قراءة نقديّة في الفصل العاشر من كتاب اللّغة والهويّة في الوطن العربيّ الصادر عن المركز العربيّ – إشكاليات تاريخية وثقافيّة وسياسيّة –المُعنون بــــ: “اللّغة والهويّة في ضوء النظريّة السياسيّة” لـ “محمد غاليم”
تمهيد:
قبل الخوض في مضامين الأفكار التي تطرق لها صاحب الفصل، وجب أولا الوقوف على المفاهيم الرئيسة التي تظهر من خلال عنوان الفصل؛ وأقصد هنا مفاهيم اللّغة، الهويّة، والنظريّة السياسيّة اللّغويّة. وكذا العلاقة التي تجمع بين هذه المفاهيم حتى يتسنى لنا فهم حيثيات دور السياسة اللّغويّة في الحفاظ على اللّغة وتلقائيًا الحفاظ على الهويّة من مدّ اللغات الأجنبّية التي أنشئها الاستعمار وفرضتها العولمة.
ما هي إذًا اللّغة؟ وما الهويّة؟ ما السياسة اللّغويّة؟ وما العلاقة التي تجمع بين المفاهيم الثلاثة؟ أسئلة وأخرى سنجيب عنها بمنهج وصفي تحليلي في ثنايا هذه الورقة.
1- مفهوم اللّغة
لغةً من فعل لغيَ بمعنى تكلمّ، ولغة جمع لغات. اصطلاحًا نجد لها تعريفات عدة ومتنوعة، فقد عرّفها ابن جني ب “أصوات يُعبّر بها كل قوم عن أغراضهم”[1]، في هذا التعريف نلمس ذكرا لوظيفة اللّغة التي هي التواصل وهذا ما نجده في اللسانيات مع المدرسة الوظيفيّة بزعامة كل من الفرنسي أندري مارتينيه والإنجليزي هاليداي، حيث رأوا بأن الوظيفة الأساسية للّغة هي وظيفة التواصل بين البشر. أما المدرسة التوليدية مع الأمريكي نعوم شومسكي فقد ميّز اللّغة بــأنّها “أفضل مرآة للعقل البشري”[2]، فـــ شومسكي يعتبر أن اللّغة فطرية في دماغ الإنسان، فالطفل يولد وهو مزود بملكة Competence لغويّة تجعله قادرا بسهولة على اكتساب النسق اللّغويّ المُعقد[3] والتعبير فيما بعد عن حاجياته اليوميّة. أما دوسوسير فاهتم باللّغة كبنية وبوجهيها الفردي والاجتماعي وهذا ما يظهر في تعريفه للّغة بأنها “لها جانب فردي وجانب اجتماعي، ولا يمكن تصور أحد الوجهين دون الآخر”[4]، فــــ دوسوسير ومن معه من المدرسة البنيوية اهتموا ببنية اللّغة في ذاتها ولذاتها بغض النظر عن السياق والاستعمال. وعلى العموم تبقى اللّغة هي ذلك الكيان الذي يحفظ لمتحدثيها وجودهم وهويتهم ويعطي ذلك التّنوع الدنيوي استنادا لقوله تعالى: “ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين”[5].
2- مفهوم الهويّة
لا يمكن الحديث عن اللّغة دون ربطها بالهويّة، بحكم وجود تفاعل بين المفهومين، وقد جعل المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة للهويّة متصورًا ماديًا هو: “بطاقة يثبت فيها اسم الشخص وجنسيته ومولده وعمله، وتسمى البطاقة الشخصية أيضا[6]. ويُعرفها حسن حنفي بــ “التجربة الإنسانية المعيشة. فالإنسان هو الذي له هوية وليس الشيء الطبيعيّ”[7] وتبقى الهويّة حسب عبد العلي الودغيري “جملة علامات وخصائص من أجناس مختلفة، تستقل بها الذات عن الآخر، فبغياب هذه العلامات والخصائص تغيب الذات وتذوب في الآخر، وبحضورها تحضر”[8]. وللّغة أهمية كبيرة في حفظ الهويّة، فإذا فقدَ الشخص لغته فقدَ هويته؛ حتى أمكن القول إن اللّغة هي الهويّة.
3- مفهوم النظريّة السياسيّة اللّغويّة
يُمكن تعريفها بالطريقة أو المنهجية التي تتعامل بها الدولة مع اللّغات الموجودة في المجتمع، سواء على مستوى الاعتراف بها دستوريا أو خلق معاجم تغني هذه اللغات وتحفظ وجودها الأبدي، كما تفعل قطر حاليا من خلال محاولتها خلق مشروع معجم تاريخي للّغة العربيّة. وكذا دعم المؤسسات التي تشرف على تطوير اللّغة على غرار مكتب تنسيق التعريب بالرباط، والجمعية المغربية لحماية اللغة العربية.
بعد تعريفنا للمفاهيم الأساس التي وردت في عنوان الفصل والعلاقة التي تجمع بينها، يعرج بنا محمد غاليم إلى ذكر مكونات النظريّة السياسيّة حيث اختزلها في ثلاثة مفاهيم هي:
الممارسة اللّغوية: يُقصد بها استخدام وتحقيق اللّغة واقعيًا، أي ما يُصطلح عليه بالمسح الميداني لجميع التكلُّمات اللّهجيّة الموجودة بالمغرب.
المعتقدات اللّغويّة: والتي تعتبر عناصر مركزية في إسناد أوضاع للّغات وتفعيل أثر ذلك. أي هي بمثابة سياسة لغويّة من دون مُعد أو مُخطط.
الإعداد اللّغويّ: يتعلق بسن قوانين أو وضع ضوابط تتعلق بقضايا الممارسات اللّغويّة داخل كيان المجتمع.
يعترف “غاليم” بأن المسألة اللّغويّة بالمغرب جد مُعقدة لكونها تتخذ أبعادًا سياسيّة، وما يجعل المسألة معقدة هو الإعلام وكذا الاستعمار اللذان لعبا دورا مهما في تراجع مردودية العربيّة على حساب تقوية الفرنسيّة لغة المستعمِر. كما يشير إلى أن أول من تناول قضايا السياسة اللّغويّة والتّخطيط هم اللسانيون الاجتماعيون، حيث اهتموا بإيجاد حلول لدول نامية، لكن ما يؤخذ عليهم – على حد قوله – هو غياب النسقيّة لتجميع معطيات كافية تمكن من بناء نظرية للسياسة اللّغويّة. قبل أن تفرض عدة عوامل جعلت التفكير السياسي يهتم بقضايا اللّغة والهويّة، منها حسب غاليم؛ عوامل إجرائيّة وأخرى نظريّة:
عوامل إجرائيّة: اعتبرت أن الشأن اللّغويّ له من الأهمية ما يجعله يخلق تحديات للمجموعات السياسية: فالسياسة اللّغويّة تساهم بشكل أو بآخر في البناء الديمقراطي. ويضرب لنا صاحب الفصل مثالا عن دول أوروبا الشرقية التي عرفت بعد سقوط الشيوعية (1989)، توجهها نحو الأحادية اللّغويّة، بعدما كانت تعترف بمبدأ التّعدد اللّغويّ، فالنظام الجديد المتبنى أصبح يُعطي أحقية الجهر بأي رأي سياسي يكون بلغة الأغلبيّة.
عوامل نظرية: محورها المواطنة؛ وهدفها البحث عن إطار التوافق بين حقوق الفرد وحرياته من جهة، ووحدة المجتمع واتساقه على حساب اختيارات الأفراد غير المقيدة من جهة ثانية.
رغم كل ما قيل، يبقى من أهم تحديات النظرية السياسيّة المعاصرة هو تحدي اللّغة؛ فالاعتراف الدستوري باللّغات لا يكفي، إن لم يطبق هذا واقعيا، أي تحقيق العدالة اللّغوية؛ والمقصود بها حسب خاين وعزوز في كتابهما “العدالة اللّغويّة في المجتمع المغاربي بين شرعية المطلب ومخاوف التوظيف السياسوي” الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، إشاعة العدل بين الأفراد، وتحقيق العدل بين اللّغات التي تؤسس المشهد العام لدولة ما، عبر تبني سياسة لغويّة تعددية تعترف بحق كل جماعة لغوية في التعاطي بلغتها”[9]. وهذا ما فشل غاليم في قوله حيث دافع وانتصر للغة العربيّة ونبذ في المقابل اللّغات الأمازيغيّة والحسانيّة والعاميّة التي تكمل صورة المشهد الهويّاتي إن صح التّعبير بالمغرب.
إن مسألة بناء دولة وطنية ديمقراطية يستدعي بالضرورة أداة لغويّة مناسبة لبنائه، طرح يُدافع عنه بشدة صاحب الفصل، حيث لا مجال للحديث عن دولة ديمقراطية مستقلة في ظل تجاذب لغوي بين المحلي والأجنبي، وبالتالي يقترح غاليم إتاحة فرصة الانتماء لمجموعة سياسية واحدة بمعنى الانتقال من نموذج الدولة الإثنية إلى الدولة المدنية؛ التي تعترف بأنّ اللّغة يجب أن تكون لغة هوية لا لغة أجنبية. وثانيا أن تكون لغة قوية لها من المؤهلات ما يجعلها تقف ندًا للند أمام اللّغات الأجنبيّة.
نجد في طرح غاليم علاقة وطيدة بين اللّغة والاقتصاد، فإذا كانت اللّغة القوية فالاقتصاد سيكون قويا. وهذا ما نجده في مثال الولايات المتحدة الأمريكية فهي تملك اقتصادًا قويًا في السوق العالمية يوازي الحضور الوازن للغتها في البحث العلمي الأكاديمي، وهذا ينعكس حتى على الثقافة التي تكون قوية ما دامت هناك لغة فعّالة ومُؤثرة.
في سياق حديث غاليم عن مظاهر قوة اللّغة، أدرج لنا مفهوم “الازدواج اللغويّ”؛ الذي يحيل على وضع تتحدث فيه جماعة معينة صورتين للغة واحدة (أو للغتين). ففي المغرب نجد تعايش العامي مع الفصيح. حيث يغلب العامي على الحياة اليومية للمواطنين البسطاء، في حين نجد لغة وسيطة هي خليط بين الفصحى وكلمات فرنسية يحتكرها المثقفون، وهناك اللّغة العربيّة الفصحى المعيار التي تُستعمل في خطب المساجد وفي المدارس.
4- كيف نُدبّر التّعدد الثقافي؟
قد نستطيع تدبيره عن طريق توحيد التنوعات اللّغوية الموجودة، وتعزيز اللغة المشتركة مع الإيمان بالتعدد اللّغوي. وفي هذا الإطار يتيح الدستور للمواطنين حرية الانتماء لكن مع الحفاظ على لغة الأصل وعلى تقاليد الدولة المغربية باعتبارها دولة مُسلمة. والاعتراف بالتعدد اللّغوي سيتحقق عن طريق إتاحة ممارسة سياسات لغوية ستجعل الفرد مرتبطا بلغته الوطنية.
لذا يبقى مشروع البناء الوطني الناجح هو الذي يضمن ألا تكون اللّغة عامل فرقة بين أفراد الوطن الواحد، بل رابطا محددا لهوية مشتركة وهذا ما غفل عنه غاليم في طرحه للموضوع.
خاتمة
ما يُعاب على غاليم، هو طرحه لعديد المفاهيم المهمة دون أن يُفرّد لها تعريفًا ينتشلها من غياهب الغموض واللبس، وهذا ما حاولتُ جاهدًا فعله، حتى تكون ورقتي البحثيّة هذه مُحترمة للشروط العلميّة – الأكاديميّة. في النهاية كموقف شخصي، أرى بأنه لا يختلف اثنان على أن دعم اللّغة العربيّة بالمجتمعات المغاربية هو دعم للهويّة الوطنية العربيّة القوميّة؛ بمعنى أن بناء دولة وطنية بمواصفات حداثية لن يمر إلا عن طريق وجود لغة عربيّة قوية مُوحدة. لكن في هذا الإطار وجب التنبيه على ضرورة محاولة القضاء على تراتبية اللّغات داخل المجتمع الواحد، فأي لغة لها قيمتها ما دامت تؤدي غرض التواصل الذي خُلقت من أجله.
لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:
أ). العربيّة:
+ ابن جني، أبو الفتح عثمان. الخصائص، تحقيق: محمد علي النجار، القاهرة، دار الكتب المصريّة، 2006.
+ المعجم الوسيط، القاهرة، المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، 1972.
+ بعلبكي رمزي وآخرون، اللّغة والهويّة في الوطن العربي إشكاليات تاريخية وثقافية وسياسية، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013.
+ حنفي، حسن. الهويّة والاغتراب في الوعي العربي، مجلة تبين 1، 2012.
+ الودغيري، عبد العلي. اللّغة والدين والهويّة، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 2000.
+ خاين محمد وعزوز أحمد، العدالة اللّغوية في المجتمع المغاربي بين شرعية المطلب ومخاوف التوظيف السياسوي، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014.
ب). الأجنبيّة:
– Chomsky, N. Knowledge of Language. New York. 1986.
– Saussure, Ferdinand, Cours De Linguistique Générale. Paris : 1995.
أبو الفتح عثمان ابن جني، الخصائص، تحقيق: محمد علي النجار (القاهرة، دار الكتب المصريّة، 2006): 33.[1]
[2] Chomsky N, Knowledge of Language (New York, 1986), 1.
تأخذ اللغة تعقيدها باعتبارها تتضمن المكون الصوتي والصرفي والدلالي والتركيبي والتداولي، بحيث لا يمكن الفصل بين مكوناتها.[3]
[4] Saussure Ferdinand, Cours De Linguistique Générale (Paris, 1995), 24.
المعجم الوسيط، القاهرة، المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 2 998، مادة (الهُو).[6]
حنفي، حسن. “الهوية والاغتراب في الوعي العربي”، مجلة تبين 1 (2012): 11.[7]
الودغيري، عبد العلي. اللغة والدين والهوية (الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 2000)، 68.[8]
خاين، محمد. العدالة اللغوية في المجتمع المغاربي (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014)، 14 و15.[9]