بقلم: أندرس شينكل: أستاذ مشارك في فلسفة التربية في جامعة فريجي بأمستردام، هولندا.
ترجمة: لافي المطيري
تُعد تجربة الدهشة حجر الزاوية في العملية التعليمية، فهي تُشرّع أبواب العالم أمام المتعلم وتُلهِمُهُ لاستكشافه. ولذلك، ينبغي على المُعلّمين رعاية هذه التجربة وتغذيتها.
في صباح شتويّ بارد، داخل فصلٍ دراسيّ للعلوم للصف الخامس، حيثُ تُلقي الشمس أشعتها الخافتة، ينساب صوت المعلم بهدوء وهو يشرح درسًا عن النظام الشمسي، مُتنقلًا بين مُجسّماته المُلوّنة الزاهية. تبدأ أشعة الشمس الذهبية بالتسلل تدريجيًا عبر نوافذ الفصل، مُعلنةً صعودها في الأفق. ومع تقدّم الدرس، ترتفع الشمس شيئًا فشيئًا، لتلامس أشعتها الدافئة طلاب الفصل. يشعر أحد الطلاب بدفء الشمس على ذراعه، فيُدرك أنّه يشعر بالدفء من جانب واحد فقط. يُثير هذا التناقض قشعريرة في جسده، ثم تُباغته فكرة مُدهشة: إنّها ليست مُجرّد “الشمس” التي اعتاد عليها، ذلك الجُرم السماويّ المُسلّم به (أو الغائب في الأيام الغائمة)، بل هي شمس حقيقية، واحدة من تريليونات النجوم المُتوهّجة في الكون الفسيح. وبشكلٍ ما، تُدفئ هذه الكرة الغازية المُلتهبة، التي تبعد ملايين الأميال، بشرته بلطف وهو يدور حولها على كوكبه الصغير. يُغمر الطالب شعورٌ بالدهشة، يُضيء كل شيء حوله، حتى تلك الزوايا المُظلمة في الفصل التي لا تستطيع الشمس الوصول إليها. في تلك اللحظة، التي قد يمتدّ أثرها إلى الأبد، تتغيّر نظرته للعالم ونفسه تمامًا. لقد نشأ اتصالٌ عميقٌ بينه وبين الكون.
“ركّز!” ينادي المُعلّم، مُوجّهًا كلامه إليك أو لزميلٍ آخر. تعود ببطءٍ إلى طبيعتك – ولكن ليس تمامًا. يبقى شيءٌ من تلك الدهشة عالِقًا في ذهنك، كرائحةٍ عابرة أو نغمةٍ خافتة تُلامسُ حواسّك. لقد شُقّ حجابٌ ما، ولم يُسدَل بعد.
قد تتساءل: ماذا تعلمتُ في هذه التجربة؟ ما المعرفة التي اكتسبتُها؟ فأنت تعلم مُسبقًا أنّ الشمس هي شمس، لقد سمعت ذلك وقرأته مراتٍ عديدة. وتعلم أنّ الأرض كوكبٌ يدور حول الشمس على بُعد 93 مليون ميل. في الواقع، كلّ هذه المعلومات كانت ضروريةً لتُختبر تلك اللحظة من الدهشة. إذن، ماذا تعلمتَ حقًا؟ قد تبدو الدهشة مُجرّد إضافةٍ عاطفية لطيفة للتجربة التعليمية، ولكن من منظورٍ تربويّ بحت، قد لا تبدو ضرورية.
لكن هذا الاعتقاد خاطئ. ففي حقيقة الأمر، تُجسّد الدهشة جوهر العملية التعليمية، فهي تفتح آفاقًا جديدةً أمام المُتعلّم وتُوسّع مداركه. يجب على كلّ مُعلّمٍ حريصٍ على إثراء تجربة طلابه المعرفية أن يَعتبر الدهشة ركنًا أساسيًا في هذه العملية، وأن يبذل قصارى جهده لتعزيز هذا الشعور لديهم.
من الجدير بالذكر أنّ المعلم الذي يسعى لتعزيز الدهشة لدى طلابه سيُواجه تحدّياتٍ كبيرة، إذ سيضطرّ إلى السباحة ضدّ التيار. فمن أبرز هذه التحديات، هيمنة أنظمة الاختبارات الموحدة ومساءلة الأداء والمُقارنات الدولية والتنافسية، والتي تُمثّل جميعها رؤيةً آليةً ضيّقةً للتعليم. وفي ظلّ سعي الحكومات الحثيث لمُواكبة التطوّر الاقتصاديّ والتكنولوجيّ للدول الأخرى، ينصبّ تركيزها على وظيفةٍ واحدةٍ للنظام التعليميّ، وهي إنتاج أكبر عددٍ مُمكنٍ من المُوظّفين ورجال الأعمال المُنتجين اقتصاديًا و”المُبتكرين”، وذلك غالبًا في مجالات الأعمال أو العلوم. ولقياس أداء بلدٍ ما (هل نحنُ مُتقدّمون أم مُتأخّرون؟)، تُجرى مُقارناتٌ دوليةٌ لدرجات الاختبارات. وقد أشار في السياق البريطانيّ أستاذ السياسة التعليمية ديف تروتمان، إلى “أنّ هذه المُقارنات تُؤدّي إلى تهميش “الجوانب الأقلّ قابليةً للاختبار الروتينيّ من المناهج الدراسية”. وبالتالي، يُصبح المناخ التعليميّ غير مُشجّعٍ على إثارة الشعور بالدهشة لدى الطلاب.
أما التحدي الثاني الذي يواجه تعزيز الدهشة فيكمن في عامل الزمن. فمع أنّ فقدان الأطفال لشعورهم بالدهشة مع التقدم في السن ليس حتميًا، وأنّ البالغين – نظريًا – قادرون على اختبار الدهشة كالأطفال، إلا أنّ تنامي إدراكهم للعالم وإضفاء الرتابة عليه يُقلّل من فرص انبهارهم. فكلّما زاد اتّساع معرفتهم، تطلّب الأمر بذل المزيد من الجهد لرؤية روعة العالم وغموضه. فالرتابة – حتى وإن لم تُفضِ إلى فهمٍ حقيقيّ – قد تُضعِف الشعور بالدهشة. ولذلك، يُواجه المعلمون الراغبون في تنمية هذا الشعور تحدّيًا وصفَهُ فيلسوف التعليم كيران إيغان بـ “نزع الرتابة عن العالم”.
لفهم دوافعنا وراء تشجيع المعلمين على التجديف ضد التيار، علينا أولاً أن نتعمق في جوهر التعليم ونسعى لتحديد ماهيته أو ما نطمح أن يكون عليه. أتفق مع الفيلسوف ريتشارد بيترز في فهم “التعليم” ليس كمجرد نشاط محدد يقتصر على مكان معين (كمدرسة مثلاً)، بل كهدف وغاية يمكن – بل ويجب – تحقيقها في أي مكان، خاصةً إذا كانت تجارب الطلاب “تربوية” بحق.
إن القول بأن هدف التعليم هو تحويل الأطفال إلى مواطنين فاعلين يساهمون في الاقتصاد أو المجتمع، أو حتى تمكينهم من تحقيق الازدهار، لا يُلقي الضوء الكافي على مفهوم التعليم في حد ذاته، ولا يُحدد السمات التي تجعل الأنشطة والتجارب “تربوية”.
لذلك، دعونا نُمعن النظر في كيفية فهم المعلمين لدورهم أثناء العملية التعليمية. إن ما يسعى إليه المعلمون حقًا هو فتح آفاق العالم أمام طلابهم، وذلك من خلال عدسات تخصصات متنوعة، كالتاريخ والعلوم والرياضيات وغيرها. فهم لا يكتفون بفتح نوافذ على جوانب مُختلفة من العالم من خلال هذه العدسات، بل يفتحون أيضًا عوالم هذه التخصصات نفسها.
يكمن أمل المعلم وهدفه في أن تُصبح موادّ التدريس شفافة، بحيث تُتيح للطلاب رؤية العالم من خلالها بوضوح، وأن ينبض العالم بالحياة من خلال تفاعلهم معها. وأن يتواصل الطلاب مع العالم بما يتجاوز حدود الكلمات والأرقام والصور في الكتاب المدرسي، مما يُفضي إلى فهم أعمق للعالم الذي يعيشون فيه. وبالتالي، سيتمكنون من طرح أسئلة أكثر دقة وإثارة للاهتمام حول هذا العالم، وفي الوقت نفسه، يُقدّرون جماله وغموضه.
يُدرك المعلمون، على عكس صانعي السياسات، أن الدهشة ليست عدوًا بل حليفًا قويًا في رحلتهم التعليمية. فالدهشة هي حالة ذهنية تُثير تساؤلات لا حصر لها، وهي منبعٌ غنيٌّ للتحفيز الذاتي، ذلك المفهوم الذي يُشكّل محورًا أساسيًا في مجال التعليم والبحث التربوي.
ومن المؤسف أن الدهشة غالبًا ما تُخلط بالفضول أو الرهبة. فالفضول يحفّز الاستفسار، بينما تُسكِت الرهبة التساؤل بانبهارها المُفرط.
إذا تأملتَ في مشاعرك عند اختبارك للدهشة أو الفضول أو الرهبة، ستُدرك – كما آمل – وجود اختلافات جذرية بينها. فالدهشة هي حالة من الوعي المُتّقد، نافذةٌ نُطلّ من خلالها على العالم بإدراكٍ مُختلفٍ ومشاعر مُتجدّدة، مُغايرةً لإدراكنا المُعتاد للأشياء. فنحن نُدرك موضوع دهشتنا على أنّه غريب أو مُحيّر، يُغلّفهُ حجابٌ من الغموض، ويتجاوز فهمنا المحدود، ولكنه يستحقّ اهتمامنا لذاته. قد تُصاحب الدهشة رغبةٌ في الاستفسار والبحث عن تفسيرات، ولكنها تبقى في المقام الأول حالة من التقبّل، حيث يحتلّ موضوع الدهشة مركز الصدارة.
فالدهشة مُنفتحةٌ على الآخر، مُستعدّةٌ لاستقبال ما يكشفه لنا العالم. وغالبًا ما تتركنا الدهشة عاجزين عن الكلام، لكنها لا تُصدر أحكامًا قاطعة كقولنا بأنّ موضوعها عظيم، كما تفعل الرهبة. فنحن نواجه في المقام الأول الغموض، وليس القوة أو العظمة.
تُساعدنا هذه الخصائص في فهم أهمية الدهشة في العملية التعليمية. فهي تُغوص في أعماق ما يَخفى عنا، ولا نفهمه، وربما لا يمكننا فهمه أبدًا. كما تُبقي على اهتمامنا بالعالم “الرتيب” أو تُعيد إحياءه. ومن خلال كسر حاجز الرتابة مع هذا العالم – اختراق حجاب أفكارنا المُسبقة وتصوراتنا المُتعارف عليها – تُفسح الدهشة المجال أمامنا للنظر في احتمالات بديلة: طرق مُختلفة للتفكير في “العالم”، وطرق مُختلفة لتنظيم “عالمنا” – هذا المسكن الهشّ الذي بنيناه لأنفسنا في هذه الزاوية الاستثنائية من الكون، يُدفئهُ نجمُنا الخاص.