داخل العلوم الإنسانية وخاصة مجالات التاريخ الأدبي، أو النحو، أو فقه اللغة، أو البلاغة، أو النقد، أو التفسير.
وقد تمتع النقاد والدارسون والشعراء بمميزات عديدة منها دعم الدولة المادي المستمر لهم حتى يتفرغوا تمامًا لدراساتهم وإبداعاتهم، خاصة أن مكتبة الإسكندرية كانت تمدهم بكل الكتب والمراجع القادمة من كل أنحاء العالم، بالإضافة إلى القاعات الدراسية الفسيحة والمضيئة المخصصة للبحث والقراءة.
وقد اشترطت النظرية السكندرية ستة شروط في عملية التفسير الأدبي حتى تصبح مجدية وعلى الوجه الأكمل:
– أولاً: دراسة أصول الكلمات والبحث في جذورها الأولى وتطورها.
– ثانيًا: دراسة القوالب اللغوية والتراكيب اللغوية.
– ثالثاُ: نقد الشعر بموضوعية وتفسير أشكاله الفنية.
– رابعاً: إجادة القراءة بصوت مرتفع مفهوم حتى يتضح التمكن من الإيقاع والوزن الشعرى.
– خامساً: القدرة المطلقة على تفسير المحسنات اللفظية.
– سادساً: شرح الكلمات القديمة والتقاليد والأساليب الأدبية شرحًا مفهومًا.
ولعل أهم دور قامت به مكتبة الإسكندرية في تاريخ الأدب واللغة والنقد، أنها كانت أول من قام بالخروج عن التقاليد الكلاسيكية التي وردت داخل الكتب اليونانية القديمة.
فلم تعتبر القوالب والأشكال الكلاسيكية التي وردت في الكتب اليونانية القديمة مقدسات لا يمكن المساس بها أولا يمكن تغييرها.
وبذلك جعلت مكتبة الإسكندرية نفسها محورًا للتحاور البناء بين القدماء والمحدثين، وسجلت بذلك أول محاولات التطوير في تاريخ الأدب العالمي، وهى المحاولات التي ظلت متجددة حتى عصرنا الحالي، وستظل هكذا بحكم حتمية مواكبة الفكر والفن لعجلة الحياة المتطورة والدائرة دومًا.
وفي السطور التالية سنلقى نظرة على القليل من اهم وأشهر العلماء الذين اجتذبتهم مكتبة الإسكندرية على مر عصورها:
مستشار بطليموس الأول
سوتر من الشخصيات البارزة التي تركت بمكتبة الإسكندرية أثراً ثقافيًا هاماً في فجر حياتها وينسب إليه وضع الترتيب الأول لمكتبة الإسكندرية، فقد جمع نواة المكتبة ويعتبره بعض المؤرخين المؤسس الفعلي لفكرة مكتبة الإسكندرية بأعماله البارزة.
الطبيب العالم
ستراتوس أول من وصف صمامات القلب التي اعتبرها مضخة لدورة الدم، ومارس الطب بالإسكندرية وتزعم حركة الطب الجديد وأسس مدرسة طيبة بالإسكندرية انضم إلى مكتبة الإسكندرية واعتزل مهنة الطب وكرس كل حياته بعد ذلك للبحث.
شيخ شعراء الإسكندرية
كاليماخوس من أبرز كتاب الشعر السكندري، كان أميناً لمكتبة الإسكندرية وينسب إليه أهم عمل ببلوجرافي، وهو تجميع سجلات المكتبة في “120 مجلدًا” لجميع الكتب الموجودة بها.
الجغرافي الأديب
أراتوسثنيس من أكثر علماء القرن الثالث تميزًا تولى رئاسة المكتبة شمل إنتاجه العقلي الكثير من المجالات منها الجغرافيا والفلك والشعر والنقد الأدبي والفلسفة وغيرها من المجالات وله محاولات رائدة في لقياس محيط الكرة الأرضية وله كتاب ” قياسات الأرض” حاول في هذا الكتاب أن يحدد المسافات بين المواقع المختلفة ورسم مسار نهر النيل في مصر.
الناقد الأدبي البارز
فانيس تولى رئاسة مكتبة الإسكندرية وكان على درجة عالية من الإحاطة بكتب المدرسة، وأشيع عنه أنه قرأ كل كتاب موجود في المكتبة في عصره كان الناقد الأدبي الأبرز في عصره وعمل على إرساء البحوث الكلاسيكية على أسس ثابته لمن خلفه من الباحثين.
العالم الرياضيات الأبرز
إقليدس عالم الرياضيات الذي كان له العديد من النظريات الرياضية الهامة والتي أسهمت بشكل أو بآخر في إرساء قواعد الحضارة الإنسانية على مر العصور وكانت له إسهامات في جميع فروع الرياضيات والرياضة البحتة والهندسة المعمارية وغيرها من الإسهامات التي خلدت ذكرى هذا العالم وافادت من جاء من بعده من علماء الرياضيات.
الأسقف الزاهد
مرقس وهو المؤسس الفعلي للكنيسة المرقسية المصرية وله أيادي بيضاء في مجال الدين على مكتبة الإسكندرية التي ازدهرت في هذا العصر والهمته وساعدته في تأسيس الكنيسة المرقسية بالإسكندرية.
هذا غيض من فيض فالعلماء كُثر ولا يسع مجال هذا المقال إلا لذكر القليل منهم للاستشهاد فقط.
وعلى الرغم أن مكتبة الإسكندرية كانت مكتبة عامة للجميع إلا أن دخولها كان قاصرًا على الباحثين والعلماء البارزين، لأنها في أوقاتها الأولى لم تكن قد نظمت بشكل يسمح بالقراءة والاطلاع على نطاق واسع.
قامت مكتبة الإسكندرية بدور إنساني في تاريخ المعرفة فأخذت على عاتقها على مر العصور مسؤولية ترجمة التراث البشرى من لغات متعددة إلى اللغة اليونانية والتي كانت لغة الدولة في هذا الوقت لحفظ هذا التراث الهائل من العلم وحافظت عليه على مر العصور وتوارثته جيل بعد جيل حتى اتى إلينا وإلى ما سبقنا من الأجيال لتطوير الفكر الإنساني.
وبذلك أصبحت الإسكندرية ومكتبتها مركز إشعاع فكري للإنسانية في ذلك الوقت ومنارة للعلم في الحاضر والمستقبل.
قائمة المراجع
- المركز الإعلامي لمكتبة الإسكندرية (2001)،أعلام من الاسكندرية، القاهرة.
- صابر مردينان (1991)،صفحات من تاريخ الكتب والمكتبات ،دار النهضة العربية، القاهرة.
- مكتبة الإسكندرية (2007)،نشرة إعلامية غير دورية، الإسكندرية.
- نبيل راغب (1993)،عصر الإسكندرية الذهبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.