لا يخفى عن الممارس التربوي مدى الحرص الشديد على أهمية إتقان المتعلم للمهارات الأساسية في الرياضيات والقراءة والعلوم، واهتمام الباحثين التربويين والأساتذة الأكاديميين في كليات التربية وفي المراكز والإدارات والهيئات المشرفة على التعليم وتطويره، وحرصهم الشديد على المعرفة التي يجب التركيز عليها خلال مسيرة المتعلم في رحلته التعليمية.
وقد برز في الآونة الأخيرة التركيز على مجالات التعلم في القراءة، والرياضيات، والعلوم ليس على الصعيد الوطني فحسب، بل أن بؤرة هذا التركيز شملت كثيرا من النظم التعليمية والمؤسسات التربوية في كثير من دول العالم، فبرز منحى تكامل العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات STEM في عام 2000م، وظهرت دراسة الاتجاهات الدولية في الرياضيات والعلوم TIMSS وهو اختصار لـ Trends in International Mathematics and Science Study ، وشاركت العديد من الدول في هذه الدراسة، وقد بدأت المملكة العربية السعودية بالمشاركة في اختبار TIMSS منذ عام 2003م، ويستهدف الاختبار المعايير العالمية لمناهج العلوم والرياضيات للصفين الرابع الابتدائي، والثاني المتوسط، وبرز برنامج التقييم الدولي للطلاب PISA وهو اختصار لـ: Program for International Student Assessment ويعني برنامج التقييم الدولي للطلاب، تعده وتشرف على تطبيقه منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) كاتجاه يهتم بقياس معرفة مدى تمكن الطلاب والطالبات من المهارات والمعارف الأساسية في مواد القراءة، والرياضيات، والعلوم، وقد بدأت المملكة العربية السعودية في اختبار PISA منذ عام 2018م، أي انها شاركت ثلاث مرات حتى الآن.
وفي السياق ذاته بدأت المملكة العربية السعودية في اختبار PIRLS منذ عام 2011، أي أنها شاركت ثلاث مرات حتى الآن، وهو اختبار دولي يقوم على أساس المقارنة لقياس قدرات طلاب وطالبات الصف الرابع الابتدائي في مهارات القراءة باللغة الأم للدولة المشاركة بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية، وهو اختصار لـ Progress in International Reading Literacy Study وتعني الدراسة الدولية لقياس مدى تقدم القراءة في العالم.
والمتأمل في مجالات هذه الدراسات والاختبارات التي تنفذ على نطاق واسع يجد أنها تركز في مجملها على ثلاث مجالات هي: القراءة، والرياضيات، والعلوم، كأساس لكل العلوم والمعارف والمهارات. ويتم رصد مستوى التقدم في اكتساب هذه المعارف والمهارات بشكل دوري خلال رحلة المتعلم التعليمية.
وبالنظر إلى الطبيعة البنائية للمنهج والتنظيم الرأسي (الحلزوني) لتتابع تلك المعارف والمهارات فإن الفاقد التعليمي للمعارف والمهارات الأساسية لأي مجال من المجالات يُعيق تقدم المتعلم في تعلم مهارات لاحقة خلال مسيرته في رحلته التعليمية، إذ أنّ المعرفة السابقة شرط لاكتساب المعرفة اللاحقة، كما أن التكامل بين فرع المعرفة يجعل الموضوعات أكثر تماسكًا، وأكثر ارتباطًا بواقع الحياة مما يساهم في زيادة التحصيل العلمي للطلبة.
ومن هنا تبرز الحاجة الملحة في صّد الفاقد التعليمي في المهارات والمعارف الأساسية لدى المتعلم في المراحل الأولى من رحلته في تعلم مجالات: القراءة، والرياضيات، والعلوم، وقد حرصت هيئة تقويم التعليم والتدريب على سرعة إصدار نتائج أداء الطلبة في الاختبارات الوطنية التي تطبق على نطاق واسع وتستهدف مرحلة تعليمية تمثل محصلة نهائية لما تم تعلمه خلال تدرجه في السلم التعليمي في الصفوف والمستويات الدراسية، لتبدأ في ضوء تلك النتائج عمليات التحسين والتطوير.
ووسط إشادة واسعة من الخبراء الدوليين، نالت تجربة المملكة العربية السعودية في الاختبارات الوطنية إعجاب الحاضرين، حيث حصلت هيئة تقويم التعليم والتدريب على جائزة أفضل عرض لورقة بحثية نُشرت حول اختبارات نافس في المؤتمر الدولي للإحصاء التربوي والقياس والتقويم 5-6 أغسطس 2024م، حيث ظهر اهتمام دولي للاستفادة من منهجية القياس في المملكة العربية السعودية.
ولعل من المناسب تسليط الضوء على أهمية تلك المجالات (القراءة، والرياضيات، والعلوم) التي يتم قياسها بشكل دوري على المستوى الدولي في الاختبارات والدراسات الدولية واسعة النطاق، وبشكل سنوي على المستوى الوطني في الاختبارات الوطنية، وهنا لا بد من بيان أنّ الاهتمام بتلك المجالات ينبع من رؤى تطويرية طموحة، تستند إلى أساس نظري متين، وتتفق مع التوجهات الوطنية التي تسعى إلى إعداد مواطن منافس عالميًا، وهو المستهدف الوطني الذي تم رصده في برنامج تنمية القدرات البشرية أحد برامج رؤية المملكة 2030.
ولذا فإن تعليم العلوم الطبيعية (العلوم، والرياضيات) يُعدّ مجالاً خصباً للتنافس بين الدول لبيان مدى تقدمها أو تخلفها، حتى إن أمريكا اعتبرت نفسها (أمة معرضة للخطر) عندما وجدت أن تعليم العلوم والرياضيات في الإتحاد السوفيتي -روسيا حالياً- يتفوق عليها إبان التقرير الشهير الذي صدر عن الهيئة المكلفة من قبل الرئيس الأمريكي في الثمانينات لدراسة واقع تعليم العلوم والرياضيات في أمريكا مقارنة بالدول الأخرى، وتصدر بعدها الهيئة الوطنية لتعليم العلوم والرياضيات في أمريكا تقريراً حديثاً “للأمة الأمريكية في القرن الــ21” تضع له عنواناً أكثر إثارة وأشد تخوفاً إذ عنونته ( قبل أن يفوت الأوان Before It’s Too Late) وهذا يشير إلى الاهتمام الذي توليه أمريكا لتعليم العلوم وخطورة التهاون في هذه القضية على مستوى الأمة، وما هذه الخطورة المعلنة إلا لما تراه أمريكا وغيرها من ارتباط وثيق بين تقدمها وسبقها الدولي وبين جودة ما تقدمه للمتعلمين من مناهج للعلوم ومن طرق تدريس لها ( المحيسن، 2002م ص15).
ومن انعكاسات تلك الفكرة ما ذكره العالم ويليام دول 2016م بقوله: “أصبحت أمريكا بفضلها قائدة الدول الصناعية في العالم من حيث الإنتاج” (ص24)، وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية رائدة الإصلاح في مناهج العلوم وتدريسها، ويشير ويليام دول (2016م) بأن “العلوم هي الشغل الشاغل لنا بوصفنا أمريكيين، أصبحت أمريكا بفضلها قائدة الدول الصناعية في العالم من حيث الإنتاج، وحققت السيطرة في مجالات تتعدى العلوم نفسها، وقد عبر في موضع آخر بأن تاريخ منهج المدرسة الأمريكية قد تم صياغته من وجهة نظر حداثية في العلوم الطبيعية من أي فرع آخر” ويذكر دول ما أجاب عنه هاربرت سبنسر عندما سئل: عن أي معرفة أهم؟ فأجاب هي: العلوم Science، لحفظ النفس نحتاج إلى العلوم، لكسب العيش نحتاج إلى العلوم، لوظائف التكاثر نحتاج إلى العلوم، للمواطنة الصالحة، وللتذوق الفني، ولأغراض الانضباط، العلوم هي أفضل إعداد لكل هذه الأنشطة.
ولتوضيح ذلك نذكر ما أشار إليه دول في كتابه “المنهج في عصر ما بعد الحداثة” بقوله: ” لقد تم صياغة الفكر الأمريكي في جوانبه العقلية والاجتماعية والتربوية خلال العقود السبعة أو الثمانية الأولى من القرن العشرين، والذي وصل إلى ذروته في التأثير في أوائل الستينات في القرن العشرين بعيد إطلاق المركبة سبونتيك ومع بداية الحركة الإصلاحية في المناهج، حيث إن تاريخ منهج المدرسة الأمريكية قد تم صياغته من وجهة نظر حداثية في العلوم الطبيعية أكثر من أي فرع آخر.
لقد ظهرت الراءات الثلاث: القراءة Reading، والكتابة Rating، والحساب Rithmetic، واشتهرت في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهي تلبي حاجة المجتمع الصناعي الذي كان يتطوّر آنذاك، لا يرى الإنسان للوهلة الأولى أي ارتباط أو علاقة بين الراءات الثلاث، لكن الوظيفية المعدة مسبقاً موجودة وهي الوظيفية الصناعية، حيث إن الأهداف محدّدة مسبقاً كما أرد رالف تايلور، هذه الوظيفية لا تنسجم مع عبارة جان بياجيه التي تقول: “إنّ الحياة هي في الأساس تنظيم ذاتي” ولا تنسجم -أيضا- مع عبارة جون ديوي التي تقول: “إن العملية التربوية لا تنتهي عند حد معين”؛ لأنهما جاءتا من سياق عضوي حيوي (بيولوجي) يتميز بالحيوية والبعد عن المادية، حيث يرى دول أن علم الأحياء بمفاهيمه حول التعقيد والهرمية والعلاقات الشبكية التفاعلية صورة مجازية غنية في فكر المنهج، ومن هنا يبرز مفهوم المنهج الحلزوني عند جيروم برونر؛ لأن المنهج الثري يتطور في الثراء والتعقيد.
حاول دول في نموذجه التحرك خارج الإطار الحداثي (الأنظمة الميكانيكية المغلقة) إلى إطار ما بعد حداثي (الأنظمة الحيوية المفتوحة)، التي تحدث بها تحوّلات وعمليات استبدال للطاقة والمادة معاً، على خلاف الأنظمة المغلقة، وأراد بذلك التحول أن يكون المنهج الذي يتم تصميمه باستخدام التنظيم الذاتي كافتراض أساسي يختلف نوعيًّا عن المنهج الذي يتم تصميمه على افتراض أن دور الطالب يقتصر على الاستقبال كما تعمل الآلة في النظام الميكانيكي المغلق.
لقد أكدت الراءات الثلاث على القراءة والحساب والكتابة، وبرز اتجاه ناقد يؤكد على مهارات التفكير الإبداعي وحاجة المناهج إلى مهارة الإبداع وكيف يتم تنمية الإبداع من خلال المنهج، حيث تُعدّ العلوم الطبيعية من أهم المناهج لتنمية مهارات الإبداع وحل المشكلات.
وهذا ما دعانا إلى إضافة العلوم (الإبداع) إلى القراءة والحساب (الرياضيات)، لقد خرج ويليام دول بعد هذه القراءة وإعادة التأويل بنظريته الحديثة عن المنهج وهي: “الراءات الأربع R,s” الثراء Richness، والتواتر Recursion، والارتباط (العلاقات) Relations، والصرامة Rigor، يرى دول الراءات الأربع (4R,s) كبديل لنموذج تايلر.
وقد يعود السبب في هذا التطور إلى السؤال المنهجي أي المعرفة أهم، وما هي مجالات التعلم التي تقودنا إلى إعداد مواطن منافس عالميًا، لقد أشار جون ميللر أن لكل منا طريقته الخاصة والمتميزة في رؤية الأشياء، أو لكل منا نظرته للعالم، ونظرتنا للعالم مزيج من قيمنا واتجاهاتنا وإدراكاتنا، وهذه النظرة تساعدنا في تنظيم ما يجري من حولنا، وقد عبّر عن تلك النظرة في كتابه الطيف التربوي “توجهات المنهج” (1995م)، بأنها موقف أساسي نحو التدريس والتعليم يتضمن عدداً من الأبعاد على المستوى النظري والعملي.
وحتى تتضح الرؤية فإن التركيز على مجالات: القراءة والرياضيات والعلوم، هو في حقيقة الأمر تركيز على المناهج النظرية والمناهج العملية، والتكامل ما بين النظرية والتطبيق فالفهم القرائي واستيعاب المقروء يؤثر بشكل أو بآخر على فهم واستيعاب علوم الحياة والاستدلال على التغيرات الفيزيائية والكيمائية، والهندسة والقياس مرتبطة بالشكل البلوري للذرات وقياس كميات العناصر والمركبات، وعلوم الأرض والفلك تتكامل مع الأعداد والعمليات عليها، وهكذا فإن هذه المجالات الرئيسة تُعدّ أساس لكل العلوم والمعارف والمهارات، وتتكامل في ما بينها بحيث يؤثر كل مجال من مجالات التعلم على الآخر.
المراجع:
جون ب. ميللر. (1995م). الطيف التربوي : توجهات المنهج. (ترجمة إبراهيم محمد موسى الشافعي). الرياض: جامعة الملك سعود.
دول، ويليام. (2016م). المنهج في عصر ما بعد الحداثة. (ترجمة: خالد عبدالرحمن العوض). الرياض: العبيكان للنشر.
المحيسن، إبراهيم عبدالله. (2002م). تعليم العلوم في المرحلة المتوسطة في أمريكا واليابان وبريطانيا والسعودية: دراسة ميدانية مقارنة. المجلة التربوية، 16 (64)، 11 – 66.
هيئة تقويم التعليم والتدريب. (2019م). وثيقة معايير مجال تعلَمٌ العلوم الطبيعة. المملكة العربية السعودية: الرياض.