إنَّ المتتبِّع لوضع المرأة عبر التاريخ بشكلٍ عامٍ وعملها بشكلٍ خاصٍ يلاحظ اختلاف دورها عبر الحضارات، ولكن لا أحد يُنكر أهمية دورها في المجتمع جنبًا إلى جنبٍ مع الرجل، بل إنها وصلت إلى أعلى المناصب القيادية؛ مثل بلقيس ملكة سبأ. ولمَّا جاء الإسلام ،عزَّز دور المرأة ورفع مكانتها في المجتمع من خلال إسهاماتها في الدعوة، ومشاركتها في الجيوش (القلا، 2020). ومع إتاحة الفرصة للمرأة في التعليم، دخلت -وبقوة- سوق العمل، وتغيَّرت اتجاهات المجتمع نحو حجم المشاركة والمهام التي يمكن أن تقوم بها، بل تحول الاهتمام من مجرد مشاركة في العمل إلى قضية الدور القيادي الإداري الذي يمكن أن تقوم به. وفي هذا الصدد، ظهرت العديد من الأبحاث والدراسات العلمية التي حاولت معالجة هذه القضية، حيث طرحت العديد من التساؤلات الأساسية في هذا الجانب، والتي كان من أهمها: هل من الممكن أنْ تكون المرأة قائدةً إداريةً؟ هل تختلف المرأة عن الرجل في سلوكياتها وفعاليتها القيادية؟ لماذا لا يصل إلَّا عددٌ محدود من النساء إلى المناصب القيادية؟ (المنقاش، 2017).
وتكمُن الغاية من تمكين المرأة من الاعتماد على ذاتها ورفع ثقتها بنفسها وتنمية شعورها الداخلي بالقوة والقدرة على الاستقلال واتخاذ القرار وتنمية قدراتها القيادية والإدارية؛ لتخرج من دائرة التهميش الاجتماعي إلى دائرة الإنتاج والاستثمار (رفاعي، 2015). ويؤكد تقرير “المرأة العربية والقيادة” الصادر عن مؤسسة دبي للمرأة (2021) أنَّ %82 من القيادات النسائية العربية اللاتي شملتهن الدراسة يرين أنَّ تمكين المرأة في المناصب القيادية حاليًا أفضل بكثير مما كان في الخمس سنوات السابقة. وخير شاهدٍ على ذلك حال المرأة السعودية اليوم؛ إذ حظيتْ بدعم واهتمام قيادتنا الرشيدة -يرعاها الله- في كافة المجالات، ولا سيما في عالم الإدارة؛ فأُتيحتْ لها فرصٌ غير مسبوقة في تقلُّد الوظائف القيادية العليا، بعد أنْ ظلَّت مكبلةً بـسقْفٍ زجاجيٍّ لم تتجاوزه سنواتٍ عديدةٍ، وترك ظلاله في الحدَّ من طموحاتها إلى هذه النوعية من الوظائف، فكانت أقصى أحلامها أن تُتاح لها مجرَّد فرصُ التوظيف.
ومع إطلاق رؤية المملكة 2030، مُنِحتْ المرأة السعودية اهتمامًا كبيرًا وأبرزت أنَّ أحد أهم أهدافها هو زيادة فرص مشاركة المرأة في التنمية والمشاركة في سوق العمل من نسبة (%5) إلى (%25) (وثيقة رؤية المملكة العربية السعودية 2030، 2016). وبذلك تسعى المملكة العربية السعودية إلى تفعيل دور المرأة، وتمكينها والوصول بها إلى مواقع صنع القرار ومنحها الصلاحيات التي تمكِّنها من المساهمة الإيجابية في تنمية المجتمع، وتحقيق العدل والمساواة في الفرص المتاحة للجنسين؛ وبخاصة أنَّ المرأة تشكِّل نصف المجتمع (عمر، 2020)، حيث أشارت إحصاءات الهيئة العامة للإحصاء (2020) أنَّ نسبة الإناث هي (%49.06) مقارنةً بالذكور (%50.64) (الهيئة العامة للإحصاء، 2020). لذلك فإنَّ تهميشها وإقصاءها من الحياة الاقتصادية والاجتماعية يجعلها طاقةً معطَّلةً وموردًا غير مُسْتثمر. فأطلقتْ مملكة العطاء العنان للمرأة السعودية لتقفز فوق ذلك السقف الزجاجي، وتتقلَّد العديد من الوظائف النوعية الرفيعة المستوى، وتنخرط بكلِّ طاقتها في معترك التنمية الإدارية، بل وأصبح بإمكانها تحطيم ذاك السقف الزجاجي المصطنع (أحمد والشريف، 2021). وها هي المرأة السعودية قد خطت خطواتٍ عملاقةً، وتولت مناصب هامة في الدولة، وها هي الأميرة ريما بنت بندر أولُ سفيرةٌ سعوديةٌ، تمَّ تعينها سفيرةً لمقام خادم الحرمين الشريفين-يحفظه الله-لدى الولايات المتحدة الأمريكية في بداية عام 2019م، كما تمَّ تعيين آمال يحي المعلمي في 20 أكتوبر 2020سفيرةً للملكة العربية السعودية في النرويج؛ لتصبح ثاني سفيرة سعودية، وحديثًا في 22 أبريل الحالي 2021م تم تعيين إيناس أحمد الشهوان سفيرةً لمقام خادم الحرمين الشريفين-حفظه الله- في السويد؛ لتصبح بذلك ثالث سفيرة سعودية، كما تمَّ تعيين د. ليلك الصفدي رئيسًا للجامعة الإلكترونية؛ باعتبارها أول امرأة ترأس جامعة سعودية طلابها من الجنسين.
ومن العوامل التي ساهمت في تدعيم تمكين المرأة لتولي المناصب القيادية التوسع في تعليم الفتيات، وزيادة دافعية المرأة للتعلم؛ لأنَّ ذلك هو الضمان الوحيد بالنسبة لهن للتخلُّص من التهميش في المجتمع، ومن ذلك أيضاً تطور اتجاهات أولياء الأمور الذين باتوا طامحين لأنْ يتقلَّد بناتهن المراكز المهنية والمناصب القيادية الرفيعة في البلاد. وكذلك من العوامل التي دفعت المرأة إلى تولي مناصب قيادية رغبتها العارمة في الحفاظ على مستوى معينٍ من العيش الكريم. ولعل الدافع الأكبر لذلك كلِّه قيام المملكة العربية السعودية بتشجيع النساء على تقلد مناصب قيادية (القرني، 2019)، وذلك بعد تخلصها من القيود التي كانت تحول دون تمكينها قياديًا، كنظرة المجتمع للمرأة، وعدم أهليتها للولاية، وأنَّها مقتصرة فقط على الرجال، بالإضافة إلى الصورة الاجتماعية لمحدودية الوظائف التي يتوجَّب على المرأة الالتحاق بها؛ منعًا لاختلاطها بالرجل، ومراعاةً لوضعها الأسري؛ الذي يقتصر على كونها زوجًا وأمًا، أو لأسبابٍ أخرى قد تعود للمرأة ذاتها في تفضيلها الأعمال الروتينية والأعمال ذات الدوام الجزئي، والمسارات الوظيفية الأقلّ تقدمًا وتطورًا (الفاسي، 2009). ومن هنا ينبغي التوعية بأنَّ تمكين المرأة لا يعني سيطرتها على الآخرين، ولا تمليكها نفوذا أقوى للسيطرة على الرجل ومواجهته، ولكنَّه يهدف إلى تنمية مهاراتها الذاتية، والاعتماد على النفس؛ بما ينعكس إيجابًا على المجتمع، فقضية تمكين المرأة لا تقتصر على بُعد المساواة بين الجنسين فيما أقرَّه الشرع كالأجور وفرص العمل والمشاركة في الجمعيات الأهلية والتعليم في كافة التخصصات وتداول المعلومات والتثقيف، ولكن لها أبعادٌ أخرى متمثلةً في البعد التجميعي والتنموي والاجتماعي؛ إذ يهدف البعد التجميعي إلى الجمع بين البعدين الفردي والجماعي. فتمكين المرأة يؤدي في النهاية إلى تمكين كامل المجتمع، أمَّا البعد التنموي فيهدف إلى حثِّ كافَّة أفراد المجتمع على تطوير قدراتهم وزيادة وعيهم بواجباتهم تجاه مجتمعهم لتأهيلهم للمشاركة في عملية التنمية. أمَّا البعد الاجتماعي فيتمثَّل في دعم استقلال المرأة ومنحها حريتها في صنع واتخاذ القرارات الخاصة بها؛ سواءً على الصعيد الشخصي أو على صعيد العمل الإداري دون الرجوع للقيادات الرجالية؛ مما يعزِّز ثقتها بنفسها ويدفعها لتبني المبادرات والمشاريع الداعمة للتطوير المستمر (مرسي والبكري، 2021).
وممَّا يشجع على تمكين المرأة السعودية وإتاحة الفرصة لها لتقلُّد مناصب قياديةٍ عُليا، الصفات القيادية التي تميّزها والسمات الشخصية التي تفرَّدتْ بها والتي تستطيع من خلالها ممارسة القيادة على نحْو يستثمر الطاقات، ويوظِّفها لخدمة الوطن، ومن بين هذه الصفات (الرواشدة والعرب، 2016) ما يلي:
- الإبداع: تشير العديد من الدراسات إلى أنَّ المرأة أكثر إبداعًا من الرجل بحوالي (%25)، وهذا يمنح المرأة القدرة على إيجاد حلول غير مسبوقة، والمساهمة بأفكارٍ تُعين المؤسسات التي تتولى قيادتها على تغيير نمط العمل فيها بما يتناسب مع التغيرات السريعة التي تجري في العالم.
- بعد النظر: المرأة تحرص على شمول جميع المعلومات أكثر من الرجل، وبالتالي في كثير من الأحيان تكون صاحبة نظر أبعد من الرجل في قضايا العمل.
- الاتصال: المرأة مستعدةٌ فطريًا للحوار أكثر من الرجل في نفس الظروف، وتَعْتبر الاتصال والحوار أساسًا لإدارة العمل، كما أنَّها أكثر انفتاحًا للتعبير عن آرائها وقناعاتها عند مواجهة المشكلات الإدارية والقيادية.
- التعاطف: إنَّ ما تتصف به المرأة من الرحمة وتقدير احتياجات الآخرين ومراعاة ظروفهم الخاصة تعينها على بناء علاقاتٍ حقيقةٍ وصادقةٍ؛ مما يجعل الأفراد في المؤسسات التي تتولاها يحبونها، ويتحركون معها نحو الأهداف المشتركة برغبتهم.
- استعدادها للتضحية: يبرز هذا الاستعداد لدى المرأة من قدرتها على تحمُّل الألم الذي يتجاوز المجال المعنوي إلى المجال المادي الذي يلحق بالمؤسسة.
- التفويض وإعطاء الصلاحيات: إنَّ قوة المرأة في العمل أقلُّ من الرجل، وهي أرقُّ منه الرجل، وبالتالي فهي أكثر من الرجل في تفويض وإعطاء الصلاحيات للأفراد العاملين معها، وتوزيع المهام والمسؤوليات، وتخويلهم حرية اتخاذ القرار؛ مما يجعل الفريق متحمسًا ومتماسكًا.
وعلى الرغم من تلك الجهود وتعدُّد الإنجازات التي تشهد بقدرة النساء السعوديات على كسر السقف الزجاجي، إلَّا أنَّ هناك العديد من المعوِّقات التي تحول دون وصولهن إلى المراكز التنفيذية العليا ودوائر صنع القرار، رغم ما يمتلكْنه من قدراتٍ ومهارات، وما توصلن إليه من إنجازات تؤكد ارتقاء مستوى تأهيلهن، وتفوق سقف التوقعات منهن في بعض الأحيان، منها (القرني، 2019):
- المعوقات الشخصية (أو ما نسميها بالنيران الصديقة): والمتمثلة في عدم ثقتها بقدراتها وإمكاناتها الذاتية؛ نتيجة عدم الاهتمام بتنشئة المرأة كعنصرٍ قياديٍّ فعَّال، وخوفها من الفشل، وضعف قدرتها على المواجهة والتحدي.
- العوامل التنظيمية: وتتمثَّل في قلة الصلاحيات الممنوحة لها، والمركزية في اتخاذ القرارات، وحصرها على المسؤولين الرجال، وتفضيل المرأة العاملة أن يكون المسؤول عنها الرجل بدلًا من المرأة، وقلة تبادل الخبرات بين القيادات الإدارية النسائية، فضلاً عن عدم وجود معايير واضحة أو مكتوبة عند اختيار القيادات النسائية.
- العوامل الاجتماعية: والتي يبرز من بينها دور المجتمع المُفْرِط في الثقة بالرجل أكثر من المرأة، والنظر إلى دور المرأة على أنَّه ينحصر في إنجاب الأطفال ورعايتهم، والنظرة السلبية للمرأة الناجحة مهنيًا على أنَّها مقصرةٌ في واجباتها الأسرية، وعدم تقبُّل الرجل أنْ تكون المرأة مسؤولة عنه، بالإضافة إلى شيوع العادات والتقاليد التي لا تُحبِّذ أنْ تكون المرأة في منصبٍ قياديّ.
وعلى الرغم من هذه المعوقات إلَّا أنَّ المرأة السعودية أثبتتْ أنَّها قادرةٌ على أنْ تكون شريكًا فاعلاً في بناء الوطن، ومحركًا رئيسًا في قطار التنمية 2030، فقد حقَّقتْ -وبجدارةٍ -نجاحاً باهراً في كافة الأصعدة التنموية، ورسمتْ خُطى قيادةٍ إبداعيةٍ رائدةٍ، جعلتها تتبوَّأ أرقى المناصب في أشرف بقاع الأرض قاطبةً؛ بلاد الحرمين الشريفين، حفظها الله.
المراجع:
أحمد، زكريا، والشريف، سماح (محرران). (2021، فبراير). المرأة السعودية تتحدى “السقف الزجاجي” في عالم الإدارة (تقرير). التنمية الإدارية، (178)، 36-34. https://tanmia-idaria.ipa.edu.sa/Pages/178-20.aspx
رفاعي، عبير. (2015). المرأة والتنمية والمجتمع المحلي. المكتبة العصرية للنشر والتوزيع.
الرواشدة، علاء، والعرب، أسماء. (2016). المعوقات التي تحد من مشاركة المرأة العربية الأردنية في الحياة السياسية في ضوء بعض المتغيرات الاجتماعية: دراسة ميدانية على عينة من النساء الرائدات في إقليم الشمال. مجلة دراسات العلوم الانسانية والاجتماعية، 43(3)، 1373-1353.
عمر، أحلام. (2020). التمكين الاقتصادي للمرأة السعودية: الأبعاد والمعوقات. مجلة جامعة أم القرى للعلوم الاجتماعية، 12(2). 41-1.
الفاسي، هتون. (2009). المعوقات التشريعية لمشاركة المرأة السعودية الاقتصادية. منتدى المرأة الاقتصادي (المرأة شريك التنمية).
القرني، نورة. (2019). المعوقات التي تواجه القيادات الأكاديمية النسائية في الجامعات السعودية الناشئة وسبل التغلب عليها من وجهة نظرهن. كلية الدراسات العليا للتربية، 27(4)، 412-392.
القلا، منار. (2020). معوقات تمكين المرأة في التنمية. الجمعية المصرية للقراءة والمعرفة، (229)، 362-333.
مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية. (2016). وثيقة رؤية المملكة العربية السعودية 2030. السعودية.
مرسي، شيرين؛ والبكري، سحر. (2021). جهود تمكين المرأة في جامعة طيبة.: مركز تمكين المرأة أنموذجًا. دراسات عربية في التربية وعلم النفس رابطة التربويين العرب، ع (129)، 390-337.
المنقاش، سارة. (2017). تسرب القيادات النسائية من المناصب القيادية في الجامعات السعودية الأسباب والحلول. مجلة النشر العلمي، 31(123)، 238-183.
مؤسسة دبي للمرأة. (2021). المرأة العربية والقيادة. تم الاسترجاع بتاريخ 25/ابريل/2021 من الرابط https://dwe.gov.ae/publications/arab-women-leadership-outlook-dwe-pwc
الهيئة العامة للإحصاء. (2021). تعداد السكان والمساكن. تم الاسترجاع بتاريخ 25/ابريل/2021 من الرابط https://www.stats.gov.sa/ar/43
لقد خطت المراة خطوات نحو القمة في ظل الوضع الراهن