شهد العالم أواخر القرن العشرين أعظم خطوة على سلم تطور الحضارة البشرية، ألا وهي ثورة العلوم والتكنولوجيا فائقة التطور، التي جابت أصقاع البلاد شرقها وغربها، وشمالها وجنوبها، فارضة تغييراتها على العالم أجمع، ليصبح هذا التحول محط أنظار العالم، لا سيما في التعليم الحديث المعروف بمسمى التعليم عن بعد.
والتعليم عن بعد أسلوب من أساليب التعليم الذاتي، وهو تعليم سابق للتعليم التقليدي أو المدرسي، أدى إلى تعزيز نظام التعليم المفتوح، والتعليم المستمر، كما ويعتبر تطويراً لنظام التعليم بالمراسلة، والذي يعتبر بدايات التعليم عن بعد. ترعرع التعليم عن بعد في بريطانيا ومستعمراتها وبقية بلدان العالم، ومن ثم انتشر انتشاراً واسعاً وخاصة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، بعدما طرأ عليه تطور كبير في محتوى المادة الدراسية وتصميمها وطرق تقويمها، وخاصة بعد التطور التكنولوجي، والذي يعتبر الركيزة الأولى في تقدم وتطور التعليم عن بعد1.
إن التعليم عن بعد ليس شكلاً واحداً بل هو أشكال متعددة وممارسات متنوعة، يختلف فيما بينه وبين التعليم التقليدي كثيراً في طريقته، حيث يعتمد الأول (التقليدي) الطريقة المباشرة في الصفوف التي تجمع بين المعلم والمتعلم، وهنا يفصل بينهما ويستعيض عن ذلك بوسائط متعددة لتحقيق الاتصال والتواصل بينهما من جهة وبين المتعلم والمؤسسة من جهة أخرى؛ وذلك بهدف رعاية المتعلم ومتابعة تقدمه، وتذليل الصعاب بصفة مستمرة عن طريقه، وكل ذلك بهدف إعانته على بلوغ الأهداف المرجوة وكسر عزلته، وتشجيعه باضطراد وخاصة في نمط التعليم المفتوح2.
لقد استطاع هذا النوع من التعليم أن يحقق نجاحات واسعة كصيغة تعليمية تحمل بين جنباتها الوعد والأمل، وليس من خلال قدرته على توفير المزيد من الفرص التعليمية لمن فاتهم قطار التعليم المدرسي والجامعي فحسب، بل لقدرته على إعادة صياغة فلسفة وأهداف التعليم بشكل معاصر، بل واستطاع نقل المتعلم من بيئته المحدودة المعارف إلى فضاء واسع من التعليم المستمر والممتد طوال الحياة؛ نظرًا لمرونته في نقل المعارف وإكسابها وإثراء المواد التعليمية وربطها مع جوانب المنهاج3.
ومع ظهور فيروس كورونا (كوفيد-19)، خلقت الجائحة اضطراباً عاماً في كافة ميادين الحياة، مما شكلت الجائحة المرضية فرصة كبرى لإعادة الاعتماد التعليمي عن بعد؛ نظرًا لتأثيرات الفيروس على المؤسسات التعليمية على وجه الخصوص، إضافة إلى عدم بيان موعد زمني محدد لانتهائها، مما جعل التعليم عن بعد الخيار الأمثل للمؤسسات التعليمية لتعليم نوعي، وتفعيل المنصات التعليمية الإلكترونية لمواصلة عملياتها التعليمية والأكاديمية معاً.
بحسب منظمة اليونسكو، وتحت عنوان “اضطراب التعليم بسبب فيروس كورونا الجديد والتصدي له”، فإن انتشار الفيروس سجَّل رقمًا قياسيًّا في صفوف الأطفال والشباب المنقطعين عن الذهاب إلى المدرسة أو الجامعة. وحتى تاريخ 12 مارس/2020م، أعلن ما يقارب 61 بلدًا في إفريقيا وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية عن إغلاق المدارس والجامعات، مما أثَّر على أكثر من 421.4 مليون طفل وشاب، كما قام 14 بلدًا إضافيًّا بإغلاق المدارس في بعض المناطق لمنع انتشار الفيروس أو لاحتوائه، وفق إحصائيات المنظمة4.
لقد عمل انتشار فيروس كورونا على تحفيز المؤسسات التعليمية في جميع دول العالم على البحث والسعي من أجل إيجاد وسائل بديلة للتعليم تلبي الحاجة التعليمية وتطورها وتساندها، ورغم سريان ذلك البحث بصورة بطيئة جدًا، إلا أن نتائجه كانت مرضية، فقد ظهر التعليم الإلكتروني كوسيلة مساندة وحقيقية في أوقات الأزمات الصحية، فكانت بداية التأثير والظهور في الأداء من قبل هونغ كونغ التي أطلقت خاصية التعليم الإلكتروني من المنزل عبر تطبيقات تفاعلية؛ للمساهمة في التقليل من انتشار الفيروس، وتقديم استفادة حقيقية للمتعلمين بأكبر عدد ممكن، كما وتبعتها الصين في التعليم عن بعد من خلال البث التلفزيوني المباشر موفرة بذلك خدمة التعليم لأكثر من 120 مليون طالب، لتحذو بقية دول العالم وطلابها هذا التحول إلى التعليم عن بعد كخيار لا سبيل غيره.
لقد دفعت الأزمة الصحية لانتشار فيروس كورونا في المؤسسات التعليمية بما فيها من كوادر تربوية إلى إعادة تقييم الأداء التربوي واستحداث طرائق أكثر فاعلية وشمولية والاستعاضة عن التقييم التقليدي في العملية التدريسية، بالتقييم الإلكتروني المحوسب، كما عززت الجائحة من التواصل الإيجابي بين الطالب والمعلم بصورة مستمرة، كما وأسهمت في إظهار القدرات والمواهب بصورة أكثر وضوحًا خلال الحجر المنزلي الذي فرضته الدول على مواطنيها حرصًا على سلامتهم.
نلاحظ من خلال ما سبق أن انتشار جائحة كورونا كان له الدور في ابتكار طرائق جديدة لإدارة الأزمة التعليمية وظهور التعليم عن بعد الذي يعد البوابة المستقبلية الحقيقية للتعليم؛ نظرًا لإقدام المتعلمين وزيادة أعداد المنتسبين إلى عالم التعليم الرقمي المعروف بالتعلم عن بعد، وهو البديل الأكثر فاعلية وقوة بين الخيارات التعليمية المتاحة مما يزيد من فرص الاستخدام والتواصل، لذا فالتعليم عن بعد هو الاستثمار التعليمي الجديد في عالم التكنولوجيا التربوية.
قائمة المراجع
- العماس، عمر: التعليم عن بعد والتعليم التقليدي في الميزان، 2016م، ص151.
- حجي، أحمد: التربية المستمرة والتعليم مدى الحياة، دار الفكر العربي، القاهرة، مصر، ط1، 1996م، ص231.
- السنبل، عبد العزيز: مبررات الأخذ بنظام التعليم عن بعد في الوطن العربي، مجلة التربية، اللجنة الوطنية القطرية للتربية والثقافة والعلوم بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، قطر، 2001م، ص84.
- عزوزي، عبد الحق: التعليم عن بعد في زمن الكورونا، الجزيرة. كوم، تم زيارة الموقع بتاريخ 19/6/2020م. http://www.al-jazirah.com/2020/20200410/ar6.htm
رائع ، بارك الله جهودك أ.منال
شرف لي ما سطره قلمك في حقي و فيما كتبت .. لك جزيل شكري وامتناني ❤️ ..
مقال رائع لامس واقعنا الحالي بقلم شخصية مبدعة نتمنى لها الاستمرار لتجود علينا بالمزيد من مواضيعها الهادفة .
أ/ منال الجعيد
شكرا لك من الاعماق انسانة متميزة دائما .
شرف لي ما سطره قلمك في حقي و فيما كتبت .. لك جزيل شكري وامتناني ❤️ ..
احسنتي وابدعتِ في وصف حال التعليم مع الجائحة وانتصاره عليها ،
وأن التعليم عن بعد هو الاستشمار الحقيقي في عالم التكنولوجيا
شكراً لك غاليتي
فعلاً التعليم عن بعد هو الاستثمار التعليمي الجديد ..
مقالة رائعة تلامس واقعنا ..
أحسنت أ/ منال الجعيد مبدعة كعادتك •
مبدعة ورائعة استاذة منال
بارك الله في جهودك ونفع بك
ومن تميز لتميز
كالعادة استاذه منال إبداعك يعانق السماء وحروفگ متميزة وانتقائگ ثري وهانحن ندين لك بالجميل على هذا الطرح الانيق والراقي والشكر موصول للصحيفة الرائعه في اختيار افضل واجود المقالات تمنياتي لك بالتوفيق
مبدعة أستاذه منال ماشاءالله تبارك الله ومو غريب عليك النجاح دائماً مبدعه وفعلاً هالشيء هالفتره انجاز جميل ❤️❤️