مقدمة:
يعتبر التعليم من المحددات الجوهرية لمستوى تنمية البلدان وذلك لسببين اثنين؛ أولا كون التعليم يساهم في تكوين وتأهيل العنصر البشري العامل بجل القطاعات الحيوية، وثانيا كون المؤسسات والمنظمات الوطنية والدولية تعتمد على مؤشر التعليم لقياس مستوى تنمية الدول من أجل وضع وإنجاز المخططات الاستراتيجية الكبرى، كما هو الحال بالنسبة لمنظمة الأمم المتحدة التي تصنف في تقريرها السنوي مستوى التعليم من عناصر التنمية في البلدان إلى جانب مستوى الدخل الفردي، متوسط العمر وكيفية توزيع الثروة.
والتعليم من القطاعات المركبة وإصلاحه أو تطويره يعتبر من الأمور المعقدة التي يصعب دراستها بواسطة النماذج التحليلية الخطية أو ذات الدرجة الثانية أو التي يمكن تمثيلها أو تقريبها بالأنماط الرياضية المفتوحة ذات المداخل والمخارج الأحادية، لأن مكوناته تظم إلى جانب ماهو علمي دقيق، عناصر أخرى اجتماعية تتسم بالدراسة الاحتمالية والتحديد الشمولي الغير الدقيق وأحيانا الغير المعروف. لذا فحل إشكالية منظومة التعليم تبقى من الأمور الغير البسيطة والتي تتطلب مقاربات شمولية والتطرق إلى مستويات أحيانا خارجة عن المنظومة ذاتها، من أجل الحفاظ على التوازنات التي تخضع للمخططات الاستراتيجية لأي دولة.
ومن بين المقاربات التي يمكنها المساهمة في تطوير المنظومة، هناك الاستعانة بالتجارب الدولية الناجحة وخصوصا تلك التي لها نفس الخصوصية مع المغرب، وكذلك توظيف التكنولوجيا المتطورة على اعتبار أن هذه التكنولوجيا مرتبطة بنظرية المعلومة وأن منظومة التعليم ترتكز أساسا على مفهوم المعلومة. ونحن هنا في هذا المقال بصدد تسليط الضوء على جانب مهم قد يساهم بشكل أساسي في تطوير هذه المنظومة، وأعني بهذا الجانب: التعليم الإلكتروني.
فما هو تعريف هذا النوع من التعليم؟ وعلى ماذا يرتكز؟ وماهي خصائصه ومميزاته؟ وماهي وضعيته بالمغرب؟ وماهي الإشكاليات المرتبطة بتطبيقه والحلول المقترحة؟ وكيف يمكن الاستفادة من هذا النوع من التعليم لتطوير المنظومة التعليمية والتربوية الوطنية والمساهمة في التنمية بشكل عام؟
تعريف ونبذة تاريخية:
التعليم الإلكتروني “E-learning” له تعريفات متعددة ويمكننا تلخيصها في كونه مزاولة أنشطة تعليمية بين فضاءين إلكترونيين على الأقل بالاعتماد على إيصال المعلومة بواسطة الأدوات والوسائل الإلكترونية كالسمعية البصرية، شبكة الإنترنت، الحاسوب والأجهزة المعلوماتية المبرمجة، الأقمار الاصطناعية، الملفات الرقمية إلى غير ذلك. وهذا النوع من التعليم ليس حديث الولادة، فقد كانت بدايته الأولى تعتمد على التعليم عن بعد عن طريق المراسلة منذ بداية القرن 17م. فقد كانت جامعة لندن أول من عمل بالتعليم بالمراسلة وذلك سنة 1858م، لتتبعها مجموعة من الدول الأوروبية بعد ذلك. أما أول محاولة باستمال التقنيات الإلكترونية فقد كانت سنة 1948م من طرف المحطة الإذاعية الأمركية NBC لإعطاء أول دروس تعليمية سمعية، وتلتها بعد ذلك في سنة 1953م جامعة “هيوستن” الأمريكية بتكساس لتعطي أول الدروس المرئية عبرالتلفزيون. لكن الانطلاقة الحقيقية للتعليم الإلكتروني كانت مع تعميم الإنترنت. فقد كانت أولى التجارب الدراسية قبيل سنة 2000م عبر بعض الوسائل والبرامج الخاصة مثل (بلاكبورد، مودل…) إلى غير ذلك من البرامج المتطورة والتي تسمح بالتفاعلية الآنية والتشاركية. ويعتبرالتعليم الإلكتروني إلى جانب التدريب الإلكتروني “E-Training” والإدارة الإلكترونية “E-Management” من المكونات الأساسية لما يسمى بالحكومة الإلكترونية “E-Government”.
موضع التعليم الإلكتروني:
توجد العديد من البرامج والمشاريع الدولية الرائدة في مجال التعليم الإلكتروني التي تبين أهمية هذا النوع من التعليم في الخطط الاستراتيجية التنموية لهذه الدول. فمثلا البرنامج الأمريكي “مبادرة توصيل البيت الأبيض White House’s Connected Initiative”, الذي أطلقته الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرا من أجل دمج التقنية في التعليم الأمريكي وتطوير تقنياته المتنوعة، وهو مشروع كبير تبلغ تكلفته أكثر من 3 ملايير دولار، ويهدف إلى تأهيل الجانب التقني في المدارس الأمريكية، وربطها بالعالم الرقمي وخصوصا تلك في الأرياف. حيث يظم هذا المشروع أزيد من 20 مليون طالب في المدارس الحكومية من الحضانة إلى التعليم الثانوي.
وهناك أيضا التجربة اليابانية المعروفة ب“مشروع المائة مدرسة” والذي انطلق سنة 1995م حيث تم تجهيز هذه المدارس بالإنترنت وتطوير الأنشطة الدراسية والبرمجيات التعليمية من خلال منظومة التعليم الإلكتروني. وهناك تجربة أخرى بريطانية والتي سميت بـ “الشبكة الوطنية للتعليم”، التي من خلالها تم ربط أزيد من 32 ألف مدرسة بشبكة الإنترنت، واستفاد منها أزيد من 9 ملايين من الطلبة وحوالي 450 ألف مدرس ومدرسة.
والسويد أيضا كانت قد أنشأت سنة 1999م ما يسمى ب“الهيئة السويدية للتعليم عن بعد” من أجل تطوير التعليم التقليدي ودعم التعلم الإلكتروني والتعليم عن بعد، حيث أن زهاء 50% من الشعب السويدي تمكن من استخدام الإنترنت وحوالي 62% من الحاسبات الفاعلة أصبحت مربوطة بالشبكة العنكبوتية العالمية.
وفي أستراليا، قامت إحدى الولايات”فكتوريا” منذ سنة 1999م بربط جميع المدارس بشبكة الإنترنت عن طريق الأقمار الصناعية، وقامت بإجبار المعلمين، الذين لا يرغبون في التعامل مع التعليم الإلكتروني على ترك العمل حيث تم استبدال حوالي ربعهم وأصبحت التقنية الإلكترونية متوفرة في كل فصل دراسي. وهناك تجارب أخرى ناجحة بالعديد من الدول كماليزيا، الهند، ألمانيا…
وفي الدول العربية، فقد كانت هناك تجارب مماثلة بكل من دولة الإمارات العربية المتحدة التي أنشأت أول جامعة إلكترونية في دبي على مستوى المنطقة، و كذلك دولة الأردن التي تم بها نشر مراكز تكنولوجيا المعلومات في كافة أنحاء المملكة، إضافة الى انطلاق مبادرة الحكومة الإلكترونية ومبادرة تطوير التعليم والتعليم الإلكتروني. وهناك عدة برامج ومؤسسات أخرى تعنى بهذا المجال بكل من المملكة العربية السعودية “الجامعة السعودية الإلكترونية”، ودولة الكويت (مركـز التعليم الإلكتروني والتعلــم عن بـعد)، ومصر (الجامعة المصرية للتعلم الإلكتروني 2008)، تونس (جامعة تونس الافتراضية 2002)، حيث عمدت هذه الدول إلى إدخال التعليم الإلكتروني في مراحل مختلفة من منظوماتها التعليمية والتربوية، مدركة أنه من السبل الضرورية لتحقيق التنمية ببلدانها.
اما في المغرب، فإن التعليم الإلكتروني لايزال في مراحله الأولى رغم وجود بعض المشاريع المطروحة سواء من طرف بعض الوزارات كوزارة المالية التي عمدت إلى إدماج خدمة التعليم الإلكتروني عن بعد في هياكلها التنظيمية، أو من طرف وزارة التربية الوطنية والتعليم التي عملت على إنشاء نظام التلفزيون التفاعلي، والمشروع المستقبلي “المدرسة الذكية” كأول تجربة في المغرب ستعتمد على التكنولوجيات الحديثة في عملية التلقين التربوي للتلميذ من خلال “المحفظة الرقمية” والسبورة الرقمية التفاعلية داخل الفصل والمناهج الرقمية التفاعلية التي يتم الولوج إليها عبر شبكة الإنترنت. كما ان هناك بعض الجامعات التي قامت بتجريب والعمل بهذا التعليم محليا وعلى نطاق محدود أو من خلال شراكات دولية، كجامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال، جامعة ابن زهر، جامعة القاضي عياض، وجامعة عبد المالك السعدي التي عمدت إلى تطوير دروس تعطى بطريقة التعليم عن بعد بالنسبة لطلبة التدريب المهني وبعض المستويات الجامعية الأخرى.
نماذج التعليم الإلكتروني وخصائصه:
هناك العديد من التصنيفات التي تعطى للتعليم الإلكتروني، لكننا يمكن تلخيصها في 4 نماذج وهي:
- التدريب المعتمد على الحاسوب وشبكة الإنترنت (Web/Computer-Based Training)،
- أنظمة تحسين القدرات الإلكترونية بالحاسوب والإنترنت (Web/Electronic Performance Support System)،
- الحجرات الافتراضية المتزامنة (Web/Virtual Sysnchronous Classroom)،
- الحجرات الافتراضية الغيرالمتزامنة (Web/Virtual Asysnchronous Cassroom).
ويمتاز التعليم الإلكتروني بعدة خصائص من أهمها:
- انخفاض تكلفة كل طالب.
- استثمار جيد لعنصر الوقت.
- الاستفادة من الموارد البشرية العالية التكوين الغير المتواجدة بنفس المكان.
- إلغاء مفهوم المكان والحدود بين الدول لتبادل القدرات والمعارف الآنية.
- الاحتفاظ بالموارد التعليمية على شكل رقمي يمكن الاستفادة منها مرات عديدة كلما تطلب ذلك.
- خلق فضاء جديد للتعليم يتميز بالتتبعية (traçabilité) للموارد التعليمية والمعنيين بالتعليم.
- سهولة المراقبة والتقييم.
- تحيين المعارف وسرعة الولوج إلى المعلومة.
- تطوير كفاءات وقدرات المعلمين والمتعلمين نتيجة الاحتكاك بالأنظمة التعليمية العالمية.
عناصر نظام التعليم الإلكتروني:
رغم أن الكثيرين يعتبرون التعليم الإلكتروني ليس إلا مجموعة أدوات تكنولوجية لإعطاء مضامين المقررات الإلكترونية للمتعلم، إلا أنه في الحقيقة علم نظري وتطبيقي ونظام تعليمي متكامل، مبني على أسس فكرية و نظريات تعليمية وتربوية حديثة. فهو يتكون من خمسة عناصر أساسية:
1– النظريات والبحوث:
وتضم:
- الفلسفة أو النظرية التي يقوم عليها التعليم الإلكتروني (كالسلوكية، البنائية…)،
- الأهداف والغايات التربوية والتعليمية والمعايير،
- الممارسات والسلوكات التربوية والتعليمية،
- المشكلات والتحديات،
- دراسة الجدوى والتخطيط والبرمجة،
- التصميم والإنجاز والتطوير،
- الموارد المالية والدعم اللوجيستيكي.
2– نظم التعلم الالكتروني:
و تضم:
- العنصر البشري الذي يقوم ويسهر على عملية التعلم (المعلم، المبرمج، الإداري…)،
- البنية التحتية والأدوات التكنولوجية (أجهزة إلكترونية خاصة، شبكات التواصل، البرامج، الخوادم…)،
- المحتوى، المصادر والوسائط الإلكترونية (البرامج والمقررات الإلكترونية)،
- نظام التواصل والتفاعل،
- الإدارة وإدارة المحتوى (التسجيل، التتبع، التخصيص،…)،
- نظام التقدير والتشخيص والتقويم،
- نظام الصيانة، الدعم والتسهيل.
3- العمليات الخاصة بتصميم وتطوير التعلم الإلكتروني:
وهي كل عمليات التحليل، التصميم، التطوير، والتقويم.
4- عمليات الاتصال الخاصة بالتعليم والتعلم الإلكتروني:
وتحتوي على مجموعة من العمليات من أهمها:
- الاتصال، الوصول، التسجيل والدخول،
- الاستثارة الدافعية، إدارة المحتوى والمعرفة،
- التعلم الفردي والجماعي والتدريب،
- التوجيه، الدعم، والمساعدة، التعزيز والرجح، التقدير والتقويم.
5- مخرجات التعلم الإلكتروني:
ويتكون من معلمين ومتعلمين بمعارف ومهارات وأساليب تفكير واتجاهات جديدة.
برامج التعليم الإلكتروني:
توجد العديد من البرامج الإلكترونية المستعملة في هذا النوع من التعليم منها ما هو مجاني، ويختلف من حيث الخدمات المقدمة (تعليم آني متزامن، غير متزامن، تفاعل مرئي، تفاعل محدود، تعليم ذاتي…)، ومنها ماهو بالأداء يوفر خدمات إضافية حسب الخصوصية، فنجد على سبيل المثال:
- برنامج Adobe Connect
- برنامج hp virtual classroom (https://www.rooms.hp.com)
- برنامج بالتاك ( www.paltalk.com)
- برنامج سابا (http://www.saba.com)
- برنامج http://www.edtlearning.com iLinc
- برنامج big blue button
معيقات التعليم الإلكتروني:
إن تطبيق التعليم الإلكتروني تعوقه مجموعة من العقبات والمشاكل والتي يمكن أن تكون مواضيع للدراسة والبحث العلمي ومن أهم هذه المعيقات:
- ضعف تأهيل العنصرالبشري العامل به،
- النظم البيداغوجية المستعملة التي يجب أن تساير هذا النوع من التعليم.
- العامل النفسي والاجتماعي للمعنيين بهذه المنظومة والذي يحول دون الانخراط الإيجابي فيها،
- الأمن الإلكتروني وحماية الخصوصيات والموارد،
- عدم معرفة حجم تاثير هذا النوع من التعليم على باقي القطاعات المرتبطة به كمنظومة النقل، السكن، المطاعم، تجارة المواد المستعملة في التعليم الحضوري التقليدي…
- صعوبة إنجاز الأعمال التطبيقية الموجودة بالتكوينات التقنية.
وتبقى على العموم هذه المشاكل أقل صعوبة من تلك الموجودة بالمنظومة التقليدية الحالية، ويمكن التغلب عليها من خلال مجموعة من الإجراءات من أهمها:
- تشجيع البحث العلمي في مختلف محاور هذا المجال.
- تحفيز العاملين على تطوير هذا النوع من التعليم والعمل به.
- أخد التعليم الإلكتروني في باقي البرامج الاستراتيجية الوطنية بعين الإعتبار.
تجربة دولية رائدة في التعليم الإلكتروني:
عديد هي المشاريع والبرامج الدولية التي استعملت التعليم الإلكتروني عن بعد، أو استثمرت فيه من أجل تحقيق التنمية. ومن بين هذه التجارب الرائدة، تم مؤخرا إطلاق برنامج دولي وهو مشروع «EOLES» « Electronics and Optics e-Learning for Embedded Systems » الذي تم من خلاله الشروع بتدريس إجازة مهنية مشتركة بين مجموعة من الجامعات الدولية والمغاربية في مجال “الإلكترونيات والبصريات للأنظمة المدمجة”، والتي شرع التدريس بها منذ شتنبر 2014م.
وتتميزهذه التجربة بكون التدريس والتأطيربها يقام بشكل مشترك بين هذه الدول بشكل آني، وبكون الأشغال التطبيقية تنجز بواسطة المختبرات المتحكم فيها عن بعد.
كما أن الطلبة المسجلين من مختلف الدول، يدرسون نفس البرامج وبشكل آني وموحد، وسيحصلون على شواهد دولهم بالإضافة إلى شهادة معترف بها من جامعة ليموج بفرنسا. ويدخل هذا التكوين في إطار مشروع دولي كبير يضم أزيد من 15 جامعة بكل من المغرب، الجزائر، تونس، رومانيا، فرنسا، بلجيكا والبرتغال بدعم وتمويل من الاتحاد الأوروبي.
خاتمة:
يمكن استخدام التعليم الإلكتروني وخصوصا الطريقة المعتمدة في هذا البرنامج من أجل تعميمها على تكوينات وتخصصات أخرى، كما يمكن الاستفادة منها وتكييفها مع خصوصية المغرب للمساهمة في حل إشكاليات التعليم الحضوري، كالاكتظاظ الذي تعرفه الكثير من الكليات وخاصة تلك ذات الاستقطاب المفتوح، وكذلك إشكالية النقص الملحوظ في أطر بعض التخصصات. كما يمكن الولوج إلى المختبرات التطبيقية الباهضة الثمن، المتواجدة بدول وجامعات أخرى عن بعد، دون أن يكلف ميزانية الجامعات الأموال الكبيرة المخصصة عادة لأجهزة الأعمال التطبيقية.
ويمكن لهذا النوع من التعليم أن يساهم في تطوير البحث العلمي، بالإضافة إلى تشجيع التعاون المغاربي في هذا المجال ليكون من الوسائل الفعالة في التواصل بين مكونات جامعات هذه الدول من أجل تحسين مردودية المنظومة التربوية والتعليمية.
إن هذه التجربة يمكن لها أن تعمم ليس فقط في مجال التعليم العالي، لكن يمكن استثمارها في ميادين أخرى تهم التكوين المستمر، التعليم غير النظامي، التعليم الخصوصي، تأهيل العنصر البشري العامل بقطاعات المجتمع المدني و توعية وتأهيل المرأة بالبيت والأسرة بصفة عامة.