فرضت التغيرات الحالية والمعاصرة في فلسفة التعلم والتعليم تغيرا واضحا في المنظور العام لتدريس الرياضيات، فلم يعد الهدف من دراستها وتعليمها تنمية مهارات إجراء العمليات الرياضية فقط، بل وإنشاء جيل قادر على حل المشكلات و التعامل معها من خلال تنمية التفكير والفهم لديهم بما ينمي تلك القدرة على مواجهة المشكلات المرتبطة بواقعهم، وهذا يرتبط ارتباطا وثيقا بكفاءة المعلم وخبرته ومهاراته في التدريس، وهنا السؤال: ما المعيار الذي يجعل المعلم خبيرا في التدريس؟ وما هي المعرفة الضرورية التي يجب أن يمتلكها؟
ولما كانت المناهج الرياضية تركز على البنية الرياضية وتعتبر المحتوى الرياضي محكم الاتصال والترابط، فقد كانت المفاهيم هي اللبنة الأساسية في سلم أولويات تعلم الرياضيات، واعتمد نجاح المتعلم في القيام بالإجراءات بمرونة وفعالية على مدى التوازن بين هذه المفاهيم وتلك الإجراءات المتصلة بها.
تنبثق مستويات المعرفة المفاهيمية والإجرائية من مستوى المعرفة الرياضية التي تمثل البعد الثاني من أبعاد القوة الرياضية التي يجب أن يمتلكها الطالب حتى يكون لديه القدرة على صياغة وحل المشكلات؛ ولهذا كان هناك اهتمام متجدد ودائم بكيفية ارتباط المعرفة المفاهيمية والإجرائية، وإمكانية استخدام سياقات العالم الحقيقي لتعزيز الروابط بينهما، وغالبًا ما تتطور المعرفة المفاهيمية والإجرائية في عملية تكرارية متداعمة، ومع ذلك تؤثر المعرفة المفاهيمية بشكل أكبر على المعرفة الإجرائية من العكس.
ولذلك لابد بداية من توضيح مفهوم كل من المعرفة المفاهيمية والإجرائية؛ فالأولى تتضمن العلاقات التي تجعل أجزاء المعرفة الرياضية جميعها من حقائق وتعميمات ومبادئ وقوانين وقواعد رياضية ترتبط فيما بينها بشبكة وثيقة من الروابط، كما وتتضمن إنتاج الأمثلة واللا أمثلة للمفاهيم الرياضية، واستخدام الأشكال والرسومات للتعبير عنها وإدراك الترابط والتكاملية بين المفاهيم، وتحديد المبادئ والقوانين والقواعد المرتبطة بالمفاهيم الرياضية وتفسير العلاقة بينهما، وقد اعتبر الاستيعاب المفاهيمي أحد ركائز الكفاءة الرياضية. أما المعرفة الإجرائية فتعبر عن القدرة على تنفيذ الإجراءات والخوارزميات التي تتكون من القواعد والمبادئ المستخدمة في تنفيذ المهمات، وهي تعبر عن لغة الرموز والشروط، وقد اعتبر مجلس البحث القومي أن الطلاقة الإجرائية هي القيام بالعمليات الإجرائية من مهارات رياضية وخوارزميات بشكل مرن ودقيق وملائم للمواقف.
أفرزت العقود الماضية محاولات عدة لدراسة العلاقة بين المعرفة المفاهيمية والإجرائية، وكيفية تأثير كل منهما في الأخرى، وهل هناك ترتيب مثالي لاكتسابهما، وهل يطغى جانب على آخر في الأهمية، وعلى الرغم من ذلك البحث الطويل إلا أن أحدا لم يصل لتحديد العلاقة الدقيقة بين هذين النوعين من المعرفة الرياضية، ولكن يمكن القول بأن هناك أربعة توجهات أو آراء مختلفة تفسر تلك العلاقة.
يذهب أصحاب الرأي الأول للقول بأن العلاقة تسير من المعرفة المفاهيمية نحو الإجرائية؛ بمعنى القيام بتعليم المفاهيم أولا ثم الإجراءات والمهارات؛ ذلك أن الإجراءات التي يتم تعلمها بطريقة روتينية تكون معرضة للنسيان مع مرور الوقت، بالإضافة إلى أن تعلمها مرتبط بتعلم المفاهيم القائمة عليها لتطويرها وتقوية استيعابها، فقد يلجأ البعض لحفظ الإجراءات و تنفيذها ولكنه يفشل في إبداء الفهم العميق للأفكار و السياقات المرتبطة بها، فمثلا عندما يقوم المعلم بشرح درس جمع أو طرح الأعداد، فإنه يقوم أولا بعرض موقف حياتي يستلزم القيام بعملية الجمع مثلا، فيقوم بتوضيح وشرح مفهوم القيمة المكانية للطلبة و إعادة التجميع، ثم بعد ذلك يعطي أمثلة عددية ويقوم بتطبيق خوارزمية الجمع أو الطرح.
أما أصحاب الرأي الثاني فيعتقدون بأن العلاقة تسير من المعرفة الإجرائية نحو المفاهيمية؛ بمعنى البدء بتعليم الإجراءات أولا، فالطالب يقوم بتعلم الإجراءات ثم تتطور لديه المعرفة المفاهيمية بعد ذلك، فمثلا، عند تدريس قسمة الكسور فإن المعلم يقوم بتعليم طلبته الخطوات الإجرائية بشكل روتيني كالآتي :
فيقول المعلم لطلبته قم بإبقاء الكسر الأول كما هو وحول القسمة إلى ضرب واقلب الكسر الثاني، ثم اضرب البسط في البسط والمقام في المقام كالآتي:
ثم قم بتبسيط الناتج فيكون الناتج = 3، وهذه معرفة إجرائية فلم يقم المعلم بتعليم الطلبة لماذا تم تحويل القسمة إلى ضرب مثلا و تم قلب الكسر الثاني، ولو بدأ المعلم بهذه المعرفة المفاهيمية أولا لكان التعلم أدوم و الفهم أعمق.
في حين يرى أصحاب الرأي الثالث بأن المعرفة الإجرائية والمعرفة المفاهيمية تنموان وتتطوران بشكل مستقل (ثنائية المعرفة كما جاءت في نظرية التغير المفاهيمي)، كأن يقوم المعلم بتعريف مفهوم العلاقة والاقتران، ثم يقوم بإعطاء أمثلة و مسائل تتطلب توظيف تلك المعرفة، دون أن يقوم بربط المفهوم مع الإجراء فلا يصل المتعلم للفهم وقد يفشل أيضا في تطبيق الإجراءات.
وأخيرا يذهب أصحاب الرأي الرابع للاعتقاد بأن أفضل تنظيم للتعلم والتعليم يتم من خلال خلق توازن بين المعرفة المفاهيمية والإجرائية، إذ يتطور كلاهما خلال عمليات متداخلة مترابطة، فأي تطور يحدث للمعرفة المفاهيمية مثلا يرافقه تطور وانعكاس إيجابي على المعرفة الإجرائية، والعكس صحيح، فمثلا لو عدنا لمثال قسمة الكسور:
ثم استخدم النماذج الهندسية، أو المحسوسات كشطائر البيتزا وطلب من طلبته تمثيل كل من السدس و النصف، ثم سألهم :
ولذلك فقد أشار المجلس القومي لمعلمي الرياضيات (NCTM) إلى أن الفرق بين التعلم المفاهيمي والتعلم الإجرائي يكمن في أن الأخير يقوم بتقديم مجموعة من المشكلات في نهاية الوحدة الدراسية مثلا كتطبيق على المفاهيم والمبادئ التي تم تعلمها سابقا، بينما في التعلم المفاهيمي تقود التطبيقات والمشكلات الحياتية السياقية عملية التعلم، وخلال حلها يتم اكتساب المفاهيم، وأضاف إلى أنه متى كان لدى الطلاب نظرة تكاملية نحو الرياضيات فسيكون لديهم بالتأكيد ميل أقل للنظر إلى الإجراءات والمفاهيم على أنها كيانات منفصلة؛ ولهذا يجب أن تشكل هذه التكاملية مركزية في الرياضيات المدرسية، وعليه فإنه يصعب تجاهل الإجراءات إلا أن المبالغة في تعليمها على حساب المفهوم نفسه أمر مرفوض، فمثلا لا يكفي أن نعلم المتعلم كيف يجد مساحة المربع، ولكن أيضا والأهم تعليمه ماذا نعني بالمساحة أولا ثم ننتقل لمفهوم مساحة المربع بسياقات عديدة ونمذجتها.
وبناء على ما سبق، فإن البيئة الأفضل لتعلم وتعليم الرياضيات يجب أن تنطوي على تنظيم تدريس المعرفة المفاهيمية والإجرائية بشكل متزامن، حتى لا تكون العمليات الإجرائية التي يتعلمها الطلبة عرضة للنسيان، بل تبقى مرتبطة بفهم علائقي متين يتعدى مجرد تطبيق خطوات روتينية بلا معنى أو فهم دقيق. وهناك الكثير من النماذج التي تشرح كيفية اندماج هاتين المعرفتين بحيث يسيران جنبا إلى جنب ويؤثر كل منهما في الأخرى، مثل نموذج Perceptual الذي قدمته شيفرد، نموذج Procept الذي قدمه تول وآخرون.
ومن هنا تتضح ضرورة قيام معلمي الرياضيات بتقديم وتعليم المعرفة الرياضية بطريقة متوازنة، وذلك عن طريق تمكينهم من امتلاك العمق المفاهيمي جنبا إلى جنب مع الطلاقة أو المرونة الإجرائية (في آن واحد)، حيث ركزت نظرية التغير المفاهيمي على مبدأ العمل المتزامن، فلا تطغى المعرفة الإجرائية على المفاهيمية ولا المفاهيمية على الإجرائية، بمعنى أنه لا بد أن يوجد توازن بينهما عند القيام بتدريس الرياضيات حتى لا نجد الطلبة في وضع من الفهم الخاطئ للأفكار والمفاهيم والعلاقات بينها، فمعرفة المعلم بهذين النوعين وفهمه لهما ستنعكس آثارها بالتأكيد على طلبته.
ولو سلمنا بمحورية وأهمية التوازن في تعلم وتعليم الرياضيات من خلال اعتماد نهج متوازن بين المعرفة المفاهيمية والإجرائية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إلى أي مدى يقترب أداء المعلمين التدريسي من هذا التوازن؟ وهل يمتلك المعلمون فعلا ذلك العمق المفاهيمي؟ أم أنهم يقضون معظم الممارسات التدريسية في تعليم إجراءات روتينية لا تؤدي إلا إلى فهم آلي لا يدوم ولا يبقى مع الوقت، وهل يعتقد المعلمون فعلا بأهمية وجود هذا التوازن؟ ذلك أن المعتقدات تؤثر في فلسفة المعلم وممارساته التدريسية.
إن التدريس الحقيقي والفعال يتطلب من المعلمين إيلاء الاهتمام الكافي بالعمليات المفاهيمية جنبا الى جنب مع العمليات الإجرائية، إذ أن أغلبهم لا يعطون الوقت ولا الحيز المناسب لذلك، ويركزون على الإجراءات بدلا من التوازن؛ وقد يكون السبب في ذلك افتقار المعلمين للمعرفة الرياضية العميقة للمحتوى والمعرفة البيداغوجية؛ ولا يدركون أن هذا التوازن يعد أساسا في التعلم البنيوي للرياضيات، إذ أن البنية الرياضية تساعد المتعلم على أن يفهم الرياضيّات بشكل أفضل، وتمكنه من رؤية العلاقات القائمة بين المفاهيم الرياضية بشكل أوضح، فيؤمن المتعلم بأن الرياضيات معرفة منظمة تعبر عن هيكل متناسق من العلاقات و البنى الهرمية التراكمية.
إن ما يجري في الصفوف مع طرق التدريس المتبعة، والمتأمل في مناهجنا الرياضية، سيلاحظ تركيزها على التأكيد على حفظ المفاهيم وتطبيق الإجراءات دون إدراك واع لمعانيها، وقد عززت استراتيجيات التقويم التقليدية المتبعة هذا التوجه وأدت الى ظهور الضعف عند المعلمين وطلبتهم؛ إذ أنها وضعتهم ضمن حيز ضيق من المواقف الجاهزة للإجراءات الروتينية دون ارتباط بسياقات حياتية متعددة، فنراهم يفشلون لمجرد تغيير صيغة السؤال أو طرح موقف حياتي يحتاج إلى حل وابتكار البدائل لعدم وجود الربط والفهم الكافي.
ولذلك نوصي معلمي الرياضيات بإتاحة الفرصة للطالب للتوصل إلى العلاقات والتعميمات التي سيتعلمها بنفسه وبقدر من التوجيه من قبل المعلم؛ من خلال تقديم أنشطة منظمة من الكتاب المدرسي أو من أي مصدر غني آخر أو حتى أنشطة يقوم المعلم بإعدادها بنفسه، مع تنويع سياقات الخبرات والأنشطة؛ إذ أن رؤية المفهوم الرياضي بصور مختلفة وإبراز نشاطات متنوعة يدعم اكتساب المفاهيم والمهارات وفهم العلاقات الرياضية وبالتالي ينعكس إيجابا على القيام بالعمليات الإجرائية بطلاقة ومرونة وفهم.
كما نوصي المعلمين بمراعاة البنية التراكمية للرياضيّات؛ وهذا يتطلب أن يصل الطالب إلى درجة تمكنه من إتقان الأساسيات والمتطلبات السابقة للمادة اللاحقة، فالتمكن من حقائق الضرب مثلا هو متطلب سابق لإجراء خوارزميتي الضرب والقسمة، وفهم القيمة المنزلية هو متطلب أساسي في جمع و طرح الأعداد، ولا ننسى ربط المادة الرياضية النظرية بواقع وحياة الطالب اليومية، وهذا يتطلب أن يتم عرض الرياضيات من خلال سياقات واقعية ونمذجتها في إطار حل المشكلات الذي يتطلب ربط المعرفة المفاهيمية بالإجرائية.
ولتحقيق هذا التوازن أيضا، ننصح بالاهتمام باستخدام الوسائل التعليمية والمحسوسات، فهي تساعد الطالب على التعلم، وتقلل من مستوى التجريد للمفهوم كاستخدام بلاطات الجبر مثلا أو الميزان لتعليم مفهوم حل المعادلة و إتقان إجراءاتها، بالإضافة إلى عدم التركيز على التدريب القائم على الحفظ وخاصة حفظ القوانين وعدم استخدام أسلوب التدريس بالتلقين، كأن يلجأ المعلم مثلا للبدء بتدريس مساحة المربع بذكر تعريف المساحة ثم كتابة قانون مساحة المربع وإعطاء مثال مباشر على ذلك، دون ربط المفهوم بسياقات حياتية أو عرض تمثيلات مختلفة، فنرى الطالب يطبق الإجراءات بشكل آلي دون فهم لما يقوم به.
كما نوصي المعلمين بتشجيع العمل الجماعي والنقاشات الهادفة وتحفيزهم على التفكير التأملي للممارسات الصفية، واهتمامهم بمهارة طرح التساؤلات سواء من قبلهم أو من قبل المتعلمين وحثهم على تبرير إجاباتهم من خلال طرح مهمات من نوع (وضح رأيك، برر إجابتك، فسر)، ولا نغفل دور الكتابة و اللغة في الرياضيات كركيزة أساسية للاتصال الرياضي الذي يوضح بشكل كبير الدقة في الإجراءات وعمق الفهم، فالمعلم قادر على معرفة طرق فهم الطلبة من خلال تأملاتهم وكتاباتهم حول فكرة معينة أو خلال البحث عن حل لموقف حياتي مطروح وتكليفه بإعادة صياغة المشكلة مثلا بلغته الخاصة أو تفسير و تحليل إجاباتهم بلغة رياضية سليمة دون الاكتفاء بإجابات عددية صماء.
وأخيرا، ولأن التوجهات البيداغوجية المتنوعة تدعو المعلم للاهتمام بمعرفته الرياضية وتعميقها بطرق تدريس فعالة، فإن على المعلم ألا يقتصر تدريسه على الكتاب المدرسي ومحتواه بصورة حرفية، دون أن يترك المجال لنفسه للإبداع والتطوير، فالكتاب هو أداة بيد المعلم ينبغي أن يكيفه بطريقة واعية وناقدة وأن يعي دوره في إثراء هذا المصدر و عرضه بالطريقة الصحيحة.
المراجع:
Kridler, P. G. (2012). Procedural and Conceptual Knowledge: A Balanced Approach? (Doctoral dissertation).
Rittle-Johnson, B., & Siegler, R. S. (1998). The relation between conceptual and procedural knowledge in learning mathematics: A review. In C. Donlan (Ed.), Studies in developmental psychology. The development of mathematical skills (p. 75-110). Psychology Press/Taylor & Francis (UK).
الف مبارك حبيبتي، فعلا دراسه رائعه وقيمه جدا، نفع الله بعلمك.
ارجوا لك مزيدا من التقدم
ما شاء الله عليكي دكتورة، مقالة قيمة
أرى أن المعرفة المفاهيمة يجب أن تتقدم دائما على الاجرائية حتى يكون تسلسل منطقي وفهم عميق للإنسان في الموضوع المراد دراسته، وخاصة في العمليات على الكسور نتجاهل المعرفة المفاهيمية وننطلق إلى الإجرائية ولا تكون لها مكان في هذا الموضع ولا نعود لها لاحقا للتوضيح….
كل الشكر لك
شكرا جزيلا و بارك الله بك أستاذتنا القديرة و المربية الفاضلة و الخبيرة التربوية مس هيام العمري.